•• يتهافت اهل السلطة عليها ، ويطلبونها بالحق والباطل ، وما ان تنحاز اليهم ، حتى تستحيل الى مقبرة موحشة ، يُدفن فيها الضمير ، والاخلاق ، والدين إلا ما رحم ربي .
يتهافتون عليها تهافت الفراشات التي يتحدث عنها الشعراء ، حين تقتفي اثر الضوء ، وما ان تصل اليه حتى تحترق بناره .
رغم صعوبة الاهتداء الى رأي ديني او تأريخي نهائي عن عدد الأنبياء ، الا ان الروايات الأكثر شهرة بين المحدثين ، تقول انهم مائة واربعة وعشرون نبياً ، منهم ثلاثمائة وبضع عشرة رسولاً ، لم يذكر منهم في القرآن غير خمسة وعشرين ، ذُكر ثمانيةَ عشرة في سورة الانعام ، والبقية متفرقون على سُوَر القران الكريم الاخرى .
ومن بين كل هذا ألكم الهائل من الأنبياء ، الذين يتمتعون بالقوة ، والعزم ، والحكمة ، والتدبير ، والنزاهة ، والاخلاق ، لم يمارس السلطة منهم الا اثنان ملكوا ملكاً ، وآخر طلب ان يكون وزيراً في دولة الملك الفرعون .
ومقابل ثلاثة عشر سنة من الاضطهاد في مكة ، لم يحكم نبينا نبي الإسلام (ص) غير عشر سنوات في المدينة كانت هي الطريقة الوحيدة التي يحمي بها رسالته ، ومشروعه ، واصحابه ، من مذئبة القبائل العربية الجاهلية ، والامبراطوريات العالمية الغاشمة .
لان فلسفة الحكم في الاسلام انه يطلب لغيره ولا يطلب لنفسه.
وغير هؤلاء الكاملين ، جاهد اهل النقص ، والمشوهين ، والقتلة ، والسفاكين ، والدهاة ، والشياطين ، من أجل الوصول الى السلطة والاستحواذ عليها ، والامتلاء منها ، مالاً ، وسلطاناً ، وجاهاً .
تفعل السلطة بصاحبها ، ما لا يفعله أي تحول آخر في حياة الانسان ، وتضطره الى التخلي عن أغلفته الكثيرة ، مهما بلغ سمكها قبل ذلك ، فيظهر امام الناس والتاريخ عارياً إلا من من قميص السلطة .
يركض اليها الكثير الكثير من طلابها ، فلا يصل اليها منهم الا القليل ، بعد ان تكون قد طحنتهم الحروب ، والخيانات ، والمؤامرات . ثم لا ينجو ممن وصل اليها الا القليل .
يفتقد طلاب السلطة لذاتها محبة الناس ، وراحة البال ، ونوم الليل الهانئ . فهم لا ينامون كما ينام الناس .
كان احد أظرف الرؤساء في السودان يسهر طوال الليل ، حتى اذا حانت الساعة السابعة صباحاً ، وذهب الموظفون والعمال ورجال الدولة الى أعمالهم ، واطمأن على الجيش ، ذهب هو لينام ! فقيل له في ذلك ؟ فقال : ان كل الانقلابات التي حدثت على الرؤساء قبلي حدثت في الليل ، لذلك اقضي الليل اتابع اجهزة الدولة بحذر حتى اذا طلع الصباح ذهبت الى النوم !!
كان أفلاطون يرى ان اغلب الناس يصيرون اشراراً عند السلطة ، لكن من جاء بعده بقرون لاحظ ان رأيه في كتاب الجمهورية بحاجة الى تعديل ، بعد مناقشة هل ان السلطة هي من تجعله شريراً ، ام ان الشر كان يمثل حقيقته الجوانية الغاطسة التي أخرجتها مقدرات السلطة الى السطح ؟
قدم مونتسكيو اشهر الاراء حول هذه الاشكالية حين قال : اذا أردت ان تعرف اخلاق رجل فضع السلطة في يده ثم انظر كيف يتصرف .
وقد ورد في الرواية عن رسول الله ( ص ) : ما ذئبان ضاريان أُرسلا في زريبة غنم ، بأكثر فساداً فيها من حبّ المال والجاه في دين الرجل المسلم .
وفي رواية عن الامام زين العابدين ( ع ) :
أنّ من الناس من خسر الدنيا والآخرة !!
يترك الدنيا للدنيا !
ويرى ان لذة الرئاسة الباطلة افضل من لذة الأموال والنعم المباحة المحللة !!
فيترك ذلك اجمع طلباً للرئاسة .
احد عشر معصوماً من أئمة اهل البيت عليهم السلام ، بهم بدأ الله وبهم يختم ، لو جمعت أعمارهم كلها تجد( ٩١١ ) سنة شريفة ، ليس منها في الحكم سوى اربع سنوات وتسعة اشهر حكم فيها الامام علي ( ع ) في الكوفة ، كان شعاره فيها : ( إلا ان أقيم حقاً او ادفع باطلاً )
قال تعالى ( تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا ۚ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ )
كم أتمنى ان ارى في منامي ، رضوان خازن الجنة ، ومالك خازن النار ، لا لشئ سوى ان أسألهما : كم من اهل السلطة في الجنة ؟ وكم منهم في جهنم على اختلاف المراتب والدرجات .
اتفق المفسرون ان اللعن هو الطرد من رحمة الله ، فهل يرحم الناس ؟ حاكم مطرود من رحمة الله ؟
يقول الامام الصادق ( ع) :
ملعون من ترأس ، ملعون من هم بها ، ملعون من حدث نفسه بها .
ويورد المحدثون أمثال هذه الروايات تحت عنوان حرمة ترأس من لا يجد في نفسه العدالة .
والحقيقة ان إمام الحياة مثل امام الصلاة ، فلا خير فيه مالم يكن عادلاً ، عفيفاً ، طاهر القلب ، والبدن والثياب ، يستحق ان يُكبر قبلنا ونُكبر بعده .
قصة النعل البالي ، وقيمته ، وما قاله الامام علي( ع ) لابن عباس حين دخل عليه ، تذكرني بدخول آخر !
دخل بيلاطس أَيْضا الى دار الولاية ، وَدَعَا يَسُوعَ ، وقال له : أأنت ملك اليهود ؟
أَجَاب يسوع : "مَمْلَكَتِي ليست من هذا العالم ! لو كانت مملكتي من هذا العالم لكان خدامي يجاهدون لكيلا أُسلّم الى اليهود
لم يقضِ المسيح حياته ليجمع له خداماً ، لكنه كان خادماً
.للناس
شتان بين مشروع سلطة تخدم الناس ، ومشروع سلطة اخرى تستخدم الناس ! إنها تماماً ثنائية الخادم والمخدوم التي اسسها السيد المسيح في جوابه لهذا المحقق اليهودي الوقح .
يقود السلاطين الناس وفق ثلاثية لا تنفك عن السلطة الغاشمة والفاسدة :-
الاستخفاف بالناس
تخويف الناس
الابتعاد عن الناس
قال تعالى يصف فرعون ( فاستخف قومه فأطاعوه انهم كانوا قوماً فاسقين ) .
ونصح ميكافيلي اميره ان خوف الناس منك اصلح لك من حبهم لك .
وكان شارل ديغول يقول : لا هيبة للحاكم الا في الابتعاد .
يقضي بعض الحكام عمره الطويل وهو يعمل في السياسة ، ويكتب ، ويؤلف ، ويخطب ، ويتكلم عن تمثيل مصالح ملايين الناس . لكنه حين يصل الى السلطة يجد ان هؤلاء الملايين لم يبق منهم الا واحد : هو الحاكم ذاته لا غير .
لذلك رفع غاندي بوجه هؤلاء شعار :
( كثيرون حول السلطة قليلون حول الوطن )
|