 أعياد رأس السنة , من الأعياد التي كانت تقام في العصور التاريخية القديمة , لدى سكان بلاد الرافدين . وهي محل تقديس منقطع النظير , حيث تقام أنواع العبادات والطقوس والشعائر الدينية المختلفة , في فصل الربيع وتحديدا ًاليوم الأول من شهر نيسان , تأكيداً لأهمية الخصب في الطبيعة ومحاكاة لزيادة الإنماء و وفرة المحصول وهطول الأمطار على حدّ زعمهم . فكانت هذه الأعياد تدعى بالبابلية ( آكيتو ) أو عيد الربيع البابلي , ويُعد عندهم ــ الحدث الأكبر ــ و بالسومرية ( زكموك ) وفي الأكادية ( ريش شاتي ).
ولأنّ الوثنيّة هي الديانة السائدة آنذاك , لذا لم يُذكر في أدبيات هذه الأعياد , أيّ تضمين يشير الى ـ التوحيد ـ أو نفي الأضداد , بل كانت هذه الأعياد ( آكيتو ) تجسيد لتعدد الآلهة , وتكريس للوثنيّة , وبنفس الوقت تعزيز لسلطة الملك أو ـ الكاهن الأعظم ـ الذي يستمد قوته وسلطته من الإله ( الآلهة ) نفسها . وكان الانحراف الجنسي والمسمّى ( البِغاء المقدس ) , السّمة البارزة لهذا الاحتفال , والعلامة الفارقة له عن باقي الاحتفالات الدينية المعروفة آنذاك . إذ يقوم الملك والكاهن الأعظم , بتقمّص شخصية الإله تمّوز , بينما تقوم الكاهنة العظمى ( المحرّمة عليها الزواج أصلا ً ما دامت تشغل منصب الكاهنة ) بدور الزوجة بتقمّص الإلهة (عشتار) . إذ يتمّ الاحتفال في ( المعبد ) .
في بابل ..عَظُم شأن هذا العيد , وأخذ منحىً آخر . حيث أصبح ( آكيتو ) احتفالا ً لتمجيد الإله الغامض ( مردوخ ) تحديدا ً, وغدا من الشعائر الدينية المهمة . مردوخ : الإله ذي الهيئة البشرية ويحمل مجرفة ويلبس القرون الكبيرة , معناه ـ سيد الكون ـ أو ملك الآلهة . ويعتبرالإله الوطني لبلاد بابل بأجمعها . وقد عُبِد هذا الإله , حسب ما جاء بنصوص ( قصة الخليقة البابلية ) الأسطوريّة , منذ عصر فجر السلالات ، في أواسط الألف الثالث قبل الميلاد . حيث كانت تجتمع آلهة بابل , وبورسبا ( برس نرود ) , وإله المدينة ( نابو ) أبن الإله مردوخ , ليمرّ هذا الجمع من الآلهة على شكل موكب فخم بشارع الموكب المشهور , إلى معبد الإله مردوخ ( آيساكيلا ) لتحيي الإله وتعظمه , لكونه الإله الذي يقدر المصائر والأقدار للسنة الجديدة .
ويرجّح أن يكون معبد ( آيساكيلا ) : هو أول معبد شُيّد , بأول أرضٍ عُبِد بها وثن , وهي أرض بابل . يذكر د . طه باقر في كتاب ( مقدمة في ادب العراق القديم ) ص ـ 86 ـ وبعد أن يوجز أسطورة الخليقة المطولة " .. كانت الأرض اليابسة بحرا . ثم شيدت ـ أريدوـ وأقيم معبد( أي ـ ساكلا ) ( أي ساكلا : معبد الإله مردوخ في بابل ) " .
أمّا كيف إنّ الإمام علي (ع) حظر هذا العيد الوثني الفخم ( آكيتو ) أو ماذا فعل ليحول دون إحياء مثل هكذا عيد ؟. هنا تتجلى عبقرية الأمام ( ع ) , وتظهر للعيان درايته وحكمته العاليتين , رغم تقادم الأيام والسنين . فحينما فرغ الإمام ( ع )من قتال الخوارج بمعركة النهروان , مرّ بجيشه عام ( 38 هـ ) وهو في طريق رجوعه على أرض بابل . وقال قولته الشهيرة " .. إنّ هذه أرض ملعونة , قد عُذّبت في الدهر مرّتين وهي تتوقّع الثالثة , وهي إحدى المؤتفكات , وهي أوّل أرض عُبِدَ فيها وثن ، وإنّه لا يحلّ لنبيّ ولا لوصيّ نبيّ أن يصلّي فيها .. ". و كان قد حضرت احد أبنائه الوفاة هناك , متأثراً بجراحه التي أصيب بها بحرب النهروان , وهو ( عمران بن علي ـ ع ـ ) ودفنه على مشارف أرض بابل بالموقع الحالي الموجود بمدينة الحلة .
اكتشف حديثاً وظهر أن المرقد الشريف لـ ( عمران بن علي ـ ع ـ ) وبعد تنقيب المنطقة الأثرية من قبل علماء الآثار بالأرض المحيطة بالمرقد , أنه يجثم فوق معبد ( آي سيكيلا ) البابلي تماماً , وأن هذا المعبد مدفون أسفل المرقد الشريف , ممّا لا سبيل الى إظهاره للعيان !؟. وبهذا يكون الإمام علي ( ع ) ليس فقط قد حَظَرَ أعياد الـ ( أكيتو ) فقط , بل كان قد حَجَرَ على المعبد الوثني الأول بالتاريخ نهائياً , والتي كانت تجري به احتفالات اعياد ( آكيتو ) . من خلال اختياره لمكان دفن ولده الشهيد عمران ( ع ), ويودعه أرض بابل , كأنه يوكل لولده مهمة الدفاع عن ( التوحيد ) أمام الوثنية حتى بعد مماته . فعمران بن علي ( ع ) كان و لا يزال مرابطا ً , كجندي محارب على دين التوحيد , أمام إحياء هذه البقعة الوثنية ( معبد آيس يكيلا ) ذات الصيت الكبير باعتباره أول معبد وثني بأرض بابل في التاريخ .
فما بين جبهة مريدي إحياء هذا المعبد الوثني الغامض , تحت مسمّى أحياء التراث الحضاري لبابل الموغل بالقدم . وبين جبهة مريدي الحفاظ على التراث التوحيدي الإسلامي , المتمثل بالمرقد الشريف . هناك أخذ ٌ وردّ , تشتدّ حينا ً وتفتر احيانا ً اخرى .
ويبدو أن الأمر قد أشتدّ بين الجبهتين اليوم , واخذ طابعا ً جديّا ً , حينما وضعت تصاميم اعادة بناء مرقد عمران بن علي (ع ) الآيل للسقوط تماما ً , نتيجة تقادم البناء القديم , واجتياح المياه الجوفية لأسسه , حتى طفحت للسطح جهات رسمية وغير رسميّة ممانعة ومعرقلة لجهود إعادة البناء وصيانته . وقد بررت دائرة آثار بابل ( وهي من الجهات الممانعة للإعادة تأهيل المرقد ) من ان جهود إعادة بناء المرقد يؤثر سلباً على معالم المعبد المدفون تحته ويطمسها . الأمر الذي ينسف جهود تثبيت مدينة بابل الاثرية , في سجل أو لائحة التراث العالمي والانساني , ويسبب حرج كبير أمام منظمة اليونسكو لأنه يتعارض مع متطلباتها . وبالمقابل قد توقفت جهود التنقيب الاثاري , لأنه يمس بأسس المرقد الشريف .
وبهذا يكون المرقد , هو الوحيد الذي لم يطاله تأهيل او صيانه لبنائه منذ خمسينات القرن الماضي , وهو اليوم مغلق بوجه الزائرين , خوفا ً على سلامتهم لئلا تهدم عليهم قبابه , المتآكلة أسسها من الداخل . وربما ديوان الوقف الشيعي , ولعدم حراكه وجديّته بالموضوع , يتحمّل المسؤولية التاريخية والشرعية والقانونية الكاملة , فيما لو سقط المرقد الشريف وتهدم , ولات حين مندم !. وبهذا يكون أقطاب الجبهتين المتضادتين ( المتصارعتين ) كالآتي :
1 ــ الجبهة الأولى : دائرة آثار بابل + وزارة السياحة والاثار + منظمة الامم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة ( اليونسكو ) .
2 ــ والجبهة الثانية : الأمانة العامة لمزار عمران بن علي ( ع ) + دائرة العتبات المقدسة والمزارات الشيعية الشريفة + ديوان الوقف الشيعي . |