في موقع كتابات في الميزان نشرت الكاتبة امل الياسري موضوع تحت عنوان : (جريح من الحشد: ما أبصرت إلا كلباً وقرداً وخنزيراً!).
في معرض تعليقي على هذا الموضوع فأنا لا أخاطب العقول التي كهربتها الثقافة المادية الالحادية الغربية (1) ولا التي هيمنت عليها الفلسفات الشرقية فرقدت تحت خيام الديالكتيك ، بل اخاطب عقولا انفتحت على مختلف الثقافات وانصهرت في تنوعها وحفظت للآخر حقه في اختيار ما شاء من معتقدات رآها مناسبة لوضعه التاريخي ، فلا تسفيه لرأي ، ولا تسخيف لمعتقد ، ولا سخرية من طقوس فلكل امة ما تؤمن به بحكم موقعها الجغرافي، فإذا رأيت أن هناك من يقوم بتسخيف وتسفيه معتقدات الآخرين والهزء منها فاعلم ان هذا الشخص مفلس تماما.
ما اريد ان اقوله هو هل هناك بشرا يرون الأمور على حقائقها التي تغيب عن كثير منا نتيجة لكثافة الحجب التي وضعناها امام الروح فقبعت تحت ستار كثيف من الأوهام الزخرفية الغير واقعية فأصبحت مرآته معتمة لا تنعكس فيها حقائق الاشياء.
من الناس من يرى في المنام اشكالا وصورا لأشخاص يعرفهم ولكنه يراهم في صور أخرى إما حيوانية او من الهوام والحشرات او حتى الجمادات ولربما في اشكال مرعبة فهم يمرون عليه في المنام على هذه الاشكال. ولكن هناك فئة من الناس تراهم في عالم اليقضة بأشكالهم وطبائعهم وما جُبلت عليه نفوسهم. فيرى بعضهم قرود ، والبعض آخر خنازير وأشكال أخرى فكل صورة تكمن خلفها طبيعة معيّنة فمنهم مثلا له دناءة الكلب ،أو خسة القرد أو نجاسة الخنزير ولكننا لا نرى صورته بل نرى سلوكه ، ولكن هناك من يرى سلوكه وصورته معا . ومن هؤلاء الاشخاص كان (السيد محمد البطاط) وهو اسير عراقي موجود معنا في معسكر مشهد المقدسة طريق القدس ثمانية حيث كان الجميع يعتقد بانه مجنون .
هذا السيد كان يجلس في الباحة الامامية للمعسكر حيث يتمشى الأسرى وعددهم بالالاف ، فكان يضحك كثيرا وهو يتطلع في وجوههم ، وتظهر عليه امارات الخوف عند مرور فئة معينة من الأسرى أمامه ، فقد كان معسكر الأسرى حافلا بمختلف انواع السلوكيات والانتماءات حيث الشيوعي والبعثي والمتدين (الدعوجي) والمستقل اضافة إلى الأيزيدي ، والصابئي ، والمسيحي والسني والشيعي والوجودي والالحادي ناهيك عن مختلف الاختصاصات والثقافات.
ومن هذا الخليط الغير متجانس كانت تظهر منافسات ونشاطات واختلافات تصل إلى القتل حيث تتشكل عصابات خطيرة جدا في معسكرات الأسر تستخدم وسائل غريبة في تصفية خصومها مثل الخنق بالوسائد وكتم الانفاس بغلق منافذ التنفس والاغتصابات الجنسية ، والضرب بأمواس الحلاقة. اضافة إلى رعيل خطير من نزلاء السجون ومن اعرق المجرمين ممن اُطلق سراحهم من سجن ابو غريب الاحكام الثقيلة في حملة (تنظيف السجون) التي قادها قصي صدام حسين سنة 1984 فزج بهم في آتون حرب القادسية حيث وقع عدد كبير منهم في الاسر فكان هؤلاء من أعرق اللواطين أو الدودكية والنشالة والمكبسلجية ومن ابرع صنّاع الخمور من بقايا الطعام. فكان لكل منهم (فرخه) الخاص به يُقامرون ويتراهنون ويصنعون الخمور ويُتاجرون بالمخدرات مع الجنود الإيرانيين المنحرفين وكثيرا ما تحصل الاشتباكات الدامية بحيث يتطلب حضور فرق عسكرية كاملة تتدخل لحل هذه النزاعات التي كانت تُتوج بالقتل وسقوط عشرات الجرحى.
من كل ما تقدم فإن السيد محمد البطاط ذلك الشاب الخجول الهاديء كان كثير الضحك حتى خاله الكثير بأن الجنون استحكم فيه .
كان السيد محمد البطاط لا يجلس إلا قربي حيث أني اجلس لأقرأ الكتب او أكتب بعض المقالات، او اتلو بعض الادعية بصوت جميل شجي واتأمل فيها حيث أرى السيد محمد يهدأ كثيرا ويرمي ببصره إلى الأرض عندما اقرأ هذه الادعية.
في يوم من الأيام قررت إدارة المعسكر نقل مجموعة من الأسرى إلى معسكر جديد تم افتتاحه وكان السيد محمد البطاط من بينهم، وفي يوم الوداع جائني السيد محمد مودعا فاستغللت فرصة وداعه وسألته عن سرّ ضحكه الدائم عندما يتطلع في وجوه بعض الأسرى ، فرفع بصره ونظر في وجهي مليا ثم قال : (خالي آني ما اكول لأي حد بهذا السر ولكني اقول لك ذلك فأنت انسان طيب تخاف الله ، يا خالي انا أرى بين الأسرى الكثير من القرود والخنازير والكلاب والتماسيح والافاعي والفئران). ثم أشار إلى بعضهم ممن أعرفهم بسلوكهم المشين المنحرف وكان أحدهم بعثيا عريقا ذو رتبة كبيرة في الجيش الشعبي، وكان يراه خنزيرا. فقلت له اصدقك خالي ولكن عندي سؤال آخر ؟ قال تفضل خالي .
قلت له : اخبرني بصدق وصراحة وأنا في أي صورة تراني؟
فتأمل في وجهي ثم نظر إلى الأرض وقال : خالي انت انسان طيب وشريف وهنا في هذا المعسكر الكثير من الطيبين الذين اراهم على صورهم الحقيقية لا بل ان بعضهم أراهم قطعة من النور تمشي في المعسكر ، ثم ودعني وانصرف.
((قل هل أنبئكم بشر من ذلك... من لعنه الله وغضب عليه وجعل منهم القردة والخنازير وعبد الطاغوت أولئك شر مكانا وأضل عن سواء السبيل)). المائدة : 60.
المصادر:
1- الثقافة الغربية وعبر أهم واجهة إعلامية (السينما) تقدم لنا يوميا عشرات الأفلام التي تحكي قصة الإنسان المسخ الذي هو على صورة حيوان،وهيمنت كذلك افلام الكارتون على عالم التلفزيون في قصص الحيوانات على شكل انسان يتكلم ويعمل ويتصرف وكأنه بشر ونظرية دارون أيضا تحكي لنا طرفا من ذلك عن قصة الانسان الذي كان قردا وارتقى ، او إنسانا انحدر.وكم من إنسان وصفناه في حالة العصبية بأنه قرد ، او خنزير ، أو كلب ، أو ذئب وهاهم الساسة الذين يحكموننا ننعتهم بأنهم تماسيح او حيتان ، وما ذلك إلا ان الروح تراهم هكذا. ولعل أهم امة واقدمها و(أذكاها) هي امة اليهود في اقدس كتاب لها (التلمود) حيث تحكي لنا قصة الإنسان الذي مُسخ حيوانا حيث انقلبت امم بكاملها إلى خنازير وسعادين وجرذان وحيوانات مختلفة. وحكاية المسوخ حكاية طويلة تبناها العلم والدين من خلال النظرية الثلاثية : (المسخ ، الرسخ ، الفسخ). |