الكلّ يكاد يُجمع على أنّ ( الأسف ) الشّديد الذي أطلقته المرجعية الدينية العليا , عبر منبر صلاة الجمعة 8/1/2016 , ردّا ًعلى تقاعس السلطات الثلاث , عن مكافحة الفساد وملاحقة كبار الفاسدين والمفسدين , كان بمثابة جرس إنذار . وإنّ هذا الجرس قد رنّ حقا ّ بآذان جميع الزعامات السياسية العراقية الصمّاء , منذرا ًإياهم بالخطر الحقيقي , وخصوصا ًممّن يمسكون بالسلطة . ولأنهم منغمسون كليةً بالفساد , لذا لم تطاوعهم أنفسهم بالمرة . ومثل كل مرّة , وبالكاد جاءت ترجمتهم لصوت النذير, الذي ملئ الآفاق , بمبادرات واهية لا تسمن ولا تغني من جوع . فقدم هذا ورقة إصلاح للحكومة , من شأنها ( حسب زعمه ) أنها تحارب الفساد والمفسدين , متناسيا ً أنه جزء هام من هذه الحكومة الفاسدة . وقدّم ذاك حلا ً ظنّ أنّه ناجعا ً, هو اقتراحه إدخال العامل الدولي لمحاربة الفساد في العراق . وبين هذا وذاك يطلّ مجددا رئيس السلطة التنفيذية ( السلطة المتهمة رقم واحد بالفساد ) على الجميع وبدون أيّة مقدمات , ليعلن أنّ عام 2016 هو عام القضاء على الفساد .
و جميعا ً لم يكونوا إلا ّ كالذي يشيح بوجهه عن المرآة , لكي لا يرى قذارة وجهه , ويوهم نفسه و الآخرين , بأنه عمل ما يتوجب عليه عمله لتنظيفه !.
إنّ إصرار المرجعيّة على مطالبتها لمكافحة الفساد والمفسدين , لم يكن وليدة اليوم , وإنما هي مسيرة طويلة ابتدأتها المرجعية منذ عام 2003 ولغاية 8/1/2016 الخطبة التي أعلنت بها صراحة عن أسفها الشديد , لعدم تحقق شيء من الإصلاح الحقيقي على أرض الواقع (وهذا أمر يدعو للأسف الشديد , ولا نزيد على هذا الكلام في الوقت الحاضر ) ,
والمتتبع لهذه المسيرة يرى أن الخطاب الإصلاحي , ومنذ انطلاقه أخذ منحىً تصاعديّا , من ناحية الشّدة واللين , مارا ً بمحطات من الممكن أن نصفها بأنها ذات ــ نقلة نوعيّة ــ بالخطاب تجاه السلطات الثلاث نحو مكافحة الفساد . وإذا ما أخذنا تاريخ إعلان فتوى الجهاد الكفائي في ــ 13 / 6 / 2014 ــ ضد عصابات داعش , كحد فاصل بين فترتين في الخطاب الإصلاحي . ( قبل ) الفتوى ونراها متّسمة باللين , و ( بعد ) الفتوى , حيث نراها متّسمة بالشّدة الغير معهودة , متضمنة أحيانا ً التلميح إلى جهات بعينها , والتصريح بها أحيانا أخرى .
ـ فخطاب المرجعية يوم ــ 28/ 11/ 2014 ــ أي بعد خمسة أشهر من إعلان الجهاد الكفائي ضد عصابات داعش المجرمة . تَضمّنَ اللإنطلاقة الصريحة الأولى , لإعلان حربها على الفساد والمفسدين , حيث وجهت كلامها المباشر إلى السياسيين العراقيين كافة ( فقد آن الأوان لسياسيينا ولكل من يعمل في مؤسسات الدولة ..) من أن يأخذوا الدروس والعبر من المقاتلين وهم يقاتلون ( داعش ) في الجبهات , وعكسها حربا ضد الفاسدين في جميع مفاصل الدولة , وكذلك تطهير الدوائر الأمنية والمدنية منهم , وإن كانوا في مواقع مهمة في هذه المؤسسات .
ـ بينما وبعد ثمانية أشهر , أي في يوم ــ 7 / 8 / 2015 ــ دعت المرجعية الحكومة إلى اتخاذ قرار جريء , وصارم في مجال مكافحة الفساد , موجهة الكلام إلى رئيس مجلس الوزراء , باعتباره رئيس السلطة التنفيذية ( فيضرب بيد من حديد مَن يعبث بأموال الشعب ..) .
ـ ويمضي بعدها أكثر من عام , وتحديدا ً في ــ 25 / 9 / 2015 ــ نرى المرجعية تكشف ولأول مرة , وتبين للجميع من أن هناك جهات وقوى تمانع الإصلاح , بل تراهن على عدم الاستجابة , مستغلة فتور حدّة الغضب الشعبي المتمثل بالتظاهرات التي نادت بالإصلاح الحقيقي , محذّرة من أن مصير هؤلاء بالنهاية هو الندم , حيث قالت ( وليعلم البعض , الذين يمانعون من الإصلاح , ويراهنون على أن تخف المطالبات به , إنّ الإصلاح ضرورة لا محيص منها , وإذا خفّت مظاهر المطالبة به هذه الأيام , فإنها ستعود في وقت آخر , بأقوى وأوسع من ذلك بكثير ـ ولات حين مندم ــ !) .
والخطورة تكمن حينما ربطت المرجعية , المفسدين الذين بفضلهم , أتخذ الفساد أشكالا وأبعادا مختلفة , سياسية وأمنية واقتصادية واجتماعية وأخلاقية خطيرة جدا ّ , بظاهرة داعش وأسمتها بــ ( الظاهرة الداعشيّة ) . وهذا يعتبر نقلة نوعيّة بخطابها , وكأنها تريد أن تقول أن الضرر المتحقق , والواقع على المواطن العراقي البسيط , من قبل الفاسدين والمفسدين , لا تقل خطورة عن جرائم عصابات داعش , بل تماثلها وتفوقها خطرا في الأفق البعيد .
ـ ونظرا لعدم الاستجابة لدعوات المرجعية ومطاليبها , من قبل جميع القوى والفعاليات السياسية والحكومية , نراها تعود وبعد أقل من أربعة أشهر من ذلك الخطاب , وتحديدا ً في ــ 1 / 1 / 2016 ــ لتفضح أطرافا داخلية وأخرى خارجية , اتخذت من العنف وسيلة لتحقيق أهدافا سياسية , ووصفت مخططاتها تلك بالخبيثة ,واتهمتها بأنها جرّبت ـ الظاهرة الداعشيّة ــ التي أدّت ّإلى مزيد من الدّمار ( ثم جرّبت الظاهرة الداعشيّة , كوسيلة لتحقيق هذه الأهداف , وقد فشلت في كل ذلك ..) و شخّصت بشكل دقيق جدا , علـّة هذه الظاهرة التدميرية بــ ( إنّ بعض السياسات الخاطئة , التي انتهجتها بعض الأطراف الحاكمة , وسوء الإدارة , وتفشي الفساد , قد وفّر أجواءً مساعدة لنمو وتفاقم الظاهرة الداعشيّة !) .
فربط المفسدين بداعش , وجعلهم وكأنهم وجهين لعملة واحدة , وجعلهم متحدين بالنتيجة , على نحو الحقيقة هو الفساد في الأرض, ينذر من أن هناك وقفة ( مرجعية ) مأمولة في المستقبل , وصولة عظمى ضدهم , تدفع خطرهم نحو نحورهم , وتخلص البلاد والعباد منهم , كما فعلت مع عصابات داعش بفتوى الجهاد الكفائي . وقد ألمحت المرجعية إلى ذلك من خلال الإشارة إلى إقامة الحكم الرشيد . حيث قالت للقوى السياسية ( لا سبيل أمامها لإنقاذ البلد من المآسي التي تمر به إلا المساهمة في إقامة الحكم الرشيد ..) .
فالأسف الذي أبدته المرجعية مؤخرا , من شأنه أن يزلزل الأرض تحت أقدام جميع الفاسدين , مهما كان حجمهم في الدولة وفي المجتمع , ومهما كان دورهم ومكانتهم وقوتهم . ومن الحماقة الوقوف بالضدّ من إرادة المرجعية , ومن يفعل ذلك إلا ّ مَن سَفِه نفسه , (وهذا أمر يدعو للأسف الشّديد , ولا نزيد على هذا الكلام في الوقت الحاضر ) . ولا تزيد المرجعية على كلامها , في الوقت الحاضر كلام , ولكنها ستعاود ذلك , والله هو العالم حينها ماذا سيكون ردّها؟. فالقوى السياسية جميعها الفاعلة وغير الفاعلة , والممسكة بالسلطة وغير الممسكة لها , والرئاسات الثلاث جميعها بلا استثناء , أمام هذا الأسف ( المرجعي ) هي واحدة من أثنين لا غير :
1 ــ إما خائنة , تعمل بالضد من تطلعات الشعب العراقي ومقدراته ومصيره , لذلك وقفت وتقف بيد مغلولة , وبآذان صماء أمام دعوات ونداءات المرجعية الحقّة .
2 ــ وإما غبيّة . وغبائها هنا مركب , يفسر كل مظاهر السوء والنـّكوص والدّمار ,منذ التغيير والآن.
وما بين فرْض الخيانة والغباء , ترنو الأنظار , وتشرأبّ الأعناق نحو المرجعية الدينية العليا , وردّها الآتي , الذي لا يعلم ما هو إلا الله تعالى , ولكننا نعلم على نحو اليقين , من أنه لو صدر الردّ منها , سيكتسح الجميع ولا أحد بإمكانه الوقوف أمامه . |