في البداية، وقبل أن نقول أي شيء عن موضوع هذه الحلقات، وهو تعريب العلوم الحديثة، فلنرى ما هي أهمية اللغة - كلغة - هل هي للـ"تواصل" فقط، أم أنّها أكبر من ذلك؟
يدّعي الدكتور عادل مصطفى تحت يافطة "خطورة القضية اللغوية":
"(تولد كل الأجنّة عاريةً إلا جنين الفكر فيولد متلبساً باللغة) تعست فكرةً رانت على البشر دهوراً تقول إن اللغة مجردُ وسيلةً للتعبير عن الفكر ونقله إلى الآخرين، تَعرضُ له من خارجٍ وهو تامٌّ مكتملٌ كأنها غلاف هديةٍ أو كساءُ البدنٍ أو وعاءُ السائل. إنما شأنُ اللغة أبلغُ من ذلك خطراً وأبعدُّ نفوذاً وأشدّ هولاً. اللغة هي ذخائر المقولات وخزائن المفاهيم، بحيث يستحيل عليك ان تفكيراً مركباً ثرياً بلغةٍ ساذجة فقيرة. اللغة هي "دالّة الفكر" ونماذجُ الرؤية، بحيث لا تملك أن ترى من العالم إلا بقدر ما تسمح لك لغتُكّ أن ترى. اللغة هي حاملة العالم، وأطلس الوجود، بحيث لا يجانبك الصوابُ إذا قلتَ إن حجم وجودك هو حجم لغتك" (ص 17-18).
وفي طوال الكتاب يحاول الكاتب مراراً وتكراراً أن يؤكد هذه الصورة في أذهان قارئيه، ولكن أكثر الظواهر هولاً التي يرصدها هو أنّ أحد أسباب الإزدواجية الإجتماعية (في الفكر قبل أن يكون بين طبقات الناس) هو الإنشطارات بين الفصحى والعامية، مقتبساً الشيخ أمين الخولي:
"[المجتمعات العربية] تحيا وتشعر وتتعامل وتتواصل بلغةٍ يومية مرنة نامية متطورة مطاوعة، ثم هي تتعلم وتتدين وتَحكِم بلغةٍ مكتوبة محدودة غير نامية، لا تطوع بها الألسنة وتتعثر فيها الأقلام. وهذا الإزدواج اللغوي القهري يصدع وحدتها الإجتماعية ويفرقها طبقاتٍ ثقافية وعقلية; وبهذه الوحدة المرضوضة الواهنة تمارس الحياة العملية وهي خائرة التماسك فاترة التعاون إن لم تكن فاقدته.." (ص 272).
أقول: ولكلٍ ذي بصيرةٍ ان يأخذ نظرةً على متاريس وسائل التواصل الإجتماعي، التي تعبر من خلالها أخاديد العامية والفصحى، لكي يرى حجم هذه الهوة المخيفة.
هذا كلامٌ عن خطورة اللغة، مقدمة لما سيأتي فيه الكلام عن تعريب العلوم الحديثة.
يتبع ...
|