يبدو الشاعر سهلا وعابثا بأدواته عند القراءة للوهلة الأولى لأنه يتوسل لغة الحكي اليومي ذائبة في الشعري وذلك للخلاص من حصار النمطية جاعلا مساحة التأويل فسحة للتأمل. ففي القصائد القصار المتناثرة على بياض الديوان الأول للشاعر عبد الحسين بريسم المعنون (البريسم قصائد مخططة) الصادر عن دار الشؤون الثقافية/ 2001، يشتبك المتن الحكائي مع النسيج الشعري مستثمرا طاقاته التعبيرية من فن آخر مجاور هو فن الروي والديالوج مانحا للقاريء جوا عاما بهيمنة الصور والأخيلة الغريبة كما في قصائد (إستقالة، عالم الحيوان، زواج العاصفة..).. مؤكدا على التعامل الواعي للغته بمستوييها الأسلوبي والدلالي:
مروا عليه..
شعراء غيموا كثيرا
ولم يمطروا..
نرى في بعض ثيمات نصوص الشاعر جنوحا نحو البساطة الظاهرة واضعة أمامنا لغة مقروءة تقترب من دقائق الحياة العادية وبذلك تساعد على تحفيز طاقة القراءة لدى المستقبل الشعري.. ولكن الى أي مدى إستطاعت التوفيق بين شرطي البساطة في التناول والجرأة في الاقتراب من منطقة الشعري؟ ان السهولة رهان صعب والنيات الطيبة وحدها لا تكفي للفوز بالقارئ الذي يضفي على النص طاقة إدراك عالية وإلحاحا بحداثة الخطاب، ان الشعر هنا يؤسس للغة مفاجئة لكنه يضحي بالشكل لتوصيل المعنى مخلفا وراءه سخرية سوداء او مفارقة مؤلمة قد تتأرجح بين الصد والقبول:
العاصفة تلعب البولنغ
وأنا في الداخل
أسجل بالكامات أهدافها
وإذا عرجنا على القصيدة الأولى التي أفتتح بها الشاعر ديوانه فسنرى ان الرمز يصل إلينا بكثافة عالية وبأسلوب مقتصد، لكن طاقة الإفصاح تفترض معنيين متناقضية قد يصل أحدهما حد الصدمة:
مساء الخير أيتها الحشرة
نظرت –باحتقار- ضحكت
مساء الخير أيها الانسان
ان الحشرة المسالمة تنظر الى الانسان المعاصر بدونية وسخرية كتحصيل حاصل لماذا؟ ربما لانها تراه غير جدير بهذا العالم بسبب من نزوعه المستمر نحو الشر وما تعانيه الحياة الحديثة من فوضى وارباك نتيجة الحروب المستعرة في كل مكان، تقابلها في الجانب الآخر قوى تحاول قصم ظهر الانسانية بزجها في مشاكل مرعبة، ان إنشغالات البريسم في بعض قصائده المركزة انما هي انشغالات وهموم وجودية، دالا باصبعه على ان الانسا كائن على وشك الاندثار بسبب من حماقاته المتكررة في ابادة اخيه الانسان.. والقصيدة خضعت لمؤشر الدلالة العميقة فجاءت مكتفية بذاتها.
يقول أدونيس (ان القضية الاساسية في الحداثة لم تعد تكمن في كتابة الشعر وزنا او نثرا وانما اصبحت تكمن في الافق الكشفي –المعرفي الذي يؤسس له نص الكتابة- أسوق هذه العبارة لعلي أضيء بعض آفاق شعر البريسم فأقول: اذا توارى الشعري خلف واجهة النثر فأي عزاء يقدمه لنا الشاعر في قصائده؟ أنا أقترح ضمنا ان استعير عبارة سوزان برنار في كتابها المهم (قصيدة النثر..): (ان الوحدة والتكثيف والغنائية التي تعتمد ضمير المتكلم ثم المجانية وتعني بها الخروج عن كل ما يحد من زمنية القصيدة والسخرية والدعابة المرة فضلا عن فضاء القصيدة الذي يعني إنزياح لغتها عن المألوف من شرائط قصيدة النثر الحديثة) ان جل هذا متحقق في قصائد الريسم تقريبا ولكن هل حققت افقا كشفيا ومعرفيا حسب عبارة أدونيس آنفة الذكر؟ لقد حققت القصائد نصف مسافة الوصول (حسب رأينا) وهذا طبيعي لطراوة التجربة.
في بعض قصائد الشاعر عبد الحسين بريسم يعتمد نظام الكولاج متغلغلا في الغرابة ومستخدما عدسات مختلفة في التصوير، يقدم لنا في قصيدة (عائلة المستقبل) الناس والعلاقات والاشياء في اوضاع بشعة ومخيفة وباختصار العالم بطريقة كابوسية لكنه يستخدم الصور المجازية بأسلوب مقنع جامعا اللامعقول في اطار من التصديق:
إحداهن معلقة من أذنيها
الى السقف..
والآخر مشدود من لسانه الى
الجدار
ومع ذلك يتحدثان..
بشكل ممتاز
إنها صور مرعبة لكن الشاعر يقدها لنا بكل مودة وامتنان من خلال ايقاع سريع كاشفا لنا عن المشاكل السود التي يجاهد الانسان لحلها، الانسان في اقصى عذاباته ومحنه، انه يتدثر بالحياة المتاحة ويجعلها ممكنة التحمل وان السعادة متحققة بالقوة حتى في عالم مظم اخرق فالمرأة التي هي مصدر الخصب ورمز البذرة والمستنبت الخارجة الى عالم الموات مربوطة من إحدى ساقيها الى اعلى الشجرة تنجب اطفالا اصحاء حتى وان كان زوجها مدفوا في الطين والاخرى التي فقدت ذراعيها في غارة جوية تتبادل قبلات طويلة مع آخر فقد ساقيه في لغم أرضي، وأحسب ان الصور التي تقدمها لن القصيدة آنفة الذكر لا تحتاج الى تأويل او ذائقة معهودة حتى تنسب الى مرجعية معرفية لانها تقدم لنا نفسها بكل بساطة ويسر متنازلة عن الموسيقى المتحصلة بالثوابت الوزنية او ترتيب القوافي او حتى الهيمنة العاطفية المملة لكنها تمنحنا قراءة ممتعة في صفحة الوجود المستقبلي وهذا في حد ذاته كاف.
|