توطئة:
بعد التطورات الإقليمية والعالمية في مسالة إدارة موارد المياه وعدم اهتمام الجانب العراقي من مسؤولين او مواطنين بأخذ التخطيط الاستراتيجي لموارد المياه كهدف آني ومستقبلي لمواجهة اخطار شحة المياه والغذاء، وبعد مطالباتنا المستمرة في ورش العمل والمؤتمرات الخاصة بموضوع الشحة المائية وتردي نوعية المياه وخصوصا في البصرة باعتبارها منطقة مصب، وغض المسؤولين في وزارة الموارد المائية في بغداد الطرف عن مطالبنا وإلحاحنا المستمر بتشريع قوانين الحفاظ على الثروة المائية من الهدر والتلوث وتأسيس مجلس فيدرالي اعلى للمياه يمثل كل سكان العراق بعيدا عن التحزبات القومية او الدينية او الطائفية.
وجدنا من الضروري نقل بعض الحلول التي طبقت في بلدان أخرى (عربية واجنبية) عانت وتعاني من مشاكل شبيهة بمشاكلنا (بل واسوأ منها)، الا انها بعد تطبيق مبدأ حوكمة المياه وتأسيس مجالس وطنية لإدارة موارد المياه في بلدانها نجحت في تخطي هذه الصعاب ومعالجة مشاكل الفقر واضطهاد المرأة في سوق العمل الزراعي.
لذلك نرى طرح هذا الموضوع للنقاش الوطني لكافة الشرائح المجتمعية لتقرر مصيرها ومصير الأجيال القادمة خصوصا والفرات على وشك النضوب في عام 2027 على اسوا التقديرات، ودجلة تمت سرقة أكثر من نصف وارادته المائية خارجيا وداخليا وتلوث الجزء المتبقي بمخلفات المياه الصناعية والاستخدامات البشرية، والبصرة هي الخاسر الأكبر من هذا الإهمال.
مقدمة:
من مجموع سبعة مليارات نسمة وهم سكان الكرة الأرضية في الوقت الحالي، يعاني حوالي 1.1 مليار نسمة منهم من نقص او عدم توفر المياه الصالحة للشرب، بينما يعاني حوالي 2.6 ملياراَ منهم من انعدام خدمات المجاري، والعراق باعتباره جزءا من المنظومة العالمية يعاني من هذين العاملين منذ عهود طويلة ولكن الازمة اشتدت وتفاقمت في العقد الأخير من هذا القرن بسبب ما يعانيه البلد من عدم استقرار سياسي واداري ونقص في الموارد المالية بسبب انخفاض أسعار البترول فضلا عن عوامل الفساد التي نخرت بنية المجتمع العراقي ودمرت جميع مرتكزاته الصحية والتعليمية وبناه التحتية، والمياه باعتبارها شريان الحياة في كل مجتمع عانت من هذا التردي والتراجع بسبب التجاوزات على مصادر وخطوط نقل المياه او طرح مخلفات ونفايات المصانع والمنازل الى القنوات النهرية دون خوف او رادع من رقيب او حسيب.
وليست حالة العراق فريدة بين الدول، بل ان هناك دولا عانت من هذه التعقيدات (بل اشد منها) الا انها تخلصت من ذلك باستخدام الإدارة الرشيدة لموارد المياه وتطبيق المنهجيات العلمية في إدارة وتوزيع المياه ومنها أسلوب حوكمة المياه Water Governance.
فماهي حوكمة المياه؟
وبعد التطورات الأخيرة في مسألة إدارة المياه وظهور مصطلح الإدارة المتكاملة لموارد المياه Integrated Water resources Management (IWRM) برزت الحاجة الى اشراك جميع الاختصاصات العلمية من هايدرولوجيين وجيولوجيين وبايولوجيين ومهندسي موارد مياه ومهندسين مدنيين واقتصاديين وخبراء سياسيين واداريين محترفين في مسألة إدارة موارد المياه وتوزيعها بصورة عادلة على مستحقيها وكذلك صيانتها من التلوث والاستنزاف النوعي والكمي.
ومن اهم مبادئ العدالة في توزيع المياه هو إقرار مبدأ حوكمة المياه Water Governance والذي هو عبارة عن مجموعة من النظم المؤثرة في عملية اتخاذ القرارات الخاصة بإدارة المياه وخدمة التزويد المائي. او هي ببساطة "فكرة تحديد مَنْ يحصل على المياه ومتى وكيف يحصل عليها".
وغالبا ما تنطوي هذه القرارات على عنصر سياسي هام خاصة في المناطق التي تتسم بوجود تنافس حول موارد مياه محدودة، وبالتالي فأن نظم حوكمة المياه تعكس عادة الواقع السياسي والثقافي على المستوى الوطني (مستوى الدولة او البلد) والإقليمي (أي الأقاليم الادارية او المحافظات ضمن نفس الدولة) والمحلي (ونعني بها الوحدة الإدارية للمدينة او القضاء او القرية).
وتكون حوكمة المياه أكثر فعالية بوجود ومشاركة واسعة لأطياف المجتمع المدني بما فيها المنظمات المدنية المجتمعية والمنظمات غير الحكومية Non-Governmental Organizations(NGO) والقطاع الخاص والاعلام بحيث تشكل ائتلافاَ لدعم قرارات الحكومة والإدارات المحلية والتأثير فيها.
أهمية الحوكمة المائية:
وبتصاعد حدة التنافس على المياه ستتعقد مهمة الساعين لإيجاد حلول تقنية لمشكلات المياه فتبرز المفاضلات بين الفوائد والنفقات لمختلف المجموعات مما يتطلب الاهتمام بإدارة الطلب وتطبيق الأنظمة وتشريع القوانين، وتتعاظم فرص نجاح الحلول ان خُطٍط لهذه التوجهات وطُبقت كجزء من تحسين الحوكمة المحلية للمياه باتجاه حل مشكلات التوزيع وخدمات التزويد للمياه.
خصائص الحوكمة المائية الفعالة:
تقتضي حوكمة المياه فضلا عن البيئة السياسية الداعمة وجود التزام مشترك من قبل الدوائر الحكومية ومختلف الناشطين في مؤسسات المجتمع المدني والقطاع الخاص، وقد صدرت العديد من الارشادات والكتب الدلالية Manuals لتوضيح هذا المفهوم من قبل الأمم المتحدة ومنظمات العناية بصيانة موارد المياه واستخداماتها ومنها دليل امباورز او منهجيىة امباورز EMPOWERS Methodology الذي اثبت نجاحه عند تطبيقه في الهند ودول شرق آسيا وفي مصر والاردن، وتركّز الارشادات المدرجة في هذا الدليل على الحوكمة في المجالين المحلي والإقليمي، وتتضمن الخصائص الاتية:
1. التخطيط التكاملي: ويعني الحوار مع المعنيين من نفس المستوى عند التخطيط لأجل صنع القرار الملائم لإدارة الوضع المائي ضمن المجتمع المحلي.
2. العمليات التشاركية: ومعناها سماع آراء كافة المواطنين حول الموضوع.
3. الشفافية: حيث يجب ان تكون المعلومات متبادلة بحرية بين فئات المعنيين وتكون عمليات صنع القرار شفافة ومتاحة للجميع.
4. التركيز على تخفيف الفقر: وهنا يجب ان تراعي الإدارة المائية (بمختلف مستوياتها) وضع استراتيجيات مقبولة وقابلة للتنفيذ للتخفيف من حدة الفقر.
أسباب التركيز الحوكمة في المجالين المحلي والإقليمي:
لهذا التركيز أسباب عدة من أهمها:
1. الايمان بأن الإدارة المائية المستندة الى توافق ومشاركة مستخدمي المياه هي الإدارة المستدامة للمياه.
2. ان يتم اتخاذ غالبية القرارات اليومية حول خدمات التزويد بالمياه على المستويين المحلي والإقليمي.
3. غالبية الاهتمام بحوكمة المياه تتسم بالطابع النظري، وعندما يصبح الاهتمام عمليا فأن ذلك سيقتصر على المستويات العليا (الدولية او الوطنية والاحواض النهرية).
لذلك يوجد نقص في الأدوات العملية الضرورية لتطبيق الحوكمة المائية خاصة على المستوى المحلي.
فما هي الحلول؟
من وجهة نظر منهجية امباورز هناك دعامتان اساسيتان لتطبيق هذه المنهجية(شكل-1) هما:
الدعامة الأولى: منهجية أسلوب اتخاذ القرار
وهي عبارة عن عملية الحوار والعمل التوافقي بين صُنّاع القرارات والناس المعنيينStake holders Dialogue and Concerted Action والذي يجب ان يجري بين المعنيين بالشأن المائي على اختلاف مستوياتهم المؤسسية (وطنية او محلية) (شكل-2). كما ان نجاح الحوار والعمل التوافقي بين المعنيين يتطلب جهودا كبيرة من قبلهم نظرا لاختلاف دوافع واهتمامات هؤلاء المعنيين وتباين مستويات القوة فيما بينهم.

شكل-1: دعامتا منهج امباورز

شكل-2: المعنيون بالحوكمة المائية بين مختلف المؤسسات
الدعامة الثانية: دورة الإدارة المائية
وهي عبارة عن دورة تتكون من مراحل ست تسعى لتنظيم وارشاد حوار المعنيين خلال عملهم التوافقي(شكل-3)، وتؤكد المنهجية على:

شكل-3: الإدارة المائية ذات المراحل الست
- انخراط المعنيين في كافة مراحل الدورة هو امر لا غنى عنه.
- الإقرار بعامل عدم التأكيد Uncertainty الذي يكتنف معظم جوانب خدمات التزويد المائي وإدارة موارد المياه (خصوصا الطلب المستقبلي على المياه).
ويُعالَج هذا التحدي من خلال بناء السيناريوهات حيثما كان ذلك ضروريا في أية مرحلة من مراحل دورة الإدارة المائية. |