خدعوني حين أخبروني إني بدوي قادم من الصحراء ,وأجدادي كانوا يجرون خلف جمالهم السارحة في الفلاة. مرة خدعوني حين أوهموني إني قادم من حضارة سد مأرب, وإني عراقي مهجن, لكني إكتشفت ,وحين كنت شابا جامحا. وبعد نهاية حروب العبث بين الجارين الحكيمين إكتشفت أني (معيدي) محترف, وسومري من أحفاد بناة زقورة أور. كنت أشاهد مجاميع من شيوخ العشائر والمسنين والرفاق البعثيين وهم يساقون كما تساق البهائم الى أهوار الجنوب في الجبايش والحمار والحويزة وأهوار أخرى ممتدة بين مدينتي العمارة والناصرية ليئدوا الحياة بمساعدة الجرافات, فكانوا يذبحون نبات القصب والبردي, بينما تقوم العجلات والجرافات بوضع كميات هائلة من التراب لبناء سدود تحجز المياه المغذية للأهوار , وأخرى لطمرالأرض ومنع أية فرصة لبزوغ الحياة النباتية والحيوانية ,وكنت أبكي ,فالأهوار, وتلك المسطحات كانت مهدا أولا لأعظم حضارة إنسانية عرفتها البشرية (حضارة الماء) الخالدة, وحتى حين حاول أعداؤها طمرها بجهلهم وتطرفهم وحقدهم الأعمى كنت أدعو الله أن يفيض نهرا دجلة والفرات ,وأن تسقط كميات هائلة من الأمطار عند المنابع في تركيا ,أو تسقط ثلوج كثيفة, ثم تذوب في الربيع ,فتعود الحياة الى تلك الأهوار الفاتنة, وتنق الضفادع مجددا ,ويعيش الجاموس حالة من التأمل, والصفنة الساحرة ,وتحلق أسراب الطيور المهاجرة تداعب الريح, بينما تتقافز الأسماك لتغري الصيادين بملاحقتها بشباكهم ومشاحيفهم التي تشق سكينة المياه الهادئة, لكن شيئا لم يحدث !وحين سقط النظام السابق, ودخلت قوات الإحتلال الأمريكي ,تأملت خيرا في عودة الحياة ,وظننت الخير بالقادمين الجدد الذين درسوا المعاناة وعرفوا ما ضام شعبهم في العقود المنصرمة, وإنهم سيعيدون الحياة لتلك المملكة السومرية الموؤدة .لكن واأسفاه فما تحقق لم يكن بمستوى عذابات الناس وأمنياتهم ..
مصيبة أخرى حلت بالأهوار تمثلت بالسياسات الجائرة لدول الجوار التي منعت تغذيتها بالمياه من الأنهر والمنافذ المائية المتجهة عبر حدود العراق, فكان الجفاف الثاني الذي حول كامل الأهوار الى صحراء هائلة ..
أحد المختصين عزا نجاح التجربة الأخيرة التي أعادت الحياة الى نصف مساحة الأهوار الى (معيدي) سومري نصح المبذرين والمفكرين والممولين وسراق المال العام, وكل الطامحين والطيبين, إن الفكرة بسيطة للغاية . سدوا الطريق على الفرات ليرتفع منسوب المياه ويعود الى مسطحات الأهوار ,وعلى الأقل أن لا يذهب ماؤه الى الخليج ويضيع .. الأهوار ممتلئة بالماء الجاموس يتأمل في مستقبل العراق الضفاع تنق ليل نهار القصب والبردي يغازل الريح والصيادون يرمون شباكهم أملأ في حصاد حياة الأسماك والمشا حيف تغني (آه يا ويلي) وهي تداعب الموج .. آه يا ويلي آه يا ويلي . |