من المهم أن تتخذ الحكومة العراقية عدة خطوات أولية تمهيدية، لكنها أساسية وحاسمة، تفتح الطريق لتكريس مفهوم المواطنة في الحياة السياسية والإدارية للدولة، ومن ثم ترسيخ قيم المواطنة في السياسات والتشريعات؛ بهدف تعزيز المساواة والوئام والتضامن في الفضاء الاجتماعي. وفي هذا الإطار، يحتاج السيد رئيس مجلس الوزراء إلى إصدار توجيه إلى مؤسسات الدولة كافة بالالتزام باستخدام مصطلح (المواطنون) في الخطاب الرسمي والكتب والأدبيات والوثائق الحكومية، ومنع استخدام مصطلحات مثل (مكونات، طوائف) عند الإشارة إلى العراقيين والعراقيات.
إن مصطلح "المكونات" يشير إلى الانقسام والتمييز والتفاوت والتفكك الاجتماعي، أما مصطلح "مواطنون" فيشير إلى المساواة والحقوق والواجبات والتنوع الثقافي والاندماج الاجتماعي.
إن مشكلة العراق الأساسية ليست في الإرهاب ولا الميليشيات ولا الفساد ولا التدخل الخارجي ولا النزاعات السياسية الداخلية ولا الأزمة الاقتصادية أو التراجع الاجتماعي .. هذه كلها أعراض خطيرة للمرض الأخطر .. المرض الحقيقي ومشكلة العراق الجوهرية تكمن في آفة "المكوناتية السياسية" .. المشكلة في التعامل مع العراقيين كـ"مكونات" دينية ومذهبية وإثنية متنابذة متطاحنة متناقضة المصالح والمشاريع، وليس باعتبارهم "مواطنين" لديهم مصلحة واحدة وانتماء وطني واحد وقيم مشتركة ومسؤوليات تقع على عاتقهم وحقوق مكفولة لهم جميعاً.
يفترض بالحكومة أنها تحترم التنوع الديني والمذهبي والإثني والتعددية الفكرية للمجتمع العراقي، وتصون الخصوصيات الثقافية والخيارات السياسية لكل العراقيين، لكنها ينبغي أن تتعامل مع شعبها كـ"مواطنين" مندمجين لهم حقوق وواجبات دستورية لا كـ"مكونات" متفرقة أو متناحرة من أجل السلطة أو المكاسب الشخصية والفئوية.
العقلية السياسية التي رسّخت وجذّرت وكرّست المكوناتية الدينية والمذهبية والقومية في العملية السياسية والخطاب السياسي وعملية بناء الدولة هي المسؤولة عن المأزق العراقي وهي المسؤولة عن أخطر ما يهدد العراق وهو تفسّخ النسيج الاجتماعي والتفكك الجغرافي والدخول في نفق مظلم من تحلّل الدولة واضمحلال المجتمع ..
العقلية المكوناتية هي التي تتحمل مسؤولية وجريرة تشكيل الدولة والمجتمع، سياسياً وإدارياً، نفسياً واجتماعياً، ثقافياً وقيمياً، هيكلياً وبنيوياً على أسس مكوناتية تمييزية تصنيفية تفكيكية انقسامية تقوم على الفكّ والعزل والتجزئة والخندقة والتفتيت ..
هذه العقلية هي المسؤولة عن الانهيارات السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي يعيشها العراق اليوم ..
كل الحلول تبدأ من الاشتباك مع هذه المشكلة/ الأزمة/ المعضلة/ الثقافة ومعالجتها .. إنها مشكلة "المكوناتية السياسية" في العراق .. إنها مشكلة الطائفية والطوائفية والأطيفة والتطييف ..
المسؤولية السياسية والأخلاقية والوطنية للسيد رئيس مجلس الوزراء هي العمل على بناء وبلورة وتشكيل تصوّرات العراقيين حول كونهم "مكوّن سكاني عراقي واحد" لا مكونات متقاتلة، وترسيخ هذا المفهوم في أذهان ونفوس العراقيين وعقولهم الفردية والجمعية عبر آليات الحوار المجتمعي المفتوح والحرّ والصريح، والخطاب السياسي والإعلامي والديني والثقافي، وسياسات الحكومة وقراراتها لأنها قضية تمسّ الأمن الوطني وسلامة المجتمع ووجود وسيادة البلاد ..
إن توحيد العراقيين في بوتقة اجتماعية وسياسية واحدة وهوية وطنية واحدة ومكون سكاني واحد لا يعني تذويب الخصوصيات والهويات الفرعية أو اضطهادها وتغييبها، ولا يعني كذلك العنصرية تجاه البلدان والشعوب الأخرى، لكنه يعني الشعور بالمسؤولية تجاه الذات والآخَر معاً وإدراك أن المواطنية والوطنية هي الخيار الأمثل لحقن الدماء وحفظ كرامة البشر وحقوقهم.
الأمر يحتاج إلى فلسفة جديدة، تترجم إلى رؤية جديدة، وتصاغ بدورها في خطاب سياسي جديد يهدف إلى تشكيل مشروع لأمة عراقية جديدة قادرة على المكوث والبقاء ومواجهة التحديات .. أمة منسجمة تتمتع بالمرونة والكفاءة الذهنية والنفسية والتماسك والوئام والتلاحم والتضامن لمواجهة أزماتها وإدارتها والتغلّب عليها .. سيكون بإمكان العراقيين أن يستجيبوا لهذا المشروع بمجرد أن يباشر رئيس الوزراء في بلورة "الإرادة السياسية" اللازمة للانطلاق فيه.
الأمر يتطلب أن يتعامل رئيس الوزراء مع المواطنين العراقيين في كل مكان في العراق بدون "وكلاء" سياسيين أو مناطقيين أو مذهبيين، وهذا ما يقوم به الدكتور العبادي حالياً بمنهجية لافتة تستحق الاحترام والدعم والمؤازرة، فرئيس الوزراء يجب أن يتعامل مع العراقيين بصورة مباشرة بدون "وسطاء" لديهم مشاريعهم الخاصة، وينبغي أن يتم ذلك من خلال خطاب سياسي وطني، موضوعي وشامل، إدماجي واندماجي، أخلاقي وتضامني، عام وعالي المصداقية، يصل إلى كل عراقي وعراقية. الدكتور العبادي ملتزم بهذا النهج كما هو واضح من أدائه السياسي وقراراته لكن الأمر يحتاج إلى استدامة وتطوير وفتح آفاق جديدة فقيادة الاندماج الاجتماعي والسياسي والمحافظة على التضامن الوطني وإدارة التنوع الثقافي في اللحظات الحساسة هي مثل القيادة العسكرية تحتاج إلى سيطرة دائمة ومسك للأرض وتكريس الانتصارات والمحافظة عليها.
إعادة إنتاج الذات الوطنية العراقية تحتاج إلى مشروع متكامل يهدف إلى تحقيق غايات تنموية واقتصادية واجتماعية تندرج ضمن ما يقول عنه الباحث الأردني إبراهيم غرايبة في مقالة له بصحيفة "الغد" الأردنية: "بناء تماسك اجتماعي يخفف من التوتر الاجتماعي والانقسامات الفكرية والدينية، ويجعل ممكناً لجميع التيارات والاتجاهات العمل والتأثير السلمي. فبغير هذا العقد الاجتماعي سوف تفقد الأسواق قدرتها على العمل وتلبية احتياجات الناس، وتزيد هشاشة المجتمعات، وتقوى الانتماءات العشائرية والدينية في المدن المفترض أن تتشكل حول المكان والمصالح، بل لن يكون هناك مدن ومجتمعات حقيقية، وإنما تجمعات سكانية عابرة وحذرة. ولا يمكن الحديث في حالة الخوف هذه عن استثمارات ومؤسسات تعمل، ومجتمعات شريكة في إدارة وتنظيم الموارد والمصالح". |