• الموقع : كتابات في الميزان .
        • القسم الرئيسي : ثقافات .
              • القسم الفرعي : ثقافات .
                    • الموضوع : بعد الغروب ... قصة الفقير الذي شق طريقه بالفأس بين الصخور . .
                          • الكاتب : خيري القروي .

بعد الغروب ... قصة الفقير الذي شق طريقه بالفأس بين الصخور .


وهي سيرة ذاتية للكاتب المصري الكبير (محمد عبد الحليم عبد الله) وهو احد كبار كتاب القصة العربية الحديثة , عاش الكاتب في القرية , وظلت اجواء القرية مهيمنة على اغلب رواياته التي لقيت رواجا عند القارئ العربي  . وترجمت العديد من رواياته الى لغات اجنبية , وتحول البعض منها الى افلام سينمائية كرواية (لقيطة) التي تحولت الى فلم سينمائي باسم ( ليلة غرام) وحازت روايته هذه (بعد الغروب) على جائزة الدولة في مصر .
تتحدث الرواية عن مقطع مهم من حياة الكاتب وهي كذلك انعكاس للواقع الاجتماعي والفوارق الطبقية بين الفقراء المحرومين والاغنياء المترفين في مجتمع ما بعد الحرب العالمية الثانية  والأزمة الاقتصادية التي اجتاحت العالم في ذلك الوقت .
  اراد له والده ان يدخل كلية الزراعة ليدير مزرعته المكونة من 15 فدانا وحين عاد الى اهله فرحا بحصوله على شهادة التخرج وجد الامور على غير ما كانت عليه .. تغيرت صورت ابيه وضللت سحابة من الحزن وجه امه , فأخبار العائلة لم تكن سارة بعد ان خسروا ارضهم المرهونة لحساب مصرف عجزوا عن سداد  دينه . فتحولت الاسرة من حال الغنى الى حال الفقر واصبح الولد المتخرج من الكلية هو طوق النجاة الوحيد للخروج من الأزمة . فحمله والده كتابا  من احد الوجهاء الى موظف كبير في وزارة الزراعة ليجد له وظيفة ولكنه يفشل في مسعاه ومرت عليه ايام في المدينة مظلمة سوداء . وحينما حاصره الجوع يذهب بمجموعة من كتبه ليبيعها في السوق , وبعد ان يصور لنا مشهدا للطريقة التي يتعامل بها اصحاب المكتبات مع الذين اجبرتهم الظروف الاقتصادية على عرض كتبهم للبيع بثمن بخس , يعلق بعد ذلك قائلا : ( شتان بين المادة والروح وبين الرأس والمعدة .. قد كنت لا استكثر الكثير ايام اشتريت هذه الكتب لعقلي , واليوم تراني أرضى بالقليل , لاني ابيعها لبطني..! ابيع تراث العباقرة برغيف , وقطعة من السمك , وحزمة من الجرجير ..!! وتنهدت ..) وبالصدفة وهو يطالع الجريدة اليومية يقرأ إعلانا صغيرا  يطلب فيه صاحبه عن حاجته لناظر يدير له مزرعته في الريف . ويسارع الشاب الذي ضاقت به سبل العيش الى عنوان صاحب الارض ليجد الكثيرين ينتظرون دورهم للمقابلة الى ان جاء دوره وتمت المقابلة وكل واحد يعطي عنوانه  وينصرف , مؤملا  نفسه بانه هو الشخص الذي سوف يقع عليه الاختيار . وبعد اسبوع جاءه ساعي البريد برسالة تخبره بانه هو الشخص الذي وقع عليه الاختيار , وذهب الى اهله يبشرهم بحصوله على فرصة عمل ويمكث عندهم اسبوعا قبل ان يسافر ليستلم عمله الجديد.
حزم امتعته واغلبها من الكتب واستقل من مدينة القاهرة قطارا سار به إلى الشمال ساعة من الزمن حتى وصل الى المكان المقصود (عزبة فريد بك) فوجدها كما وصفها له مالكها (جنة محتاجة الى رضوان, وارجو ان تكون رضوانها لا مالكها ) وفي طرف هذه الجنة الارضية يوجد منزل لمالك المزرعة يقابله منزل اخر لناظر المزرعة , والمزرعة مكونة من ثلاثة اقسام  , الغابة , وبستان الفاكهة , ومزارع الفلاحين المترامية الاطراف . على هذه البقعة من الارض يقع الحدث الاكثر اهمية في حياة الاديب الشاب , الحدث الذي يحدث زلزالا يذيب جبل الجليد المتخفي في اعماقه , ومن ذلك الوقت احس ان حياته الحقيقية قد بدأت (واياك ان تعجب مستبعدا ان حادثة واحدة تخلق شخصا , فان ابطال التاريخ وزعماء الشعوب ومن نعتوهم بأنصاف آلهه ولد مجدهم بعد حادثة واحدة فاندفعوا من نجاح إلى نجاح) .
ذلك الحدث الذي هز حياته هو وقوعه في حب ابنة مالك هذه الجنة التي أصبح راعيا  لها .. فمن هذه المرأة التي أرادة الاقدار ان تعترض طريقه في هذه الحياة ..؟ وما هي مواصفاتها ..؟
لنستمع الى رأي احد المزارعين الذي وضع نفسه في خدمة العائلة المالكة للارض : (كلنا هنا نتملق شخصا واحدا ونخطب وده ونستجدي رضاه  لانه المسير الاول لدفة الامور يقيم عندنا شهرا او اكثر من شهور الصيف, ثم يزورنا مفتشا مرتين او ثلاثا في كل عام , والويل ياسيدي لمن ابتلى بغضبه , عليه ياسيدي ان يحزم امتعته ويخرج مع الليل , واذا احب هذا الشخص عمي عن كل العيوب , ووثق بمن يختاره ثقة لا تنفصم عراها ... قلت : أهكذا خلق الاستاذ فريد ؟! فضحك وهو يحرك ملعقة في اناء الشاي ليذيب السكر وقال : عفوا..عفوا..انما اقصد ابنته الكبرى...اقصد الانسة اميرة... انها كل شيء )
وحينما التقى بها وجدها كما تخيلها ... فتاة ملأها الجمال والمال والدلال , قوة وأنفة وكبرياء , حتى انه لا يحتمل قوة مغناطيس عينيها حينما تنصب في عينيه , فتذوب نظراته في نظراتها كما يذوب السكر في الماء ..احبها حبا جارفا ولكنه لم يجرؤ على مصارحتها , لكنه يشعر بانها تبادله نفس المشاعر والاحاسيس , لكن أنفتها وعزة نفسها يمنعانها من الاعتراف بذلك .. ويشكي همه لصديق قديم له , فيقترح عليه مغازلة فتاة اخرى تماثلها في الجمال والمنزلة الاجتماعية , ان يثير غيرتها ليستخرج ما في داخلها , حينئذ سوف يسمع منها ما يرضيه . .ويطبق الشاب نصيحة صديقه كما يطبق المريض وصفة دواء  لا حبا في الدواء بل طلبا للشفاء من علة عذبته طويلا .
ونجحت التجربة نجاحا باهرا في اول فرصة سنحت له , فغضبت فتاته غضبا شديدا مع انه لا يوجد مبرر  لنوبة الانفعال التي تملكتها والتي جعلتها تقترب منه يشده رافعة يدها لتاخذ بتلابيبه وقبل ان تفعل ذلك اصفر لونها وارتجف جسدها  وخارت قواها فأسندها بكلتا يديه ليمنعها من السقوط وكانت تردد وهي في ذروة الانفعال : اني اكرهك ...اني اكرهك ..!!
استرجعت نظرتها واقبلت تقول : ( ذلك ما كنت اخشاه . حدت عنه طويلا ثم رأيتني في غماره فجأة كأنها الطوفان .واطرقت .. فامسكت كفها مترفقا وجعلت اهمس : اميرة . كفى . اشهدي المساء , واشهدي الطير , واشهدي الشجر , واشهدي الربيع , واشهدي الكون كله على حبنا فلقد لقينا في سبيله الكثير .. )
بعد ان ذاب الجليد المتراكم ما بين الحبيبين , طلب منها ان تسعى لوضع حل لمشكلتهما .. ووعدته ان تصارح أباها .. بعد ذلك كلما يذكرها بالوعد الذي قطعته على نفسها تلوذ بالصمت .. ويقرا في عينيها الخوف والحيرة والتردد . الى ان جاء اليوم الذي لا يمكن نسيانه . حدث ذلك عند الضحى حينما ذكرها بوعدها بوضع حل سريع لمشكلتهما وبعد حوار لم يطل بينهما قالت له بانفعال : ( لا ترهقني من فضلك , فلست على استعداد لمحاكمة طويلة ..! )
_ من حقي ان اتقاضاك بما يفرضه الحب , ولست اقصد الا انني اعرف سر تحولك .
فهبت قائمة وادارت ظهرها إلي كما تستدير اعصارا , ثم التفتت لفتة قصيرة وهي تغادر مكانها ,وألقت علي عبارة خيل إلي ان ارجاء الغابة اهتزت لها : لن استطيع  .. غير ممكن ان اتزوج رجلا ... واكملت وانا ساهم ماخوذ : رجلا فقيرا .. !!   ثم رأيت خيالها من خلال دموعي وهي تخرج من الباب نحو الساحة وكنت لا أزال لاصقا بالكرسي لا استطيع ان ازايله وشفتاي تهمسان : ايتها الغادرة ..!!
بعد عشرين سنة من وقوع تلك الحادثة .. نشر الكاتب روايته الأخيرة (بعد الغروب) والتي لاقت رواجا بين القراء اذ جاءته امرأة ما ان وقع بصره عليها حتى عرفها ..  لم يجري الزمان تغيرا كبيرا عليها .. لم يمح جمالها .. ولم يبطل سحر عينيها , وقفت أمامه ووضعت بين يديه مظروفا قديما حال لونه لقدمه وعلى المظروف ختم دائرة بريد قديمة وهي تقول : (هذا هو دليل براءتي) لقد سرني رواج روايتك هذه التي خلدتني بين صفحاتها , وساءني وصفك لي ب (الغادرة) ولم اكن كذلك للظروف الصعبة التي أحاطت بي ..
وحين قرأ رسالتها ..عرف سر صمتها وترددها في حبها له , فاعتذر لها عن سوء ظنه بها وهي كذلك اعتذرت له عن قسوتها معه في اخر لقاء معه لان ذلك كان ضروريا حتى ينساها بسرعة ويندمل الجرح ...
قصة بعد الغروب من روائع الادب العربي الحديث لما فيها من صدق فني في التعبير عن مشاعر الحب الحقيقي  الذي نكاد ان نفقده في هذا الزمن , ولما فيها من ايثار وتضحية , فبطلة الرواية ضحت بحبها وهوى قلبها حتى لا تخالف وصية والدها وهو في اخر لحظة من حياته .
 




  • المصدر : http://www.kitabat.info/subject.php?id=55012
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2014 / 12 / 14
  • تاريخ الطباعة : 2025 / 03 / 16