صديقي خضير
كم اشتاق اليك في غربتي
اتذكر حين كنا نستغل ايام العُطل بزيارة مدينة النجف الاشرف ٥٠كلم عن مدينتنا الديوانية.
كل دربونة من درابين النجف و ازقتها كانت تحتضن مراهقتنا بروحية المكان و عبق التراث.
( شناشيلها، اصوات خطى المارين فيها من شيوخٍ يفوح من صاياتهم ريح المسك و العنبر و نساء محتشمات و اطفال تلعب على اعتاب البيوت القديمة، و نداءات الباعة المتجولين كانت من اعذب الاصوات الى مسامعنا ).
لم نكُ قد تجاوزنا سن ١٨ لكن كم كنا مواضبين على زيارة مقبرة النجف العظيمة نتغلغل قليلا بين شواهدها فتسكن ارواحنا متناغمة مع صمت اهل القبور و تحط انفعالاتنا رحالها في لحظات تأمل ما كنا ندري انه نوع من (اليوغا)
كم تاملنا محراب علي ع في مسجد الكوفة ،
سور المسجد القديم و رمله الكثيف نمشي عليه حفاةً نتنفس الصعداء و نلتفت الى بعضنا البعض فنضحك و لا ندري لماذا.
اظن اننا كنا ننتقل بمخيلتنا عبر الزمن فتباركنا ارواح عمار و سلمان و ابو ذر و قنبر التي تحوم في المكان.
اين انت يا صديقي بحثت عنك و لم اجدك ؟
اتذكر ؟
مدارس الحوزة العلمية التي كنا نزورها و نجالس مشيختها الافاضل ؟
اتذكر كم كنا متلهفين لاكمال دراستنا الاكاديمية للحاق بإخوة لنا في تلك الحوزات؟؟
كل شيء فيها كان محل اعجاب لنا
جدية الدراسة فيها، العيش على الكفاف و بساطة المأكل ، اجواء المودة و المحبة و الايثار بين طلبتها، احواض الوضوء التي تتوسط باحاتها، الانضباط و الهدوء و احترام الخصوصيات.) .
لا ادري يا صديقي
هل لازالت مدينة النجف مدينة التراث الاصيل ؟ ام انهار كل شيء بإنهيار (( عقال ثورة العشرين))
هل لازال للبحر الجاف الرهيب خشية في الصدور و روعة في الافئدة ؟
ام ان الفقراء قد ضاقت بهم ارض السلاطين
فافترشوه نازحين ؟
و المشائخ يا صديقي و السادات
هل هم على دأبهم العلمي؟ مدبرين عن الدنيا ؟
ام انهم تفرقوا بين ( منتحلي نيابة و سفارة) و بين (طالبي رياسة و ساكني قصور ) و ( مثرثرين في الفضائيات و الاعلام) .
كنت ارى العمائم كالحمائم تطوف بروحانيةٍ حول الضريح.
هل بقي من اهل الله فيهم ثلة ؟
ام ان اهل الله جُلهم قد تركوا المدينة مرابضين في الثغور، منهم من قضى النحب و منهم منتظِر ان يوارى ثرى غريها.
و كثرة المرجعيات المتنافسة بالعلم و الحلم و العرفان ! ما حل بها؟
أختفت معالمها ؟ ام ان تصارع الولاءات قد صَنَّمَ بعضها و استخف ببعض فإنزوت.
والحوزات
اما زالت المراوح السقفية و (المهفات اليدوية) رمزا للنزاهة فيها ؟
ام ان الوضع قد تحسن بالمكاتب المكيفة و الغرف الحديثة و السيارات المظللة ؟
هل صحيح ان صلاة الاجارة و اجرة صيام النيابة لم تعد تكفي طالب العلم المؤونة؟
ام ان موارد الدخل تطورت عند بعضهم فاجادوا السمسرة و الاتجار بالوجاهة.
و مادة الدرس الازالت تغريداتها البحثية مقصورة على حلقات الدارسين في الحوزات ام اصبحت مباحة للعامة و الساخرين على الفضائيات.
تلك الهيبة و تلك المدينة المزار و تلك القباب و التراث و الوقار
ما كنتُ منتظراً يومنا المشؤوم هذا كي ارى بركاتها سلعة رخيصة في مزاد الاعلام و الفضائيات و التواصل الاجتماعي
او كصورة معلقة في غُرف السياسة و صالات القصور كي تهبها الشرعية و التبعية.
آه و آهات يا صديقي
اخبرني ، هل جفت النجف ؟ ام انها ستحيى يوما من جديد.
٥/٨/٢٠١٦ |