هذا البحث شارك في المؤتمر العالمي الذي اقيم في قم المقدسة 26/محرم/1435هـ،حول تكريم الشيخ الأصفي(دامت بركاته)
خلاصة الكتاب:
أولاً:موارد الدولة المالية
يمتاز النظام المالي في الإسلام ـ كما سنستعرض جانباً منه في هذا الحديث ـ عن غيره من النظم المالية بصلاحيته الواسعة لموازنة مواردها المالية بنفقاتها العامة.
والدول الحديثة تنظم نفقاتها عادة على ضوء من رصيدها المالي. وعلى العكس تماماً ، نجد أن الدولة الإسلامية تنظم مواردها المالية في حدود نفقاتها العامة ومصروفاتها.
وهذه الظاهرة تدل على وجود صلاحية فائقة في النظام المالي للفقه الإسلامي ، لمسايرة الحاجات المادية في المجتمع وتسيير المرافق العامة .. من دون أن يقع عبء هذه « المرونة » على كاهل الطبقة الفقيرة في المجتمع.
وسوف نعرض على القارئ ملامح من التخطيط الشرعي لموارد الدولة؛ ليلمس القارئ بنفسه هذه الصلاحية المالية مقرونة بالعدالة الاجتماعية.
ويمكننا هنا أن نقسّم الموارد المالية للدولة الإسلامية إلى أقسام خمسة :
1 ـ الدخل المالي الذي يرد الحكومة عن طريق الضرائب.
2 ـ الدخل المالي الذي يرد الحكومة عن طريق العقارات.
3 ـ الدخل المالي الذي يرد الحكومة عن طريق قيامها بنشاطات اقتصادية.
4 ـ الدخل المالي الذي يرد الحكومة عن طريق القرض.
5 ـ الدخل المالي الذي يرد الحكومة عن طريق ولايتها العامة على المواطنين.
ثانياً:التداول المالي الاسلامي
1 ـ سرعة التداول :
لا ريب أن « السرعة في التداول » مما يطلبه الإسلام في الثروات على نحو الإجمال ، ويمنع من تجميد الثروة وحبسها عن التداول والحركة في الاسواق ، في البضاعة والنقد على نحو سواء.
فالثروة ، في النظرية الإسلامية ، لابد أن تتصف بصفة الحركة والسيولة الدائمة في الأسواق حتى تؤدي دورها في تنشيط الحركة الاقتصادية ، وإشباع حاجات المستهلكين ، ومتى تتوقف الثروة عن الحركة والتداول في السوق ، وتفقد صفة السيولة
لا تستطيع أن تفي بدورها في تنشيط الأسواق وإشباع الحاجات الاستهلاكية المختلفة القائمة بأنواع الثروات المختلفة.
فحين يتداول الناس ثروة في الأسواق وتنتقل في الأيدي ، وتتضافر عليها الجهود ، تؤدي هذه الحركة إلى نمو عام في ثروة البلاد وواردها ، ونشاط وحركة قوية في الأسواق ، وإشباع الحاجات المختلفة. وبالعكس تماماً تضمير ثروة البلاد عندما تركد ، وتتوقف عن الحركة والتقلب في الأسواق في وجوه النشاط المالي ، كما تضطرب حياة الناس وتختل عندما لا تستطيع الأسواق أن تفي بحاجات الناس الاستهلاكية المختلفة.
ولذلك فقد أكد الإسلام على سرعة تداول الثروة في الأسواق بشكل عام.
فمنع من كنز النقدين ـ الذهب والفضة ـ وحبسهما من الحركة والجري في الأسواق ، وأمر بتوظيفهما في مجاري النشاط المالي وإنفاقهما في سبيل الله.
فقال تعالى :
« والذين يكنزون الذهب والفضة ، ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم » .
وبذلك فقد أكد الإسلام على ضرورة توفير عنصر السيولة 1 ـ سورة التوبة : 34.
والحركة في النقدين ، وشجع على توظيفهما في الأسواق وإنفاقهما في سبيل الله.
هذا في النقد ، وأما في البضاعة ... فقد حرم الإسلام احتكار البضاعة التي يحتاج إليها المسلمون في معاشهم ومأكلهم.
فعن رسول الله (ص) :
« ولئن يلقى الله العبد سارقاً أحب إليّ من أن يلقاه قد احتكر طعاماً أربعين يوماً » .
ومما يجدر الانتباه اليه هذه المقارنة في الرواية بين السرقة والاحتكار ، فان الاحتكار لون من السرقة لأرزاق الناس ومعاشهم ، ويزيد المحتكر على السارق أنه يغتصب أرزاق المجتمع ومعاشه ، بينما السارق لا يزيد على اغتصاب مال فرد أو أفراد معدودين.
فالثروة المحتكرة ، وإن كانت ملكاً لصاحبها ، ولكن من وجه آخر ملك للمجتمع أو حق له بحيث لا يجوز لصاحبه أن يمنع المجتمع من ابتياع هذه الثروة وصرفها في مصارفها ، فاذا شاء صاحبها أن يمنع المجتمع من هذه الثروة ويحبسها عن السوق فهو « سارق » يحرم المجتمع حقه في هذه الثروة.
ومن هنا كان الاحتكار أشد في نظر الإسلام من السرقة.
وقال ... (ص) : « أيّما رجل اشترى طعاماً فكبسه أربعين صباحاً ، يريد به غلاء المسلمين ، ثمّ باعه فتصدق بثمنه ... لم يكن كفارة لما صنع به » .
وكأنه تصدق بمال مسروق ، ومن الطبيعي أن الصدقة لا تكون كفارة للسرقة.
وقال ... (ص) : « المحتكر ملعون » .
وعهد أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام إلى واليه على مصر مالك الأشتر ـ رحمه الله ـ من أن « امنع الاحتكار ، فان رسول الله (ص) منع منه ، فمن قارف حكرة بعد نهيك اياه ، فنكل به (ص) وعاقبه في غير إسراف » .
وكذلك يجد الباحث من دراسة مجموعة النصوص الإسلامية في هذه المسألة ، أن الإسلام يطلب سرعة تداول الثروة ، ويمنع من تجميد الثروة وحبسها عن التحرك في السوق ، بضاعة كانت الثروة أو نقداً ، ويعتبر السيولة والتحرك شيئاً من طبيعة الثروة ، وحبس الثروة عن الحركة يعتبر تحريفاً للثروة عن أداء دورها الذي خلقها الله تعالى له.
2 ـ تحديد الثروة الفردية :
ومما يلاحظ في نظام التداول في الإسلام ، أن الفقه الإسلامي يحول دون تورم الثروة الفردية بصورة غير طبيعية.
وسلك في ذلك مسلكين؛ يندرج أحدهما في إطار « نظام التداول » ، الذي هو موضع حديثنا ، ويندرج الآخر في اطار « نظام المال » الذي سبق الحديث عنه في هذه الرسالة.
أحدهما يحول دون تورم الثروة من داخل أعمال الانتاج والتداول ، ويحول الآخر دون تورم الثروة من الخارج.
ففي المسلك الأول يلغي الإسلام شرعية المعاملات والأساليب الانتاجية التي تؤدي الى التضخم المالي في حقل الملكية الفردية ، ويعتبرها أساليب غير مشروعة في الانتاج والتداول كالربا والغش والمقامرة والرشوة.
( وأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ ، وَحَرَّمَ الرِّبا ).
( وَلا تَأكُلوا أَمْوالَكُم بَيْنَكُمْ بِالباطِلِ ، وَتُدْلوا بِها إلىَ الْحُكّامِ ، لِتأكُلوا فَرِيقاً مِن أَمْوالِ النّاسِ بِالاِثمِ ، وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ ).
في هذه المرحلة يضع الفقه الإسلامي قيوداً وحدوداً على أعمال الانتاج والتداول ، تؤدي إلى تقليص الوارد الفردي ـ إلى حد ما ـ والحيلولة دون تورم الملكية الفردية.
فان تورم الملكية الفردية ينشأ غالباً عن عدم تخطيط تشريعي .
صحيح لعملية الانتاج والتداول في مرحلة انتاج الثروة. وبهذه العملية يحول الفقه الإسلامي دون تضخم الثروة الفردية في هذه المرحلة.
وفي المسلك الثاني ، يحيط الفقه الإسلامي الثروة الفردية بسلسلة من التشريعات من الخارج ، بعد إنتهاء مرحلة الانتاج ، لتحديد الثروة الفردية ، وإعادة الفائض منها إلى الفئات الفقيرة والحاجات والمرافق الاجتماعية.
وهذه التشريعات ، هي الضرائب المالية التي يفرضها الفقه الإسلامي على الثروة بعد إنجاز إنتاجها.
وقد سبق أن استعرضنا هذه الضرائب بتفصيل في البحث عن النظام المالي ، في القسم الاول من هذه الرسالة.
ووجدنا هناك أن الغاية من التشريعات الضريبية في الفقه الإسلامي ، هي تقليص الوارد الفردي عن الحد المعقول في المجتمع وصرف الفائض منها في حاجات المجتمع ، وتعديل توزيع الثروة :
( كَيْ لا تَكُونَ دَوُلةً بَيْنَ الأَغْنِياءِ مِنْكُمْ ).
فالفقه الإسلامي اذن ، كي يحول دون تورم الثروة ، يحيط الثروة بسلسلة من التخطيطات والتشريعات الدقيقة في مرحلتين :
في مرحلة الانتاج ، ومرحلة التوزيع ، وفي كل من حقل تداول الثروة » و « نظام المال ».
كل ذلك دون أن يمس الفقه الإسلامي أصل الملكية الفردية ، فهي في نظر الفقه الإسلامي ، حاجة أصيلة ذات جذور بعيدة في حياة الفرد والمجتمع ، لا يجوز الغاؤها بحال من الأحوال ، وانما يجب تحديدها بصورة دقيقة ، لا تؤدي الى تعطيل الأجهزة الاقتصادية العامة في المجتع من القطاع الخاص.
3 ـ رعاية المصالح الإنسانية :
وهذه غاية أخرى من الغايات التي ينطوي عليها التخطيط الإسلامي في تداول الثروة.
فان الفقه الإسلامي ، لا يخطط لنظام التداول في المجتمع الإسلامي بمعزل عن ملاحظة المصالح الإنسانية المرتبطة بجهاز الانتاج والتداول ، وانما يعتبر هذه الاجهزة والمصالح مرتبطة بعضها ببعض ، ومتشابكة ، ولا بد من لحاظها جميعاً في التشريع كلاً لا يتجزأ.
ومن هذا المنطلق ، نجد أن الفقه الإسلامي يعالج مسألة التداول بشكل مرتبط بالمصالح الإنسانية ، فيلغي من المعاملات وأساليب التداول والانتاج ما يضر بهذه المصالح والشؤون الإنسانية ، فيحرم إنتاج آلات اللهو واخراج الافلام الخليعة ، وتصدير الكتب الضالة والمجلات الضارة ، وبيع الاسلحة للعدو وانتاج وتداول البضائع التي تسبب اضراراً للمجتمع كالخمر وآلات القمار وما يتصل بذلك.
وهذا التماسك التشريعي ، يلحظ في كل جوانب الفقه الإسلامي ويجد الباحث أن هذا الفقه في كل مسائله وأبوابه وحدة مترابطة لا يمكن تجزيئه وتفكيكه.
وهذا التماسك والترابط والتوازن في التخطيط والتشريع من خصائص التشريع الإلهي ».
« والقانون الوضعي » مهما كان ، لا يمكن أن ينطوي على هذه الوحدة الكلية في التخطيط ، فان العقل والعلم البشري لا يمكن أن يتسعا لمثل هذه الكلية الإنسانية ، التي تحتضن كل المسائل الإنسانية بشكل مترابط متماسك .
وبعد ، فهذا عرض موجز لهيكلية الكتاب "نظام المال وتداول الثروة في الاسلام "لفضيلة الشيخ محمد مهدي الآصفي والذي طبع ثلاث مرات من سنة 1965، حاولنا في هذه الدراسة المستعجلة بعد ذكر الخلاصة ان نركز على نكتة علمية مهمة ننطلق منها الى البحث وهي في مقدمة الطبعة الثانية من الكتاب هي "والكتاب الحاضر جهد متواضع في هذا السبيل ، في مجال البحث عن رأي الإسلام في مسألة سير المال في أجهزة الدولة وتداول الثروة ، توخّيت منه تبيان أن للإسلام رأياً صريحاً ومنهجاً محدّداً في كل من النظام المالي وتداول الثروة ، وأن هذا المنهج لا ينتمي الى أحد من المعسكرين المعاصرين في شيء ، وإنما يمتاز بما فيه من الأصالة والاستقلالية التي تميزه عن المذاهب البشرية الموضوعة.
وليس من حاجة تستدعي أن نلصق شريعة الله بهذا الاتجاه أو ذاك كي نكسبه اعتباراً وقيمة ، فهو شيء غير هذا وذاك وقد يلتقي به هذا أو ذاك في بعض خطوطه ، ولكن ذلك لا يعني انهما منه في شيء أو أنه منهما في شيء".
تمهيد
إن النظام المالي دور كبير في مجال تنظيم وحماية وحفظ أموال الدولة والممتلكات العامة من خلال تنظيم العمل المالي والمحاسبي للحكومة وإحكام الرقابة عليه، ولكن لغرض تحقيق ذلك بكفاءة وفاعلية فإن العمل المالي الحكومي لابد أن يستند على نظام محاسبي متقن يضمن تحقيق تلك الأهداف ، والنظام المالي الفعال في مجتمع ما هو النظام الذي يتكيف ويتشكل ويتوافق مع أهداف ومفاهيم ومبادئ ذلك المجتمع، لذلك يعتقد إن اعتماد المبادئ والنظم المالية من مجتمعات معينة وتطبيقها في مجتمعات أخرى تختلف عنها عقائديا وثقافيا واجتماعيا وحضاريا يقلل من هذه الكفاءة والفاعلية، وقد أثبتت الدراسات المحاسبية والتي أقر بها المختصون بمهنة المحاسبة في الدول الغربية والولايات المتحدة قبل غيرها ، أقروا أن المحاسبة المالية من النظم الاجتماعية المفتوحة التي تؤثر وتتأثر بشكل مباشر وغير مباشر بالمجتمع والبيئة اللتين تحيطان بها هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإن التراث الإسلامي يزخر بالكثير والعديد من الأفكار والمفاهيم والأسس والقواعد والمعايير والأحكام التي يمكن استخدامها أو صياغتها لبناء إطار فكري محاسبي إسلامي، يمكن تطبيقه في المجتمعات الإسلامية التي تختلف عن المجتمعات الغربية والشرقية على حد سواء عقائديا وثقافيا وحضاريا.
ومن هنا فإن هاتين المشكلتين أي وجود خصوصية للنظام المالي في أي مجتمع من المجتمعات ، وكذلك ابتعاد الحكومات الإسلامية عن التراث الإسلامي والجهل بالأحكام التشريعية التي جاءت بها رسالة الإسلام الخالدة التي تناولت فيها مختلف الجوانب والتنظيمات الحياتية والاجتماعية للإنسان، قد أديتا - أي المشكلتان-إلى وجود قصور كبير في النظام المالي (الحكومي) في المجتمعات الإسلامية ، لكون ذلك النظام لا يتميز بخصوصية لأنه في مجتمع إسلامي له معتقدات وثقافة وتقاليد وأعراف معينة ، ولكون ذلك النظام يفتقر وقد لا يحتوي على مفاهيم وأفكار ومبادئ الإسلام الحنيف، التي يعتقد أنها منشأ ومصدر لمعظم القواعد والمعايير المالية والمحاسبية المعاصرة المعمول بها في الوقت الحاضر.
من ذلك نرى ضرورة وأهمية دراسة النظام المالي الحكومي في التشريع الإسلامي ، ولعدة أسباب أهمها : أن النظام المالي في أي مجتمع ترتبط ارتباطاً مباشراً بالقانون والتعليمات والتشريعات الصادرة من حكومة ذلك المجتمع، ومن ثم فأنه منطقيا لابد أن ترتبط بالقانون الإسلامي (التشريع الإسلامي)، ولكون إن هذه المعايير إسلامية فهي تتناسب وتتوافق مع عقيدة وثقافة وتقاليد وحضارة المجتمع الإسلامي، علاوة على ذلك كله فأن مصدر تلك المعايير هو التشريع الإسلامي الذي يفترض بنا كمجتمع إسلامي أن نستند عليه في أمور حياتنا المختلفة ونطبقه بحكم اعتقادنا بالإسلام ومسؤوليتنا أمام الله تعالى ، وعملية التطبيق هذه إنما تدل على أصالة المسلمين واستقلالهم في تشريعاتهم المستمدة من القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة.
وعليه فإن البحث الحالي يقوم بتسليط الضوء على المحاسبة المالية الحكومية في التشريع الإسلامي،،في محاولة لتأصيل معايير المحاسبة المالية الحكومية المعاصرة على وفق النظام الاقتصادي الإسلامي، وفي ذلك نثبت أن النظام الإسلامي نظام واسع يحتوي على مجموعة كبيرة ومتنوعة من المفاهيم والمبادئ والأسس والأهداف والمعايير والأحكام ذات العلاقة بالعمل المحاسبي المالي الحكومي لذا يمكن اعتباره مصدر علمي مهم لبناء وصياغة نظام مالي حكومي، وأنه – في الوقت ذاته- نظام مرن يستطيع أن يستوعب التغييرات والتطورات الحضارية الحالية والمستقبلية ، ويضع الحلول والمعالجات المناسبة لها.
وقد قسمنا البحث الحالي الى محورين وتمهيد:
المحور الأول:النظام المالي الإسلامي، اما المحور الثاني الحركة المالية في النظام الاسلامي.
المحور الأول: النظام المالي الإسلامي
يعتبر المال وكيفية تنظيمه واستخدامه من الأمور الحيوية المهمة في حياة الأفراد واللازمة لاستقرارهم الاقتصادي والاجتماعي ،وتحقيق العدالة الاجتماعية ،ونجد إن الخالق عز شانه قد عنى بهذه القضية وأهميتها في حياة البشر حيث صاحبت هذه العناية منذ وجود الإنسان على الأرض واستخلافه عليها وعمارته لها،فهو تقدست أسماؤه لم يختص بها رسالة دون أخرى وهنالك شواهد عديدة على ذلك ذكرها الله تعالى في كتابه المجيد،حيث يقول مخاطبا الأنبياء السابقين :"وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء، ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة وذلك دين القيمة"(البينة،5)، كما يقول: "وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا و أوحينا إليهم فعل الخيرات و أقام الصلاة وإيتاء الزكاة وكانوا لنا عابدين"(الأنبياء، 73).
وفي الإسلام الحنيف تتضح عناية الباري بهذه المسالة أيضا ،والتي جاءت بصورة شاملة ومكتملة الجوانب فهو لم يغادر صغيرة ولا كبيرة تتعلق بشؤون المال والاقتصاد إلا تطرق لها وبينها سواء أكان بصورة مباشرة أم غير مباشرة.وذلك للدور العظيم الذي تقوم به في التكامل المعنوي والروحي للإنسان(الحكيم، 2003 :371).
والنظام المالي بوصفه أحد العناصر المهمة المكونة للمذهب الاقتصادي ، فانه يعكس فلسفة وأفكار المذهب ،ومن ثم فإن المالية العامة للمجتمع تتكيف تبعا لقاعدته المذهبية ،وكما يتكيف القانون المدني، فمن مظاهر الصلة بين المذهب والمالية العامة كما يقول الشهيد الصدر:"إن إيرادات الدولة اختلفت وظيفتها تبعا لنوع الأفكار الاقتصادية المذهبية التي تأثرت بها ففي الفترة التي ساد فيها المذهب الرأسمالي بأفكاره عن الحرية ، كانت الوظيفة الأساسية للإيرادات هي تغطية نفقات الدولة ،بوصفها جهازا لحماية الأمن في البلاد والدفاع عنها ،وعندما بدأت الأفكار الاشتراكية تغزو الصعيد المذهبي أصبح للإيرادات مهمة أخرى أضخم وهي علاج سوء التوزيع والتقريب بين الطبقات وإقامة العدالة الاجتماعية وفقا للأفكار المذهبية الجديدة ولم تعد الدولة تكتفي من الإيرادات أو الضرائب بالقدر الذي يغطي نفقاتها جهازاً بل توسعت في ذلك بقدر ما تفرضه المهمة الجديدة"( الصدر،1973: 356).
وكذلك نرى النظام المالي الإسلامي يتكيف هو الآخر وفقا للمذهب الاقتصادي الإسلامي ،وتبعا لمفاهيم وقيم الإسلام حول هذا الموضوع، الذي جاء بالكثير من الأحكام في مجال المعاملات والحقوق التي تنظم العلاقات المالية بين الأفراد والأحكام التشريعية المنظمة للعلاقات المالية بين الدولة والأمة وتحديد موارد الدولة وسياستها العامة في إنفاق تلك الإيرادات .
أ)مفهوم المال ووظيفته في الإسلام
يعتبر المال وتنمية الثروة وتحقيق الأرباح من الأهداف الأصيلة والمفاهيم الأساسية في المجتمع الرأسمالي، فالمادة هي المقياس الأساسي الذي يسير عليه الأفراد في هذا المجتمع ،وهي غاية ما بعدها غاية ،فهم يسعون إلى تنمية ثرواتهم لأجل الثروة نفسها وتحقيقا لأكبر قدر ممكن من الرفاهية المادية،بغض النظر عن مدى انتشار هذه الرفاهية وتداول الثروة في عموم المجتمع، فالمهم هو زيادة المجموع الكلي للثروة في المجتمع.
ولكن الأمر مختلف تماما في الإسلام،لان المال والثروة لهما مفاهيم متفردة في التشريع الإسلامي، وقد أوضحنا هذا الأمر سابقا عندما تحدثنا عن المبادئ الأساسية للاقتصاد الإسلامي ، التي تتمثل بالإقرار بمبدأ الملكية المزدوجة والحرية الاقتصادية المحدودة التي ربطها الإسلام بمبدأ ثالث مهم وهو تحقيق العدالة الاجتماعية ،ومن ثم نستطيع أن نستخلص مفهوم المال والثروة في الإسلام فالمال وجميع الثروات في هذا الكون هي ملك لله سبحانه وتعالى "ولله ملك السماوات والأرض وما بينهما"(المائدة ،17) ،فالله هو المالك الحقيقي للمال وهو صاحبه يتصرف فيه كيف يشاء إيجاباً وإعداماً وتغييرًا وإعطاءً ومنعاً وغير ذلك من وجوه التصرف ، وما دور الإنسان وعلاقته بالمال في هذه المرحلة ،سوى انه وصي على هذه الوديعة والأمانة بحكم استخلافه على الأرض من قبل الخالق عز شانه،"آمنوا بالله ورسوله و أنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه"(طه،6) وبحكم استعماره عليها "هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها"(هود، 61)، وان الله هو الذي آتاه للإنسان"ومن قدر عليه رزقه فلينفق مما آتاه الله لا يكلف الله نفسا إلا ما آتاها"(هود،61) وأمره بالانتفاع به
"وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه"(الحديد، 7)، فالملكية الحقيقية للمال هي لله سبحانه وتعالى أما ملكية الإنسان بهذا المال فهي ملكية اعتبارية وملكية انتفاع ،وليس للإنسان سوى التصرف فيه في الوجه الذي يرضي الله تعالى، فعن رسول الله(ص)انه قال:"نعم العون على تقوى الله الغنى",وعنه أيضا:"اللهم بارك لنا في الخبز ولا تفرق بيننا وبينه ولولا الخبز ما صلينا ،ولا صمنا ولا أدينا فرائض ربنا"،وعن الإمام الصادق(ع):" إن نعم العون على الآخرة الدنيا "، وعنه أيضا:" لا خير فيمن لا يحب جمع المال من حلال يكف به وجهه ويقضي به دينه ويصل به رحمه"، ولكن لننتبه إلى النصوص الآتية : عن الرسول (ص):"من أحب دنياه اضر بآخرته"،وعن الإمام علي(ع):" إن من أعون الأخلاق على الدين الزهد في الدنيا"،وعن الإمام الصادق(ع):"ابعد ما يكون العبد من الله إذا لم يهمه إلا بطنه وفرجه"،وعنه (ع):"رأس كل خطيئة حب الدنيا".
من ذلك نلاحظ إن تجميع المال وتضخيم الثروة ليست من الأهداف الأساسية للإسلام الحنيف ، و إنما يكون المال في الإسلام وسيلة لتحقيق غاية ، فهو أداة أو وسيلة يستخدمها الإنسان لإعمار الأرض ،المتمثلة في تحقيق الحق والعدالة الاجتماعية الإسلامية، فكما رأينا من النصوص السابقة إن المال سلاح ذو حدين والوسيلة أو الهدف الذي يوجه إليه هذا السلاح هو الذي يظهر هذا الحد أو ذاك، وكما يقول الشهيد الصدر(قده) (1973: 592):" الثروة في رأي الإسلام وتنميتها هدف من الأهداف المهمة ،ولكنه هدف طريق لا هدف غاية ،فليست الثروة هي الهدف الأصيل الذي تضعه السماء للإنسان الإسلامي على وجه الأرض و إنما هي وسيلة يؤدي بها الإنسان الإسلامي دور الخلافة ويستخدمها في سبيل تنمية جميع الطاقات البشرية والتسامي بإنسانية الإنسان في مجالاتها المعنوية والمادية ،...وهي نعم العون على الآخرة ، ولا خير فيمن لا يسعى إليها ، أما تنمية الثروة لأجل الثروة بذاتها وبوصفها المجال الأساسي الذي يمارس الإنسان فيه حياته ويغرق فيه فهي رأس كل خطيئة وهي التي تبعد الإنسان عن ربه " .
ب)السياسة المالية الإسلامية
بعدما حدد الإسلام مفهومه ونظرته للمال، كان الإجراء اللاحق هو رسم السياسة المالية للمجتمع الإسلامي ،والسياسة المالية كما يعرفها الاقتصاديون: هي سياسة الحكومة في تحديد المصادر المختلفة للإيرادات العامة للدولة وتحديد الأهمية النسبية لكل من هذه المصادر من جانب ،ومن جانب آخر تحديد الكيفية التي ستستخدم بها هذه الإيرادات لتمويل الإنفاق الحكومي(الإنفاق العام) بحيث تتحقق الأهداف الاقتصادية والاجتماعية للدولة (الأمين،1986 :135)، وبما إن النظام المالي والسياسة المالية لمجتمع ما هي تتكيف وفقا لمذهب ذلك المجتمع ، فان السياسة المالية الإسلامية هي الأخرى تخضع لأسس وقواعد ومعايير المذهب الاقتصادي الإسلامي التي حددتها الشريعة المقدسة ،واهم هذه الأسس والقواعد هي:
أ- إن الملكية الحقيقية لله تعالى ،وقد سبق توضيح هذه النقطة قبل قليل ،وهذه القاعدة تمثل أهم الحقائق التي تصوغ التصور الإنساني وتترك أثرها البارز على السلوك والتخطيط الاقتصادي سواء أكان هذا التخطيط على مستوى الفرد أم الجماعة أم الدولة.
ب- إن هدف ومسؤولية الإنسان تتمثل بإعمار الأرض والاستفادة الكبرى منها لصالح مجموع المسيرة والقيام بحقوق المسؤولية المشتركة وأي تخلف عن ذلك يعني التخلف عن الهدف(تسخيري، 2003: 154)
ج- الاستعانة بالمفاهيم الخلقية الإسلامية التي تصب في خدمة النظام المالي وتحقيق سياسته، وهنالك العديد من الروايات التي تربي في الإنسان روح التعاون وروح الإحساس بالمسؤولية ،وروح الأخوة الإنسانية ومعنى الإيثار والتضحية والزهد والإحساس بآلام الآخرين وآمالهم وتنفي عنه صفات البخل والطمع والاستئثار والتعدي على حقوق الآخرين والنفعية والحرص والحسد (تسخيري، 2003 :155)، ونلاحظ إن هذه المفاهيم الخلقية تساهم بشكل مباشر وغير مباشر في تنفيذ السياسة المالية للدولة ،فهي تساعدها على جباية الإيرادات من زكاة وخمس وصدقات وغيرها ، إن ما يدفع الإنسان المسلم إلى الإيفاء بهذه الضرائب ليس القانون بالدرجة الأولى وإنما تنفيذ أوامر الله وأداء هذه العبادات المالية بما يرضي الله تعالى وكذلك حبه ورغبته في مساعدة إخوانه التي تتحقق بالتزامه الكامل بهذه الفرائض ،وهذا بالطبع نتيجة التربية الروحية والخلقية التي ربى الإسلام عليها الفرد المسلم.
د- التشجيع على الإنفاق المستحب ،ففضلا عن وجود النصوص الكثيرة الواردة بشان الإنفاق الواجب ، كالزكاة والخمس ، فان الإسلام الحنيف قد شجع أيضا وحث على الإنفاق المستحب، الذي يعتبر أسلوبا رائعا لا مثيل له لحل مشكلة التناقض بين الدوافع الذاتية لحب الذات الشخصية والدوافع ذاتها لخدمة المجتمع.فينطلق الإنسان من مبدأ امتداد حياته الذاتية إلى مستوى الخلود في الآخرة ،ليرى إن المصالح الذاتية والاجتماعية قد توحدت مما يدفعه للإنفاق المستمر الذي لا تنضب دوافعه ولا ينتهي أثره بمقتضى "من سنّ سنة حسنة فله أجرها واجر من عمل بها إلى يوم القيامة...".
هـ- إن مشكلة الفقر هي من المشاكل المالية التي عالجها الإسلام منذ اللحظة الأولى لنزوله علاجا جذريا ،وجعلها شاملة لحق الفقير في الطعام واللباس والمسكن ورعاية حاجياته ، وبدأ هذا العلاج بالحض على رعاية الفقراء والمحتاجين والترغيب بالإنفاق و تحبيبه للأغنياء والمقتدرين وربط ذلك بالأجر والثواب الأخروي ، كما حذر من الإمساك والحيلولة دون وصول الحقوق إلى أهلها كيلا يكون المال دولة بين قلة من الأغنياء وتكون الأكثرية من الفقراء المحرومين من حق الحياة الكريمة(عفيفي، 1980: 116). وقد امتلأ القران الكريم بآيات الحث على الإنفاق للفقراء والمساكين ،وفي سبيل الله وقد وجهت العناية الكبرى في ذلك إلى قضاء الحاجات الشخصية التي تطرأ على الأفراد فتوهن من قوتهم وتضعف من روحهم ، يقول الله تعالى :"وفي أموالهم حق معلوم للسائل والمحروم" كما يقول عز شانه:"أنفقوا في سبيل الله ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة وأحسنوا إن الله يحب المحسنين" وأيضا " والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب اليم يوم يحمى عليهم في نار جهنم فتكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم هذا ما كنزتم فذوقوا ما كنتم تكنزون"، كما إن الأحاديث النبوية الشريفة وأحاديث الأئمة عليهم السلام زاخرة بالحث على الإنفاق والتصدق على الفقراء مع التأكيد على ربط هذا الإنفاق بالأجر الأخروي، والفقر هو عبارة عن فقد الإنسان ما هو محتاج إليه أما فقد ما لا تدعو إليه الحاجة والضرورة فليس بفقر ،يقول النبي(ص) "من أصبح منكم معافى في جسمه آمنا في بيته عنده قوت يومه فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها"(الفكيكي، 2003، 259)،وقال أيضا"إذا بغض الناس فقرائهم واظهروا عمارة الدنيا وتكالبوا على جمع الدراهم رماهم الله بأربع خصال بالقحط من الزمان والجور من السلطان والخيانة من ولاة الأحكام والشوكة من الأعداء"،كما مر بنا قبل قليل قول الإمام علي بحق المساكين والمحتاجين في عهده إلى مالك الاشتر(رض).
و- شكر النعمة وهي من القواعد الأساسية والمهمة في السياسة المالية الإسلامية ،والتي تعني –كما تقدم- الاستفادة القصوى من جميع الثروات التي سخرها الله تعالى للإنسان وكذلك من جميع الإمكانيات المادية والبشرية ،واستغلالها الاستغلال الأمثل وعدم إهدارها،وذلك يعني التخطيط السليم والمنظم والمتقن لهذه السياسات ووفق أسس وإجراءات علمية ومذهبية صحيحة"وآتاكم من كل ما سألتموه وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها إن الإنسان لظلوم كفارُ"(إبراهيم،34).
ز- العلاقة بين المعنويات والماديات على المستوى الحضاري، إن القرآن يؤكد إن الظلم يؤدي إلى الهلاك "فبظلمهم أهلكناهم"، وان العدل والشكر والدعاء والاستغفار تؤدي طبيعيا إلى الرخاء"استغفروا ربكم انه كان غفارا يرسل السماء عليكم مدرارا ويمددكم بأموال وبنين ويجعل لكم جنات ويجعل لكم أنهارا"(نوح،10-12).
وقد جاء الإسلام الحنيف بمجموعة من الأحكام والقواعد الشرعية التي تهتم بمسالة تنظيم عملية جباية الأموال من حيث تحديد مواردها و مقدارها وأنواعها وكيفية صرفها ، فضلا عن مجموعة القوانين الخاصة بالتكافل المعاشي والفئات المستحقة له
ج)الموارد المالية في الإسلام ومواضع صرفها
تعمل السياسة المالية لكل دولة على تحقيق التوازن بين مواردها ومصارفها ، وقد انتهجت الدولة الإسلامية هذه السياسة منذ نشأتها التي ارتبطت في تشريعها بالقواعد الكلية التي اقرها القران وقام الرسول (ص) بتبيانها وتطبيقها، وقد علمنا سابقا إن بيت المال قد انشأ لغرض صيانة المال وحفظه والتصرف فيه للمصالح العامة للمسلمين،وهو بهذا يشبه وزارة المالية في العصر الحاضر،وصاحبه يقوم بمهمة وزير المالية. وهنالك أنواعا كثيرة من الموارد المالية في الإسلام ،ولكن في حدود البحث الحالي فأننا سنقتصر على توضيح الموارد المالية التي تقوم الدولة بجبايتها للإنفاق منها لصالح المجتمع وأفراده وهي تسمى تحديدا موارد النظام المالي في الإسلام(سليمان، 1990: 1016).
1: موارد النظام المالي في الإسلام
يعتبر تحديد أوجه الإيرادات والنفقات العامة وطرق تقديرها ،من المقومات الأساسية لإعداد الموازنة العامة للدولة ،وقد اهتم التشريع الإسلامي بهذه المسالة اهتماما بالغا للدور الكبير الذي تحققه الموارد المالية المختلفة في الاستقرار الاقتصادي وتحقيق العدالة الاجتماعية للمجتمع الإسلامي،لذلك نلاحظ ورود نصوص كثيرة في هذا المجال توضح أنواع هذه الموارد وكيفية جبايتها وتقديرها وتعيينها ومن ثم صرفها في مواضعها المخصصة لها أيضا، ويلاحظ أن مصادر الأموال العامة في الشريعة الإسلامية تكون على قسمين : قسم مسمى بعناوينه الخاصة وهو صنفان أحدهما الحقوق الشرعية المسماة ( الزكاة والخمس) ، وارث من لا وارث له، ومجهول المالك والجزية، ثانيهما : ما يسمى بلغة العصر بأملاك الدولة العامة وهي في الشرع الإسلامي ( الأراضي الخراجية والأنفال)، والقسم غير المسمى بعنوان خاص هو ما يؤخذ في حالة الضرورات الحاكمة بأدلتها على قاعدة السلطنة على قاعدة أن لإطلاق الملكية الخاصة حدودا منها حاجة الأمة وسلامتها(شمس الدين، 1423هـ: 364) ، أما أهم هذه الموارد ( الحكيم ، 2003: 377):-
1. الزكاة
2. الأراضي الموات
3. الأراضي الخراجية
4. الأوقاف العامة
5. الخمس
6. التكافل الاجتماعي الخاص
الزكاة
الزكاة من الواجبات التي اهتم الشارع المقدس بها ، وقد قرنها الله تبارك وتعالى بالصلاة في عدة مواضع من القران الكريم، وهي إحدى الأركان الخمسة التي بُني عليها الإسلام،وقد ورد إن الصلاة لا تقبل من مانعها .
وهي علاوة على ذلك من العبادات والتشريعات المالية المهمة التي أكدها القران الكريم وسنة الرسول العظيم(ص) ، فقد شخص الإسلام مواردها تشخيصا دقيقا ،وجعل الولاية عليها للحاكم الإسلامي الذي يقوم بتخمينها وتقديرها أو إحصائها وجمعها من أصحاب الأموال ، كما حدد القران مواضع صرفها.و يقول الشهيد الحكيم(قده)، إن للزكاة أربعة أبعاد رئيسة هي:
1. أصل وجوب الزكاة وأهميتها.
2. الأموال التي تتعلق بها الزكاة.
3. مصرف الزكاة.
4. الوالي على الزكاة.
1.أصل تشريع الزكاة وأهميتها
أصل الزكاة هو النمو الحاصل عن بركة الله تعالى ويعتبر ذلك بالأمور الدنيوية والأخروية ،ومن الزكاة ما يخرجه الإنسان من حق الله تعالى إلى الفقراء وسمي بذلك رجاء البركة أو لتزكية النفس أي تطهيرها وتنميتها بالخيرات والبركات أو كل ذلك(الأصفهاني،1425هـ: 380).
وزكت النفس طهرت ومنه قوله تعالى :"خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها"(التوبة،103)، أي تطهرهم من البخل والسحت وحب المال ،وتزكيهم بنماء أموالهم وحسناتهم وتهذيب نفوسهم وبذلك يرتفعون إلى منازل المخلصين الطيبين ، وقال ابن العربي تطلق الزكاة على الصدقة أيضا وعلى الحق والنفقة والعفو عند اللغويين .
أما الزكاة في المصطلح الشرعي فهي: اسم لحق يجب فيه المال يعتبر فيه وجود النصاب (بحر العلوم، 1989: 27)، وهي فرض على كل مسلم عاقل بالغ فالشرط في وجوب الزكاة العقل والبلوغ ، فلا تجب في مال الصبي والمجنون لحديث عائشة(رض) عن النبي (ص) أنه قال: ( رفع القلم عن ثلاثة عن النائم حتى يستيقظ وعن الصبي حتى يحتلم وعن المجنون حتى يفيق( الخراساني، 1413: 415).
وتتضح أهمية الزكاة من استعراض النصوص التي وردت بشأنها، فقد قرنها الله تعالى بالصلاة في أكثر من موضع في القران الكريم ،يقول عز شانه:"وأقيموا الصلاة و آتوا الزكاة"(البقرة،110)، "قد افلح من تزكّىوذكر اسم ربه فصلّى"(الأعلى، 14-15)،"وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة وذلك دين القيمة"(البينة،5) ،كما إن الأحاديث الواردة بشأنها من أهل البيت (ع) كثيرة ،فعن الرسول(ص):"أيها المسلمون زكوا أموالكم تقبل صلاتكم"(وسائل الشيعة،6/3)،وعن ابن عباس قال : إن النبي (ص) بعث معاذ إلى اليمن فقال:" ادعهم إلى شهادة إن لا اله إلا الله و أني رسول الله ، فان هم أطاعوا لذلك فأعلمهم إن الله افترض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة فان هم أطاعوا لذلك فأعلمهم إن الله افترض عليهم صدقة في أموالهم تؤخذ من أغنيائهم وترد على فقرائهم" (صحيح البخاري،1981ج2: 108) ،أما أهمية هذا الارتباط على الصعيد الاجتماعي ،فان الله تعالى يريد بهذين الواجبين على نحو الارتباط ولو تنزيلا أن يجعل المكلف إنساناً مهذباً كاملاً،فبصلاته ينشد إلى خالقه يسبحه ويحمده و يعترف بالعبودية له ،وبذلك تصفو نفسه شفافة تنطبع فيها كل سمات الخير والرحمة ،وبزكاته ينشد الفرد إلى المجتمع ليتحسس بأحاسيس أفراده من الضعفاء والمعوزين ،فيمد لهم يد المساعدة ويبعد عنهم شبح الفقر وآلام الجوع(بحر العلوم،1989 :30)، ومن هنا فإن الأهمية الكبرى للزكاة تتمثل أساسا بكونها تهدف إلى إعادة توزيع الثروة من خلال منع التراكم اللامعقول للثروة في فئات معدودة في المجتمع وتسمح للثروة بالانتشار والتداول بصورة أوسع في المجتمع، فهي عبارة عن جزء مكمل وإلزامي ومتلازم لطريقة الإسلام في الحياة ،فالزكاة تشمل الجوانب الأخلاقية والاجتماعية والاقتصادية للنظام المالي الإسلامي وعدم ملاحظة ذلك يكون مساويا لإنكار الدين نفسه (SULAIMAN,2004).
2.الأموال التي تتعلق بها الزكاة
تجب الزكاة في أربعة أشياء(المرجع السيستاني، 2003 :227) هي:
1. في الأنعام :الغنم بقسميها المعز والضان ،والإبل والبقر ومنه الجاموس.
2. في النقدين :الذهب والفضة.
3. في الغلات: الحنطة والشعير والتمر والزبيب.
4. في مال التجارة.
ويعتبر في وجوبها أمران :
(الأول):الملكية الشخصية ،فلا تجب في الأوقاف العامة .
(الثاني): أن لا يكون محبوسا عن مالكه شرعا،برهن أو وقف أو نذر وما شابه.
وفي هذا الأمر وردت أحاديث عديدة عن أهل العصمة نكتفي بالحديث الآتي:
قال أبو عبدالله الصادق(ع): لما نزلت آية الزكاة "خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها" في شهر رمضان ،فأمر رسول الله(ص) مناديه فنادى في الناس : إن الله تبارك وتعالى قد فرض عليكم الزكاة كما فرض عليكم الصلاة ، ففرض الله عليكم من الذهب والفضة والإبل والبقر والغنم ومن الحنطة والشعير والتمر والزبيب ،ونادى فيهم بذلك في شهر رمضان ،وعفا لهم عما سوى ذلك..."(وسائل الشيعة ،م/32/ح1)،وفيما يتعلق بأموال التجارة يقول الشهيد الحكيم(قده):"...فان الرأي الفقهي العام المعروف لدى أتباع أهل البيت(ع) هو عدم تعلق الزكاة بها ،بخلاف الرأي الفقهي العام لدى المذاهب الإسلامية الأخرى التي ترى وجوب الزكاة فيها ،وان كانت توجد نصوص متعددة وردت عن أهل البيت(ع) يفهم منها وجوب الزكاة في هذه الأموال وذهب إلى ذلك بعض علماء أتباع أهل البيت"(الحكيم، 2003: 383)،ونرى الرأي الأخير واضحا عند معظم العلماء المعاصرين كالسيد الخوئي(قده)والسيد السيستاني(دام ظله).
3.مصرف الزكاة
إن إنفاق الصدقات قيدته وحددت أبوابه الشريعة السمحاء في القرآن الكريم، ويبقى لولي الأمر التنظيم المالي في هذا الصدد(الخطيب، 1980: 335)،فقد خصصت الآية الستون من سورة التوبة مصارف الزكاة ،وحددتها بثمانية موارد وهي في قوله تعالى:"إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل الله وابن السبيل"،وفي ذلك تحديد قاطع لأوجه صرف الزكاة بما يضع لكل ذي حق حقه ،ويروى عن زياد بن الحارث قال:"أتيت رسول الله (ص)، فاتاه رجل فقال: أعطني من الصدقة ،فقال (ص): إن الله لم يرض بحكم نبي ولا غيره في الصدقة حتى حكم هو فيها فجزأها ثمانية أجزاء،فإن كنت من تلك الأجزاء أعطيتك حقك"(مختصر سنن أبى داود2/230) ،إن كثرة هذه الموارد وتنوعها يتطلب إعداد موازنة مستقلة للزكاة وهو ما اتفق عليه معظم المعاصرين(الأبجي،1990: 1141)، ويمكن الاقتصار في الصرف على واحد أو أكثر من الموارد المذكورة أي لا يجب البسط فيها كلها ، ويترك هذا الأمر للحاكم الشرعي الذي يتولى مصرف الزكاة وهو أمر يكاد يتفق عليه المسلمون عامة ، وهو يخضع لتشخيصه لطبيعة الحاجات والضرورات التي تفرضها الأوضاع الاقتصادية والسياسية المحيطة بالمجتمع الإسلامي(الحكيم،2003: 388)،ويرى عبد السلام(1980: 336): إن الفكر المالي الإسلامي في هذا الجانب يتسم بالمرونة وتقدير مصلحة الأمة وعلى الوالي أن يضع الأولويات والمقادير ويحدد المتاح والممكن من أبواب الإنفاقات التي عينتها الشريعة ،وذلك بناء على معايير يراها تشبع حاجة المجتمع وأفراده من أصحاب الحقوق في الزكاة، مستأنسا برأي ذوي الفكر والتخصص الفني في هذه الأمور المالية.
ويمكن بذلك توجيه موارد الزكاة لصرفها على المواضع الملحة والضرورية حيث تخضع الأخيرة للسياسة المالية للدولة الإسلامية وخدمة لتحقيق أهدافها المتمثلة أساساً بإحقاق الحق وتحقيق العدالة الاجتماعية الإسلامية.
4.الوالي على الزكاة
إن حق الإمام (الحكومة الشرعية) ثابت في جباية الزكاة قال الله تعالى مخاطبا نبيه(ص) :" خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها" (التوبة، 103)، وجاءت الأحاديث الشريفة تحض على إخراج الزكاة ودفعها إلى الإمام ، فعن ابن عباس قال: قال رسول الله (ص) لمعاذ حين بعثه إلى اليمن " إني أبعثك إلى أهل كتاب فادعهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله ... فإن أجابوك إلى ذلك فأعلمهم أن عليهم صدقة أموالهم فإن أقروا بذلك فخذ منهم واتق كرائم أموالهم وإياك ودعوة المظلوم فإنه ليس لها دون الله حجاب" ، فالأصل إن الدولة هي التي تتولى جمع الزكاة و إنفاقها على مستحقيها(الخياط، 1990: 932)،وبحسب الممارسات الخارجية للدولة الإسلامية فان الولاية على الزكاة كانت للحاكم الإسلامي وهذا الأمر له أصوله التشريعية ،ويفسر السيد الحكيم هذا الأمر بقوله(2003: 391):"..فالزكاة وان كانت تمثل شِركة للفقراء في أموال الأغنياء كما جاء ذلك في عدة نصوص إلا إن ولاية هذا المال من اجل إيصاله إلى أصحابه الشركاء أو صرفه في مصارفه المحددة شرعا إنما هي للحاكم الإسلامي الذي يجبي الزكاة،كما كان النبي(ص) يقوم في زمنه بجبايتها ،وكذلك الخلفاء من بعده".
ويظهر ذلك عموم ولاية الإمام في التحصيل ، وقد كان الأمر كذلك في عهد الرسول(ص) فقد كان النبي(ص) يرسل الجباة والعمال والمصدقين والسعاة لجمع الزكاة ،كما كتب إلى الولاة والعمال بفعل ذلك ،وكان (ص) كلما أسلمت قبيلة بعث العامل لجمع زكاة مالها ، وهو (ص) أول من انشأ لها ديوان خاص في مركز الدولة ،وكان كاتبه على الصدقات الزبير بن العوام وجهم بن الصلت أما كاتبه على خرص النخل فهو حذيفة ابن اليمان،وكان له كاتبان آخران على المداينات والمعاملات، وهذا يبين إن الدواوين قد وضعت في زمن النبي(ص) ،كما يبين إن أمر الزكاة كان من شؤون الدولة واختصاصها فالزكاة ليست إحساناً فردياً و إنما هي تنظيم اجتماعي تتولاه الدولة(الحاكم الشرعي)(الخياط، 1990: 932) .
وهذا الرأي اتفق عليه عموم فقهاء المسلمين بخصوص الولاية على الزكاة،حيث يتضمن وجوب تولي الدولة (الحاكم الشرعي) جباية الزكاة وتولي صرفها في مصارفها المحددة، ويترتب عليه وجوب دفع زكاة الأموال إلى السعاة الذين يبعثهم الإمام(الدولة) وعلى الناس أن يعطوهم الأموال بنفس راضية.
ويمكن القول إن هذا الأمر في جانب منه يخضع لمنطقة الفراغ في الاقتصاد الإسلامي ،حيث عرفنا إن ذلك معناه تدخل ولي الأمر في هذا الشأن وإشرافه عليه وذلك لحماية مصالح المسلمين عامة، وهذا التدخل يكون في حدود إصدار التوجيهات والتعليمات لتنظيم جباية هذه الفريضة وباستخدام الأساليب العصرية لتقدير وتحديد كميتها ونوعيتها وتقنين إجراءاتها و أحكامها مع الأخذ بالاعتبار والتأكيد على القيم الخلقية الإسلامية عند جمع الزكاة من الأفراد المكلفين والترفق بهم ،فوظيفة النظام المحاسبي والمالي هنا تدور حول محورين أساسيين( عبد السلام، 1980: 331- 335):
1. التنظيم العلمي الأمثل للزكاة عند تطبيقها استنادا إلى الأفكار المالية والمحاسبية ، فنحن مسئولون عن تنظيم التطبيق الحسن بعد الفهم الحسن للتشريع، ويتعلق ذلك بوسائل جباية الأموال المتعلقة بالزكاة وطرق تنظيمها، من حيث تحديد الأساليب الفنية للإقرار بالمال الخاضع للزكاة وطرق التحصيل سواء أكان بطريق مباشر أم بطريق الحجز عند المنبع،ونوعية السداد إن كان نقدا أو عينا ،والتقديم أو التأخير في أدائها وما يترتب على ذلك.
2. إلقاء الضوء عند تحليل الألوان المستحدثة في صور المال لاستنباط حكم الشريعة في مدى خضوعها للزكاة من عدمه وكيفية ذلك .
ويمكن أن نلاحظ هذه الأفكار والأساليب الجليلة والعادلة التي انتهجها الإسلام في هذا الميدان من خلال إحدى الوصايا التي وجهها الإمام علي(ع) إلى من يستعمله على جمع الزكاة والصدقات ،بوصفه خليفة المؤمنين وولي أمرهم حيث يقول(ع):" انطلق على تقوى الله وحده لا شريك له ولا ترو عن مسلما ولاتجتازن عليه كارها ولا تأخذن منه أكثر من حق الله في ماله ،فإذا قدمت على الحي فانزل بمائهم من غير إن تخالط أبياتهم ثم امض إليهم بالسكينة والوقار حتى تقوم بينهم فتسلم عليهم ولا تخدج بالتحية لهم ، ثم تقول :عباد الله أرسلني إليكم ولي الله وخليفته لآخذ منكم حق الله في أموالكم فهل لله في أموالكم من حق فتؤدوه إلى وليه؟ فان قال قائل لا، فلا تراجعه، وان انعم لك منعم فانطلق معه من غير أن تخيفه أو توعده أو تعسفه أو ترهقه "، ثم بين له الإمام أسلوب جمع الأموال التي تستحق الزكاة الذي يتم على مراحل أولها الاستئذان من الفرد المكلف فيقول له (ع):"فخذ ما أعطاك من ذهب أو فضة فان كان له ماشية أو ابل فلا تدخلها إلا بإذنه فان أكثرها له "، إن عظمة الإسلام ورحمته ورفقه لم تقتصر على البشر وإنما حتى على الحيوانات ،ونلاحظ ذلك في قول الإمام في نفس هذه الوصية:" ولا تنفرن بهيمة ولا تفزعنها و لا تسوئن صاحبها فيها "، ثم يبين له المواصفات والشروط المطلوبة في الأنعام المزكي عنها فيقول(ع):" ولا تأخذن عودا و لا هرمة ولا مكسورة ولا مهلوسة ولا ذات عوار ولا تأمنن عليها إلا من تثق بدينه رافقا بمال المسلمين حتى يوصله إلى وليهم فيقسمه بينهم و لا توكل بها إلا ناصحا شفيقا وأمينا حفيظا غير معنف ولا مجحف ولا مغلب ولا متعب ثم احدر إلينا ما اجتمع عندك نصيره حيث أمر الله به"، وذكر القاضي أبو يوسف في نصيحته لهارون الرشيد الآتي:" ومر باختيار رجل أمين ثقة عفيف ناصح مأمون عليك وعلى رعيتك فوله جميع الصدقات في البلدان ومره فليوجه فيها أقواما يرتضيهم .... ولا تولها عمال الخراج فإن مال الصدقة لا ينبغي أن يدخل في مال الخراج" ،ونلاحظ في كلام أبو يوسف إشارة إلى التمييز بين أنواع الأموال الواردة إلى بيت المال وضرورة إعداد قوائم وميزانية مستقلة للزكاة – سنتكلم عن ذلك بشيء من التفصيل لاحقا، وفي هذا الصدد نلاحظ إن كثير من البلدان الإسلامية في عصرنا الحاضر قد أصدرت قوانين لصناديق الزكاة ومؤسساتها وذلك لتطبيق هذه الفريضة العبادية المالية المهمة وذات الأثر الكبير في تحقيق التوازن الاجتماعي والعدالة الاجتماعية في المجتمع الإسلامي ،ومن هذه الدول على سبيل المثال، بيت الزكاة الذي أنشئ في الكويت عام 1982،وصندوق الزكاة في السودان الذي أنشئ عام 1980,وفي باكستان صدر قانون الزكاة و العشور عام 1980 ،وفي البحرين أنشئ صندوق الزكاة عام 1979 ،وفي العربية السعودية صدر أمر جمع الزكاة وتحصيلها بواسطة الدولة عام 1950.
• الأراضي الموات
وهي الأرض المعطلة عن الزراعة والسكن التي لا ينتفع بها ،إما لانقطاع الماء عنها أو لاستيلائه عليها أو لملوحتها أو استيجامها أو غير ذلك من موانع الانتفاع التي تتعلق بالأرض وظروفها الطبيعية(الحكيم، 2003: 394).
والرأي الفقهي لدى جمهور فقهاء العامة من المسلمين في ملكية هذه الأرض فهو إن الأرض الموات تعتبر من المباحات العامة، شانها شان مياه الأنهار والبحار والأسماك والطيور أو الرمال وغيرها من المباحات، التي يمكن تملكها عن طريق الحيازة والاستيلاء عليها .
أما علماء الإمامية فإنهم يَرون إن هذه الأرض تعود ملكيتها شرعاً للإمام ،وهي ما يصطلح عليه باسم ملكية الدولة(الصدر،1973: 413)،وبالتالي فهي لا تدخل في نطاق الملكية الخاصة، والدليل التشريعي على ملكية الدولة للأرض الميتة حين الفتح هو أنها من الأنفال،والأنفال كما يقول الشهيد الصدر(قده): هي مجموعة من الثروات التي حكمت الشريعة بملكية الدولة لها(الصدر،1973: 413)،وذلك في قوله تعالى:"يسألونك عن الأنفال قل الأنفال لله والرسول فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم و أطيعوا الله ورسوله إن كنتم مؤمنين"(الأنفال،1)،والإمام (الحاكم الشرعي) هو في موقع الرسول في الولاية والحكم بعده(الحكيم،2003: 394)،وقد روى الشيخ الطوسي في التهذيب بشان نزول هذه الآية :إن بعض الأفراد سألوا رسول الله(ص) إن يعطيهم شيئا من الأنفال ،فنزلت الآية تؤكد مبدأ ملكية الدولة ،وترفض تقسيم الأنفال بين الأفراد على أساس الملكية الخاصة.
وقد سمحت الشريعة لأفراد المسلمين إحياء هذه الأرض و إعمارها واستثمارها ،وقد صدر الإذن العام للمسلمين بالإحياء من قبل النبي(ص) و الأئمة(ع) من بعده، وهو إذن وَلائي انطلاقاً من فكرة ملك الإمام للأراضي الموات(الحكيم،2003 :395) كما منحتهم حقًا خاصاً فيها، على أساس ما يبذلون من جهد في سبيل إحياء الأرض وعمارتها،فقد جاء في الروايات المنقولة عن أهل البيت(ع):"من أحيا أرضاً فهي له وهو أحق بها"،ولكن السؤال هنا هو :ما طبيعة الحق المكتسب نتيجة الإحياء وما هي حدوده؟ اختلف الفقهاء في طبيعة هذا الحق بين قائل بالملكية الخاصة وبين قائل بثبوت حق التصرف دون أن يمتلك المحي رقبة الأرض كما عن الشيخ الطوسي(قده) حيث يقول:" فأما الموات فإنها لا تغنم وهي للإمام خاصة ،فان أحياها أحد من المسلمين كان أولى بالتصرف بها ويكون للإمام طسقها"،و الطسق هو أجرة الأرض،وهذا الرأي الفقهي لم يأخذ به فقهاء الإمامية فحسب بل أخذت به مختلف المذاهب الفقهية الأخرى للمسلمين ولكن بصيغ متنوعة ،وينقل الشهيد الصدر في هذا الشأن ما ذكره الماوردي عن أبي حنيفة وأبي يوسف :"إن الفرد إذا أحيى أرضاً من الموات وساق إليها ماء الخراج كانت ارض خراج، وكان للدولة فرض الخراج عليها،ويريدان بماء الخراج الأنهار التي فتحت عنوة كدجلة والفرات والنيل(الصدر،1973: 418).
نستخلص مما سبق إن الأراضي الموات تعتبر شرعا ملكا للدولة وانه يمكن للفرد إحياؤها و إعمارها واستثمارها ومن ثم تكون له الأولوية في الانتفاع بها من دون مزاحمة الآخرين له فيها،إلا إن هذا الحق يقتصر على الانتفاع بالأرض دون أن تصبح ملكا خاصا له، وللدولة -بوصفها مالكة لرقبة هذه الأراضي -إن تتقاضى أجوراً من الأفراد الذين يقومون بإحيائها ،وهذه الأجور(الخراج) تفرض وفقا للمصلحة العامة والتوازن الاجتماعي ،ولنفس الأسباب ولظروف استثنائية يمكن للدولة أن تتنازل عن هذه الأجور.
الأراضي الخراجية
الخراج هو ما يفرضه الإمام من مبلغ أو قدر معين على الأرض العامرة المستولى عليها من الكفار(أي الأرض التي فتحها المسلمون عنوة تحت رآية المعصوم أو اجازته)،والأراضي الخراجية هي الأراضي المعمورة التي كانت بيد المشركين أو أهل الكتاب وتمكن المسلمون من الاستيلاء عليها عنوة من خلال عمليات الفتح الإسلامي أو الأراضي التي تم إحياؤها أو وقفها من قبل الدولة الإسلامية لصالح جماعة المسلمين(الحكيم،2003: 398).
وقد أثيرت مشكلة في زمن عمر بن الخطاب بشأن الموقف تجاه الأراضي ،و هل تكون من الغنيمة التي تقسّم على المقاتلين ومن ثم تدخل ضمن الملكية الخاصة أم لها حكم آخر؟ فاستشار عمر الصحابة ،فأشار عليه علي (ع) بعدم التقسيم،كما كان ذلك رأي معاذ بن جبل ،فقرر أن تكون لجميع المسلمين أي بتطبيق مبدأ الملكية العامة ، إن هذا النوع من الأراضي يدخل في نطاق الملكية العامة ،فهي ملك عام للمسلمين جميعا ،من وجد منهم ومن يوجد،وكما يقول الشهيد الصدر(1973: 401):" إن الأمة الإسلامية بامتدادها التاريخي هي التي تملك هذه الأرض دون امتياز لمسلم على آخر في هذه الملكية العامة ،ولا يسمح للفرد بتملك رقبة الأرض ملكية خاصة" ، ويجمع فقهاء الإمامية على هذا الحكم كما يتفق عليه فقهاء المذاهب الأخرى ،حيث نقل الماوردي عن الإمام مالك قوله:"إن الأرض المفتوحة تكون وقفاً على المسلمين منذ فتحها ،بدون حاجة إلى إنشاء صيغة الوقف عليها من ولي الأمر "،وهذا يعبر عن الملكية العامة للأمة(الصدر،1973: 401).
أما النصوص الشرعية الدالة على الملكية العامة لهذا النوع من الأراضي،فهي كثيرة منها على سبيل المثال :سئل الإمام الصادق(ع) عن ارض السواد ما منزلته؟ فأجاب الإمام :"هو لجميع المسلمين لمن هو اليوم ،ولمن يدخل في الإسلام بعد اليوم ،ولمن لم يخلق بعد"،وقوله(ع):"لا تشتروا ارض السواد فإنها فيء للمسلمين"،والمعروف إن ارض السواد كلمة كانت تطلق على الجزء العامر من أراضى العراق التي فتحها المسلمون في حرب جهادية ،وفي خبرٍ عن الإمام الصادق(ع) أيضاً قوله:" إن الأرض التي أخذت عنوة ،موقوفة متروكة بيد من عمرها ويحييها ويقوم عليها على قدر طاقتهم من الخراج"،ويعني الإمام بذلك ،إن ولي الأمر يدع الأراضي المفتوحة عنوة إلى القادرين على استثمارها من أفراد المجتمع الإسلامي ،ويتقاضى منهم أجرة على الأرض لأنها ملك مجموع الأمة ،فعندما يستفيد المزارعون من هذه الأرض بفلاحتها وزراعتها ،فان عليهم دفع ثمن هذه الاستفادة إلى الأمة،وهذا الثمن أو الأجرة يطلق عليه كلمة الخراج ،كما إن قيام النبي(ص) بإعطاء خيبر ليهود لغرض إعمارها وزراعتها ،ولهم شطر ما يخرج منها مع احتفاظ الدولة الإسلامية برقبة هذه الأرض ما هو إلا تطبيق لمبدأ الملكية العامة،فيقول الشهيد الصدر(1973 :405):" ..إن الأرض المفتوحة لم تشرع فيها الملكية الخاصة ،وتقسيم الفيء(الغنيمة) مبدأ وضعه الشارع في الغنائم المنقولة فقط ،فالملكية العامة للأرض المفتوحة إذن طابع أصيل لها في التشريع الإسلامي ،وليست تأميماً وتشريعاً ثانوياً بعد تقرير مبدأ الملكية الخاصة".
وكان الخلفاء يعينون عمالا مستقلين عن الولاة والقواد لجباية الخراج فيدفعون منه أرزاق الجند وما تحتاج إليه المصالح العامة ،ويرسلون الباقي إلى بيت المال ليصرف فيما خصص له ،و فيمن يتولى جباية الخراج فلابد إن تتوافر فيه مجموعة من الصفات ذكرها أبو يوسف في كتابه الخراج وهي:أن يكون فقيها عالماً مشاورًا لأهل الرأي عفيفا لا يخاف في الله لومة لائم ولا يخاف منه جور في حكم إن حكم(حسن، 1939: 268) .
أما نظام الخراج وهو النظام الضريبي المتبع في استيفاء حقوق بيت المال والذي يرجع إليه في تحديد الضريبة (مقدار الخراج) ومن ثم اعتماد عملية جباية الأموال عليه،ففي تاريخ الدولة الإسلامية طبق أكثر من نظام للخراج مثل نظام الوظيفة في الخراج أو ما اصطلح عليه ب(الطسوق) وهو أول نظام سار عليه نظام الجباية منذ الصدر الأول للإسلام والى أواخر عصر المنصور العباسي (السامرائي، 1990: 789)،و الطسوق هي الأخرى لم تسير على وفق ثابت و إنما كانت هناك"الطسوق المختلفة" كما أشار إليها البلاذري ، كما كان هناك نظام المقاسمة أو ما يسمى ب( الأستان) حيث جرت عادة الخلفاء في هذا النظام أن يشرفوا بأنفسهم على جباية الخراج ليتمكنوا-عند الشك- من محاسبة الولاة وعمال الخراج (تسخيري،2003: 278) ،وكان الهدف من تطبيق هذا النظام هو التخفيف عن دافعي الضريبة في الوقت الذي يحافظ فيه أيضا على المصلحة العامة وحقوق بيت المال،فتم إدخال بعض العوامل بالاعتبار عند احتساب مقدار الضريبة مثل اختلاف جودة الأرض وخصوبتها وقربها من الأسواق والجهد المبذول في زراعتها و إروائها ونوعية المحاصيل الزراعية التي أنتجت منها ( السامرائي،1990: 790).
أما مقدار هذا الخراج فهو على الظاهر أمر متروك لولي المسلمين (تسخيري،2003: 278)، ففي بداية الأمر كان يجبى على أساس المساحة الكلية للأرض الصالحة للزراعة ،ثم أدخلت تعديلات وإجراءات جديدة على هذا النظام في عهد الإمام علي(ع) ،مثل درجة خصوبة الأرض وجودتها ومدى قرب الأراضي الزراعية من الأسواق وتكاليف النقل ونوع المحصول ،وقد أدى ذلك إلى إن تضع الإدارة الحكومية الإسلامية ما يسمى ب"العبرة" وهي قاعدة أو معيار معين لتحديد معدلات جباية الخراج،وقد تعرض هذا المعيار لكثير من التبدل والتطوير خلال فترة الدولة الإسلامية وذلك بسبب تغير وتطور العوامل والظروف الأخرى ذات العلاقة بعملية تحديده كالأسعار والعوامل البيئية المؤثرة على الإنتاج الزراعي وغيرها (السامرائي،1990: 791).
وفيما يتعلق بموعد جباية الخراج،فان هنالك اعتبارات عدة تتحكم في تحديد نمط الفترة ،كأن تكون الفترة دورية ومن ثم تجبى بشكل منتظم كل فترة محددة عادة حولا كاملا(سنة)، أو تكون الفترة موسمية تتناسب مع فترات حصاد الزروع والأثمار(الأبجي، 1990:1133)، واختيار السنة هذه، تارة يكون بالتقويم الهجري القمري إذا كان الخراج يجبى على أساس مساحة الأرض ،وتارة يكون بالسنة الهجرية الشمسية إذا كان يجبى على أساس مساحة الزرع (السامرائي،1990: 793).وقد استعملت عدة مصطلحات لاستيفاء الضرائب المفروضة على الأراضي الخراجية من قبيل الطبول ،وطبول السلطان ،وطبول المسلمين،والنجوم ،والأقساط،وهي كلها تشير إلى أسلوب دفع الضريبة، أي الدفعات أو الأقساط التي يتم بواسطتها تسديد الإنسان لما بذمته من ضريبة الخراج(السامرائي،1990 :803).
وفي عصرنا الحاضر لكي يتم تحصيل هذا الإيراد المهم للدولة الإسلامية فإننا في حاجة إلى تعيين الأراضي الخراجية وحدودها التابعة للدولة الإسلامية ،إذ يقول الصدر(قده):"..نصبح اليوم في مجال التطبيق بحاجة إلى معلومات تاريخية واسعة عن الأراضي الإسلامية ومدى عمرانها ،لنستطيع أن نميز في ضوئها المواضع التي كانت عامرة وقت الفتح من غيرها من المواضع المغمورة "إلا إنه يرى من الصعوبة الحصول على تلك المعلومات لذلك تبقى العملية متوقفة على الظن الذي اكتفى به أكثر الفقهاء،فكل ارض يغلب على الظن إنها كانت معمورة حال الفتح الإسلامي تعتبر ملكا للمسلمين(الصدر، 1973 :411).
نستخلص مما سبق إن الخراج هو مبلغ من المال تقتطعه الدولة من مالك منفعة الأرض من غير المسلمين وهذه الأرض إما تكون تابعة لملكية الدولة الإسلامية، أو تابعة للملكية العامة للمسلمين،والخراج يسري على الأراضي التي فتحها المسلمون عنوة ،وفرضه بهذا الشكل وجبايته من موارده التي عرفناها إنما يكون لأجل المساهمة في تحقيق التوازن الاجتماعي في المجتمع الإسلامي ،بين من يملكون ومن لا يملكون في الزمان الواحد ،وكذلك تحقيقاً للتوازن بين الأجيال المتعاقبة من المسلمين ،جيل ينعم بفتوحات وما ينتج عنها من غنائم، وأجيال لاحقة تنعم باستقرار وانتشار الإسلام .
الأوقاف
تمثل الأوقاف أحد مصادر الإنفاق العام للدولة الإسلامية ،وهي تعتبر أحد الدعائم الاقتصادية المهمة في الاقتصاد الإسلامي والتي تساهم بصورة فعالة في إعادة توزيع الثروة وعدم تراكمها ،وكذلك في تنظيم صرف الأموال وتوجيهها نحو خدمة المصالح العامة للمجتمع ،وبالأخص فيما يتعلق برعاية الفقراء والمحتاجين والعاجزين والضعفاء(الحكيم،2003: 400) .
والوقف هو "تحبيس الأصل وتسبيل المنفعة" ،وإذا تم بشروطه الشرعية خرج المال الموقوف عن ملك الواقف وأصبح مما لا يوهب ولا يورث ولا يباع إلا في موارد معينة يجوز فيها البيع(السيستاني، 2003 :455).
وهذه العملية يلتزم بها المسلمون والدولة الإسلامية حيث تتم وفق أحكام الشريعة الإسلامية وتمنح فيه الصلاحيات للواقف أن يضع شروطه الخاصة ويوجه الصرف فيه بالطريقة المناسبة التي يراها (الحكيم،2003: 400)، فقد يوقف المسلم جزءا من ممتلكاته المالية أو العينية أو كلاهما للأنفاق على الفقراء والمساكين أو إنفاقها على وجوه البر المختلفة كبناء المساجد والمدارس والحسينيات والمستشفيات، وهذا الإجراء يوفر للدولة الإسلامية تامين بعض الحاجات المالية لأفراد المجتمع ،وقد شجع الإسلام الحنيف على هذا العمل الصالح وحث عليه لما يترتب عليه من ثواب عظيم في الآخرة ،فضلا عن أثره الفعال في تحسين الأوضاع الاقتصادية للمجتمع الإسلامي مما جعل من عملية وقف الأموال تتم بصورة واسعة ،وقد جاء عن الإمام جعفر الصادق(ع) قوله:"ستة تلحق المؤمن بعد وفاته ،ولد يستغفر له ومصحف يخلفه وغرس يغرسه وبئر يحفرها وصدقة يجريها وسنة يؤخذ بها من بعده(من لا يحضره الفقيه،ج4،باب الوقف والصدقة) ، ،كما قام النبي(ص)بوقف الحيطان السبعة وهي :"الدلال"و"العواف"و"الحسنى"و"الصافية"و"ما ل أُم إبراهيم"و"المنبت"و"برقة"، كما قام الأئمة (ع) من بعده بذلك،فقد روي إن الإمام علي(ع) قد وقف ماله بعد انصرافه من صفين، و جاء في وصية كتبها(ع) بهذا الشأن"هذا ما أمر به عبدالله علي بن أبى طالب في ماله ابتغاء وجه الله ليولِجَه به الجَنَّة ويُعطِيَهُ بِِِِِهِ الأمَنَة،...ويشترط على الذي يجعلُهُ إليه أنْ يترك المال على أُصوله ويُنفق من ثمره حيث أُمِرَ به وهُدِيَ لَهُ ،وانْ لا يَبيع من أولاد نَخْلِ هذه القرى وَدِيَّةً حتى تُشكِلَ أرضُها غِراساً..." (نهج البلاغة،ج3 :22)،كما قامت السيدة فاطمة الزهراء (ع) بوقف أموالها وجعلت الإمام علي عليه السلام ولياً عليها .
والوقف في الشريعة الإسلامية يكون على قسمين(الحكيم،2003: 402):-
1- الأوقاف العامة :وهي الأوقاف التي يكون هدفها خدمة المصالح العامة للمجتمع الإسلامي ككل ،كالمساجد والمدارس والحسينيات والمكتبات والأراضي والقناطر ونحوها.
2- الأوقاف الخاصة:وهي الوقف المعروف بالوقف(الذري) أي الوقف على الذرية أو العائلة بحيث تختص هذه العائلة بالاستفادة منه،ويصرف في شؤونها الخاصة من سكن أو طعام أو زواج أو تعليم... الخ.
ويمكن أن نلاحظ إن الأوقاف تتميز عن الموارد المالية السابقة إنها تخضع لشروط الواقف نفسه،ومن ثم يقوم بصرف أمواله بالطريقة التي يراها مناسبة ،فهنالك مرونة بالصرف وخصوصية في الفائدة،وهذا الأمر قد ساعد وبشكل كبير على دعم الإمكانيات المالية والاقتصادية للدولة الإسلامية وتحسين أوضاعها (الحكيم،2003 : 403) ، ويمكن أن نرى مدى استجابة الأفراد لهذه العملية الإنسانية الإسلامية من خلال العدد الكبير من الأوقاف العامة والخاصة وانتشارها في عموم الدول الإسلامية كالمساجد والمدارس والحسينيات والمكتبات العامة والطرق العامة وغيرها.
الخُمُــــسْ
الخمس – بضمتين- أو إسكان الثاني- اسم لحق يجب في المال يستحقه من تضمنته الآية الكريمة رقم(41) من سورة الأنفال( السبزواري، 2003: 17) فهو من الفرائض المالية المؤكدة المنصوص عليها في القرآن الكريم،إضافة إلى الكثير من الأحاديث والروايات المروية عن النبي(ص)وأهل البيت عليهم السلام التي تؤكد على أهميته ودوره الكبير في تحسين الأوضاع الاقتصادية للمجتمع الإسلامي،كما تبين بعض هذه الأحاديث اللعن على من يمتنع عن أدائه وعلى من يأكله بغير استحقاق.
إن الخمس من أهم التشريعات الإسلامية الاقتصادية في النظرية الإسلامية،وذلك لسعة دائرة الأموال المتعلقة به وأهميتها بحيث يجعله ذلك من أهم موارد الدولة الإسلامية (الحكيم، 2003: 408)، ولسعة الأموال المتعلق بها الخمس وتنوعها،فضلا عن ارتفاع النسبة المئوية التي يستقطع منها الخمس وهي 20% ، فان ذلك يوفر للدولة الإسلامية مبالغ مالية ضخمة تستطيع من خلالها الإنفاق على الفئات المستحقة للخمس ،ومن ثم تحقيق الاستقرار الاقتصادي والعدالة الاجتماعية في المجتمع الإسلامي، وهو بذلك يعد أحد أهم روافد النظام الضريبي في الإسلام فيجب الاهتمام به قولا وعملا ، وجلب رضا الله تعالى في تطبيقه وجني ثمراته الطيبة(السبزواري، 2003: 17).
فالخمس حق مالي فرضه الله عز وجل على عباده في موارد مخصوصة ،فكلفهم بإخراج سهم واحد من كل خمسة أسهم مما يحصلون عليه من تلك الموارد أي ما يساوي 20% من الأصل(بحر العلوم،1989: 34).
أصل تشريع الخمس
إن أصل تشريع الخمس في القرآن الكريم هو بنص آية الخمس من قوله تعالى:"واعلموا إنما غنمتم من شيء فان لله خُمسَهُ و لِلِرسول ولِذي القُربى واليتامى والمساكين وابن السبيل "(الأنفال،41)،فهذه الآية وطبقا لرأي فقهاء أهل البيت(ع) وان وردت لسبب خاص إلا إن حكمها عام ،فهم يعتبرون نصفه للإمام ونصفه لذوي القربى من الرسول(ص) ،فضلا عن أن لفظ الخمس في القرآن الكريم لم يرد إلا في ها الموضع فكان مختصا به من غير منازع ،وقد تضمن مجموعة من الأحكام الشرعية التي أهمها وجوب الخمس ،وعموم متعلقه فيشمل مطلق ما يغنم والفائدة ،علاوة على كون الخمي من العبادات (السبزواري،2003: 22)، كما إن هناك آيات أخرى يمكن الاستدلال بها لإثبات وجوب الخمس و الحث على التصدق على ذي القربى وإيتاء حقوقهم منها قوله تعالى:" ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى فلله وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل كيلا يكون دولة بين الأغنياء منكم وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا واتقوا الله إن الله شديد العقاب"(الحشر،7) و قوله تعالى:" وآت ذا القربى حقه والمسكين وابن السبيل"(الإسراء،26)أما روايات أهل البيت (ع) بخصوصه فهي عديدة منها ،كتاب النبي (ص) لعبد القيس عندما وفدوا عليه سنة تسع من الهجرة ،فكتب(ص):" بسم الله الرحمن الرحيم هذا كتاب من محمد رسول الله لعبد القيس وحاشيتها من البحرين وما حولها آمركم بأربع: آمركم بالإيمان بالله،وهل تدرون ما الإيمان بالله؟ شهادة أن لا اله إلا الله،وان محمد رسول الله،و إقام الصلاة ،وإيتاء الزكاة ،وتعطوا الخمس من المغنم"(صحيح البخاري،ج1 :22-23،ج2 :131،ج4 :250،ج5 :213)(صحيح مسلمج1 :36) ،ويحمل (المغنم) أو (ما غنم) على مطلق الغنيمة ،إ ذ لم يعرف من هذه القبيلة حرب وهم على ضعف من حيث العدد والعدة السبزواري،2003 : 45)، ومنه أيضا كتابه(ص) إلى أهل اليمن لما قدم وفدهم إليه(ص) ،فكتب لعمرو بن حزم حين بعثه إلى اليمن:" بسم الله الرحمن الرحيم هذا بيان من الله ورسوله (يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعهود) عهد من محمد النبي رسول الله لعمرو بن حزم حين بعثه إلى اليمن :أمره بتقوى الله في أمره كله، وأن يأخذ من المغانم خمس الله ، وما كتب على المؤمنين من الصدقة من العقار عشر ما سقي البعل وسقت السماء، ونصف العشر مما سقى الغرب"(الترمذي ج3 :17)، وعن الإمام أبي جعفر(ع):"كل شيء قوتل عليه على شهادة إن لا إله إلا الله وان محمدا رسول الله فان لنا خمسه ولا يحق، لأحدٍ أن يشتري من الخمس شيئاً حتى يصل إلينا حقنا"(الكافي،1365هـ .ش ،ج1، باب الخمس:545)، كما إن هناك روايات من أهل السنة تؤكد على إن الرسول (ص)اخذ الخمس من غير غنائم الحرب كالركاز (الكنز) أو (الذهب والفضة) أو (المعدن) ،وهذا ما أكده القاضي أبو يوسف في كتاب الخراج حيث ذكر ذلك و أضاف (الغوص)،وروي عن ابن عباس قوله:كان الخمس يقسم على ستة ،لله وللرسول سهمان ،وسهم لأقاربه حتى قبض ،وكان الخمس لذوي القربى تعويضا عن الصدقة كما جاء في روايات قوية عن الفريقين(تسخيري،2003: 277) ، والمراد من الخمس هنا هو الخمس العام الشامل لجميع المغنم والفوز بالشيء كما يدل على ذلك قول النبي (ص):" وفي الركاز الخمس" ( المغني ، ج2: 616- 622).
الأموال التي يتعلق بها الخمس
يتفق اغلب المسلمون على تعلق الخمس بغنائم الحرب و الركاز(الكنز)، أما المعادن فقد اختلف جمهور المسلمين في تعيين المقصود بالمعادن والتي تفرض عليها الضريبة كما اختلفوا في تحديد نسبة الضريبة المفروضة عليها وهل تكون الخمس أو العشر(السامرائي، 1990: 806)ومع ذلك يرى اغلبهم وجوب الزكاة فيها ولكن بتفصيل فيما بينهم(الحكيم، 2003: 408).
ولكن إذا رجعنا إلى القران الكريم والسنة النبوية –وطبقا لرأي أهل البيت عليهم السلام- فان الأموال التي يتعلق بها الخمس سبعة أصناف هي(السيستاني، 2003: 253) :-
1. غنائم الحرب.
2. المعادن.
3. الكنز(الركاز في مصطلح الجمهور).
4. الغوص(وهو ما يستخرج من البحر من الأموال الثمينة كاللؤلؤ والمرجان ).
5. المال الحلال المختلط بالحرام.
6. الأرض التي اشتراها الذمي(غير المسلم) من المسلم.
7. أرباح المكاسب.
قال الشيخ الطوسي(رحمه الله) :"والخمس واجب ٌ في كل مغنم ...والغنائم كل ما استفيد بالحرب من الأموال والسلاح والأثواب والرقيق وما استفيد من المعادن والغوص والكنوز والعنبر وكل ما فضل من أرباح التجارات والزراعات والصناعات من المئونة والكفاية في طول السنة على الاقتصاد"(تهذيب الأحكام،1365هـ. ش ،ج4 :121).
مستحق الخمس
يقسم الخمس بنص آية الخمس على ستة أقسام،يقول الله تعالى :"واعلموا إنما غنمتم فان لله خمسه وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل"(الأنفال،41)،و توضح هذه الآية المباركة إن هذه الأقسام الستة تنقسم على قسمين هما :الأول،يتمثل في ما أفادته الآية "فإن لله خمسه وللرسول ولذي القربى ".والثاني، وهو ما بقي من الأقسام "اليتامى والمساكين وابن السبيل"،ويقول فقهاء الإمامية: إن الأقسام الثلاثة الأولى هي بيد النبي(ص) أو الإمام من بعده ،أما الأقسام الثلاثة الثانية فهي لليتامى والمساكين وابن السبيل من بني هاشم اعتمادا على ماورد في هذا التخصيص من الأخبار التي أفادت بان الله حرم على بني هاشم الصدقة فأبدلهم بالخمس(بحر العلوم ،1989: 35) ،فعن ابن معاذ قال : قال النبي(ص) :" إنا لا نأكل الصدقة" ( صحيح مسلم، ج3: 117)، كما ورد عن بهزين حكيم عن أبيه عن جده قال : (كان رسول الله (ص) إذا أتي بشيء سأل أصدقة هي أم هدية ؟ فإن قالوا صدقة لم يأكل وإن قالوا هدية أكل) ( سنن الترمذي، ج2: 83)،و قال الإمام الصادق(ع):"إن الله لا إله إلا هو لما حرَّم علينا الصدقة انزل لنا الخمس فالصدقة علينا حرام والخُمس لنا فريضة والكرامة لنا حلال"(الفقيه،ج2، باب الخمس،39 )،وقد سُئل الإمام الصادق (ع) عن قوله تعالى "واعلموا إنما غنمتم..." فقال:"خمس الله للإمام وخمس الرسول للإمام وخمس ذوي القربى لقرابة الرسول الإمام واليتامى يتامى آل الرسول والمساكين منهم و أبناء السبيل منهم فلا يخرج منهم إلى غيرهم"(وسائل الشيعة ،ج9: 510).
أهمية الخمس في النظام المالي الإسلامي
إن كثرة الأموال التي يتعلق بها الخمس وتنوعها واتساع دائرتها-وهو ما أشرنا إليه قبل قليل- يبين أهمية الخمس و الدور الذي يقوم به في تحسين الأوضاع الاقتصادية للجماعة المؤمنة وتحقيقا للعدالة الاجتماعية في المجتمع الإسلامي،فقد كان ولازال الخمس يمثل أهم مصدر من المصادر المالية في النظام المالي للجماعة الصالحة المؤمنة –على حد تعبير السيد الحكيم(2003: 421)- فهو يعتمد عليه بشكل أساسي في مختلف النفقات العامة والخاصة للجماعة ، وخاصة فيما يتعلق بالشؤون العامة منها،من جهة أخرى فان الخمس يهدف إلى تحقيق العدالة الاجتماعية فهو عبارة عن صورة من صور التكافل الاجتماعي والذي يريده الإسلام ويحرص على تطبيقه حيث يجعل من الغني والفقير مجموعة واحدة يتحسس البعض منها بما يحيط بالآخر من العوز والحاجة،فالفقير يشعر بهذا العطف من الغني ولابد له يوما ما من أن يقدر له هذه العواطف ليقف إلى جانبه فيما يبتلي به من القضايا التي يحتاج فيها إلى ما يساعده عليها ،وبذلك يكون المجتمع يدا واحدة بغض النظر عن الأفراد والقوميات(بحر العلوم ،1989: 36)، وللخمس أبعادا اقتصادية لا يمكن تجاهلها ، وهي بذلك تشكل دليلا آخر على أهمية الخمس وتزيد من مستوى الاهتمام الإسلامي بأدلته والمحافظة عليه(السبزواري، 2003: 108)، ويذكر لنا السيد الحكيم (قده) عدة أبعاد اقتصادية مهمة تتعلق بالخمس منها (الحكيم، 2003: 421):-
1. الإمكانيات المالية الواسعة التي يوفرها ،حيث انه يشكل نسبة مئوية عالية من مجمل الثروة العامة للمجتمع الإنساني ،مما يجعل تحت يد الإمام –صاحب الخمس- إمكانيات مالية كبيرة جدا يقدم من خلالها خدمة عظيمة للإسلام والمسلمين والأهداف المقدسة ،وبذلك يكون الخمس أكثر أهمية من الصدقات (الزكاة) لارتفاع النسبة المئوية فيه.
2. المرونة في الخمس ،حيث انه ملكا للإمام (ع) ويختص به فان ذلك يعطيه صلاحيات واسعة في التصرف به ،وسعة في دائرة مصرفه،ومن ثم فان الإمام يتحمل النقص في نفقات السادة من بني هاشم –فالخمس حقا للسادة من ذرية الرسول عوضا عن الزكاة-،كما انه ينفقه في الشؤون العامة عند الزيادة منه،فهذه الصلاحيات تعطي المرونة وفرصة للاستفادة من هذا المال وتوجيهه في مختلف المجالات والمصالح العامة التي يشخصها الإمام أو المرجع الديني النائب عن الإمام.
3. الأبعاد العقائدية والروحية للخمس، فالخمس هو حق أهل البيت(ع) ومن ثم فان دفعه لهم يعني التعبير عن الاعتقاد بأحقيتهم و مظلوميتهم كما يعبر عن الولاء والوفاء بالعهد والنصرة لهم بالمال.
4. البعد التنظيمي للخمس ،من حيث انه يعبر عن مدى ارتباط المسلمين بالولاية والمرجعية من خلال المشاركة المالية في إدارة شؤون الجماعة الصالحة المؤمنة وتغطيتها لمصاريفها العامة ،وفي هذا تعبير عن مدى الانتماء والعضوية للجماعة.
5. البعد التطبيقي العملي للخمس، فمن خلال دراسة الواقع التاريخي للائمة عليهم السلام وللجماعة الصالحة ،يتبين إن الخمس كان يمثل ولازال المحور الأهم في الموارد المالية التي يعتمد عليها في تغطية المشاريع المختلفة من قبيل؛ إقامة الحوزات العلمية والمدارس الثقافية في مختلف البلاد حيث يكون التدريس فيها مجانا ،دفع نفقات العلماء والمبلغين والإرساليات التعليمية والإرشادية ،دفع نفقات طبع ونشر الكتب الدينية ،وبناء و إدارة المساجد والحسينيات والمراقد للائمة (ع)،أعمال الإغاثة في الحوادث الاستثنائية كالزلازل والسيول والفيضانات وغيرها من الكوارث ،وتقديم بعض الخدمات العامة مثل بناء القناطر وبيوت الضيافة العامة للزوار وغيرها،تغطية نفقات الفقراء والضعفاء والمحتاجين المضطرين سواء أكانوا من بني هاشم عامة أم من أبناء الرسول(ص) خاصة من سهم السادة أم كانوا من عامة الفقراء والضعفاء والمحتاجين من أبناء الجماعة الصالحة ،وهذا كله يكون بإذن وإشراف المرجع الديني العام.
التكافل الاجتماعي
إن التكافل الاجتماعي هو واجب يفرض فيه الإسلام على المسلم أن يتحمل مسؤولية خاصة تجاه بقية المسلمين الذين عليهم كفالة بعضهم البعض ، فهو واجب شرعي كسائر الواجبات الشرعية الأخرى التي يحرم مخالفتها ،ويجب على المسلم أداء هذه الفريضة في حدود ظروفه وإمكاناته كما يؤدي سائر فرائضه، ، ويكون للدولة الإسلامية حق إلزام المسلمين وحملهم على القيام بهذا الأمر بمقتضى الصلاحيات المخولة لها،أما المجالات التي يمكن من خلالها تحقيق التكافل الاجتماعي فهي تدور في مجالين رئيسيين(الحكيم، 2003: 437)هما:
1) الصدقات العامة
لقد حث القرآن في آيات عديدة وموارد كثيرة على البذل والإنفاق إلى الطبقات الضعيفة لإنعاشهم و إبعاد شبح الفقر عنهم كما وقد تعددت الأسباب التي عرض بها هذه الفكرة والطرق التي سلكها لتحبيبها إلى النفوس، فمرة يحث على الإنفاق عن طريق الترغيب والتشويق إليه ومرة ثانية من خلال التأنيب على عدم القيام به ومرة ثالثة من خلال الترهيب والتخويف على عدم الإنفاق(بحر العلوم ، 1989: 40-41)، وقد ورد في مجال الصدقات العامة عدة نصوص تبين أهميتها والآثار المترتبة عليها ،منها قوله تعالى :" وآتوا حقه يوم حصاده" وقد ورد في تفسير هذه الآية إنه يجب دفع مقدار من أموال الغلات عند حصادها قبل خرصها غير النسبة المئوية المرتبطة بالزكاة،وفي قوله تعالى :" وفي أموالهم حق معلوم للسائل والمحروم" تأكيد على إن هذا الحق واجب مالي غير الزكاة ولكن تُرك تعيينه إلى صاحب المال يخرجه حسب وقت ومقدار معلومين يشخصه صاحب المال نفسه(الحكيم، 2003: 428)،كذلك قوله تعالى:"إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل الله وابن السبيل فريضة من الله والله عليم حكيم"،"والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب اليم يوم يحمى عليهم في نار جهنم فتكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم هذا ما كنزتم فذوقوا ما كنتم تكنزون"، وعن النبي(ص) قال:" على كل مسلم صدقة قيل أرأيت إن لم يجد قال يعتمل بيديه فينفع نفسه ويتصدق قال قيل أرأيت إن لم يستطع قال يعين ذا الحاجة الملهوف قال أرأيت إن لم يستطع قال يأمر بالمعروف أو الخير قال أرأيت إن لم يفعل قال يمسك عن الشر فإنه صدقة"( صحيح مسلم، ج3: 83)وعن الصادق(ع)انه قال: قال رسول الله(ص):" الصدقة تدفع ميتة السوء"، وعن الصادق(ع) أيضا قال:" ما أحسن عبد الصدقة في الدنيا إلا أحسن الله الخلافة على ولده من بعده" (وسائل الشيعة ،ج9،أبواب الصدقة،367) فالقيام بحقوق المحتاجين يعد مبدأً مهما في فلسفة الإسلام المالية حتى اعتبره بعض الفقهاء حق لازم كالأجر الذي يتقاضاه الأجير في نهاية عمله ،فهو واجب في عنق الدولة وفي عنق الأغنياء على حد سواء،كما جاء أيضا في قوله تعالى:"وآتِ ذا القربى حقه والمسكين وابن السبيل ولا تبذر تبذيرا"(الإسراء،26) وبهذا غرس القران الكريم في روع المسلم وفي وجدانه وفي ضمائر القادة والحكام إن للفقير حقه المحتوم في مال الغني وفي مال الدولة ويجب عليهما أداؤه (عفيفي،1980: 119).
إن التأكيد على أهمية الصدقات العامة ووجوبها في رأي بعض الفقهاء ما هو إلا تأكيد على الدور الذي تقوم به في إرساء جانب التكافل والتضامن الاجتماعي بين عموم أفراد المجتمع الإسلامي ، من جهة أخرى فان وجوب هذا النوع من النفقات هو وجوب يضعه ولي الأمر(الحاكم الشرعي) ضمن الصلاحيات والمسؤوليات العامة التي يتحملها تجاه المجتمع والمصالح التي يشخصها لتحقيق الضمان الاجتماعي للفقراء(الحكيم، 2003: 429) ،وهو يدخل كما أشرنا من قبل في منطقة الفراغ في الاقتصاد الإسلامي التي تخضع لإشراف ولي الأمر وتدخله لحماية المصالح العامة للمجتمع الإسلامي.
2) حقوق المؤمنين
أما المجال الثاني الذي يقع فيه التكافل أو التضامن الاجتماعي فهو من خلال مساعدة المؤمن لإخوانه المؤمنين وتحمله مجموعة من الواجبات والمسؤوليات تجاههم باعتباره أحد أعضاء الجماعة المؤمنة الصالحة،ومن أنواع المساعدة التي يمكن أن يقدمها المؤمن لأخيه المؤمن هي المساعدة المالية فمن واجب المؤمن الإنفاق على أخيه المؤمن وسد حاجاته ،وقد اعتبر الإسلام هذا العمل من الواجبات الحقيقية الواقعية التي يجب أن يتحملها الإنسان المؤمن ضمن الواجبات والحقوق الأخرى ، فعن الإمام الصادق(ع) انه قال:"المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يخذله ولا يخونه ويحق على المسلمين الاجتهاد في التواصل والتعاقد على التعاطف والمواساة لأهل الحاجة وتعاطف بعضهم على بعض حتى تكونوا كما أمركم الله عز وجل رحماء بينكم متراحمين مغتمين لما غاب عنكم من أمرهم على ما مضى عليه معشر الأنصار على عهد رسول الله(ص)"(وسائل الشيعة ،ج2 :542 )،ويجوز للمؤمن أن يشكي حاجته إلى أخيه المؤمن خاصة وإعلام إخوانه المؤمنين بالضيق عند الضرورة ،فعن الصادق(ع) انه قال:"إذا ضاق احكم فليعلم أخاه ولا يُعين على نفسه"، وعن أمير المؤمنين(ع) قال:"من شكا الحاجة إلى مؤمن فكأنما شكاها إلى الله ومن شكاها إلى كافر فكأنما شكا الله" (وسائل الشيعة ،ج2 :447)،وفي هذا تأكيد على واجب المؤمن ومسئوليته تجاه أخيه المؤمن.
من جانب آخر ،فضلا عن كون مساعدة الأخوان يمثل صفة أخلاقية تكاملية في شخصية الإنسان المؤمن، فانه يعتبر أيضا من الواجبات الخاصة التي يجب الالتزام بها لإحكام النظام التنظيمي للجماعة المؤمنة وتقوية العلاقات العامة بينها(الحكيم، 2003: 431)
الواردات المالية الأخرى
فضلا عن ما سبق فان هنالك واردات مالية أخرى تدخل الخزينة العامة للدولة منها :-
1. الضرائب المالية التي يفرضها ولي الأمر على مختلف المرافق الحياتية مثل؛العشور والمكوس التي تتقاضاها الدولة على السلع الواردة والضرائب المفروضة على الصناعات والزراعة والضرائب التي تتقاضاها الدولة نتيجة المخالفات (الغرامات).
2. واردات الهبات الشعبية للدولة أو الوصايا لها .
3. الأموال التي ليس لها مستحق (لم يتعين مالكها) ،والأموال التي ليس لها وارث.
4. الواردات المالية للأنشطة الاقتصادية التي تقوم بها الدولة نفسها في السوق بعنوان القطاع العام، فيمكن للدولة أن تتملك بعض وسائل الإنتاج تبعا لمصلحة المجتمع الإسلامي، أو أن تقوم بإحياء الأراضي واستغلالها لحساب بيت المال مباشرة.
5. بعض الواجبات المالية المفروضة على الأفراد كالكفارات ،فهي تشكل موردا ماليا لا يستهان به إن طبقت أحكام الشريعة بحق .
2: مواضع صرف الواردات المالية
تمثل النفقات الجانب الآخر للموازنة العامة للدولة ، وكما أشرنا سابقا فان القران الكريم والسنة النبوية المطهرة قد حددا اغلب مواضع الأنفاق وبصورة قاطعة،كمواضع صرف الزكاة والخمس والخراج والأوقاف...الخ، أما المواضع الأخرى التي لم يتم تحديدها فقد تركت لولي الأمر ينظر فيها طبقا لصلاحيته والمصلحة العامة للمسلمين،أما أنواع النفقات التي كانت سائدة في الدولة الإسلامية فهي تنحصر بالآتي:
1. مخصصات رئيس الدولة
2. رواتب وعطاءات العمال
3. عطاء الجند
4. شراء المعدات الحربية
5. النفقة على المسجونين وأسرى المشركين من مأكل ومشرب وملبس ودفن من يموت منهم.
6. العطايا والمنح للأدباء والعلماء
7. حفر الترع للزراعة وغيرها،وكري الأنهار وإصلاح مجاريها
8. الأعطيات ،وهي بمصطلحنا الحالي الرعاية الاجتماعية أو الضمان الاجتماعي
9. نفقات عامة أخرى تصلح شؤون الناس وتقوم بتنمية الموارد الاقتصادية وتسد احتياجاتهم في قطاعات مختلفة كالصناعة والنقل والمواصلات والخدمات الصحية والتعليم والإرشاد والثقافة والدفاع والأمن والعدالة والإنشاء والتشييد والخدمات الاجتماعية.
يتضح مما سبق إن النظام المالي الإسلامي بقسميه-الواردات والنفقات- يمثل جانب مهم في الاقتصاد الإسلامي ويؤدي دورا أساسيا في تحقيق الاستقرار الاقتصادي والعدالة الاجتماعية ،والقيام بهذا الدور الحيوي والأساسي في المجتمع يتطلب وجود نظام محاسبي متقن يضمن حماية هذه المبالغ المالية الضخمة وصيانتها وكذلك يضمن صرفها في المواضع المخصصة لها ويكون ذلك بتنظيم تسجيل جباية الواردات وصرف النفقات و إعداد الموازنات العامة الخاصة بالدولة الإسلامية وطبقا للمبادئ والأسس والمعايير التي يقوم عليها الإسلام المتمثلة بالمذهب الاقتصادي الإسلامي الذي يتفرع عنه النظام المالي والمحاسبي الإسلامي ،وبالتالي نضمن تحقيق الأهداف والمصالح العليا للمجتمع الإسلامي وبالصورة التي يريدها الإسلام الحنيف ويسعى إليها.
المحور الثاني:الحركة المالية في النظام الاسلامي
تستمد الحركة المالية الاسلامية تعزيزاتها وديموماتها من ثلاثة عناصر
1)بيت المال
2)ديوان بيت المال.
3)نظام الحسبة.
1) بيت المال :ـ
عد بيت المال من أهم المؤسسات الحكومية في الدولة(المدينة)الإسلامية ،وبيت المال هو المكان الذي توضع فيه واردات الدولة(أو المدينة)من حصتها من الغنائم والجزية والخراج والصدقات وغيرها،وتعتبر هذه الواردات ملكا مشتركا للمسلمين تسجل بسجلات خاصة،و يشرف على بيت المال موظف مسئول سمي صاحب بيت المال يشرف على ما يرد بيت المال من الأموال أو يخرج منه ويوقع الموظف على جميع الصكوك التي تدخل أو تخرج من بيت المال لتكون نافذة المفعول(الزبيدي، 1970: 245).
يمكن القول إن المحاسبة المالية الإسلامية قد أسست منذ زمن النبي (ص) ، حيث نزلت نصوص قرآنية تبين أحكام مفصلة بشأنها أحيانا، وأحيانا أخرى تكون على شكل قواعد نظامية مجملة ، ،فكان النبي (ص) أول من فصل وبين هذه القواعد المحاسبية ، فعدد إيرادات الدولة ووضع مقادير الزكاة والجزية وكيفية تحصيلها ،كما بين طرق الإنفاق العام و أحكامه وكان يبعث إلى الأقاليم بأمرائه وعماله على الصدقات ويوضح لهم طرق هذه القواعد والأحكام ،كما كان (ص) يحاسبهم على المستخرج(الإيرادات) والمنصرف منها وكيفية ذلك(الجوهر،1999: 10) وكان (ص) كلما أسلمت قبيلة بعث العامل لجمع زكاة مالها ، وهو (ص) أول من انشأ لها ديوان خاص في مركز الدولة ،وكان كاتبه على الصدقات الزبير بن العوام وجهم بن الصلت أما كاتبه على خرص النخل فهو حذيفة ابن اليمان،وكان له كاتبان آخران على المداينات والمعاملات، وهذا يبين إن الدواوين قد وضعت في زمن النبي(ص)( الخياط، 1990: 932).
وحيث إن المسجد كان يمثل مركز الدولة الفتية ،والمكان الذي كان النبي (ص) يقوم فيه بالحكم وإدارة شؤون الدولة ،فإن بيت المال في عهد النبي (ص) كان يقع في المسجد أيضا، فكان النبي (ص) يتولى عملية تنظيم واستلام وتوزيع الأموال بنفسه فكانت الأموال التي تجمع من الغنائم أو نحوها تقسم على أصحابها ومستحقيها أولاً بأول ، وبحسب حاجة كل فرد فإذا زادت الأعطيات وبقي منها شيء أعيد توزيعها ثانية بين المسلمين ، لذلك لم تكن هنالك حاجة لوجود هيئة محددة تتولى الشؤون المالية والمحاسبية في حينه. وبدأت حركة التحرر الإسلامية منذ عهد النبي الأكرم(ص) حيث وجه الجيوش الإسلامية في بادئ الأمر إلى الشام، و قبيل وفاته كانت الجيوش قد وصلت إلى مؤتة حيث دارت المعركة الشهيرة هناك، وبعد وفاته(ص) استمرت عملية فتح الأراضي سواء أكان ذلك عنوة أم صلحا ،فحررت الأراضي الواقعة غرب الفرات وفتحت الشام عام 13هـ،وحررت فلسطين عام 15هـ/666م، وحرر العراق في السنة ذاتها ،واستمرت حروب التحرر فحررت مصر ثم أفريقيا ،ثم حررت الجزيرة والجبل وأرمينية والري وأذربيجان واصبهان، وكان من النتائج الأساسية، لحروب التحرر تلك تدفق الأموال على المسلمين بشكل وفير ومستمر وازدياد عدد الجند ونفقاتهم فأصبح من الصعب ضبط تلك الأموال دون تدوين، مما استدعى ذلك وجوب وجود نظام يتحكم في تلك الأموال وينظم توزيعها ويحفظ ما زاد منها (اليوزبكي،1988: 132)،لذلك بدأت التنظيمات الإسلامية بالتشكل والظهور نتيجة الحاجة إليها،فاتخذت نظما تنسجم مع واقع الشريعة الإسلامية فاستحدث ديوان بيت المال(الدجيلي،1976 :26)، ولدراسة بيت المال لابد من تحليل أبعاده الثلاثة(سند، 2003: 115) وهي:
أ- ما المقصود ببيت مال المسلمين وما هو موضوعه؟
ب- ما هي مصادر تمويل هذا البيت؟
ج- ما هو النظام المتبع في جباية الأموال واستلامها ، ثم صرفها وتوزيعها؟
أ)ماهية بيت مال المسلمين:
إن بيت المال هو اصطلاح أطلق على المؤسسة التي قامت بالإشراف على ما يرد من الأموال وما يخرج منها في أوجه النفقات المختلفة ، ويسمى أيضا بيت مال المسلمين حيث تبين هذه العبارة الاتجاه الديني للأموال ، أما تسمية (بيت مال العامة ) فقد جاءت في العصور المتأخرة حيث استحدث بيت المال الخاص ، وقد استخدم هذا التعبير للتفريق بين بيت المال وبيت المال الخاص(الدجيلي،1976 :14). وكان كل مال لا وارث له أو لا مالك له يضم إلى بيت مال المسلمين فيصبح من المال العام ، ثم تعددت بيوت المال في العواصم والمدن باتساع الدولة الإسلامية وتعدد أقاليمها .
وفي عهد الدولة الأموية كانت تخصص للخليفة مخصصات من بيت مال المسلمين, حيث تنفق هذه المخصصات على بيت الخليفة وسرادقه وستوره وغير ذلك ،فلما تولى عمر بن عبدالعزيز الخلافة أقاموا له في اليوم الأول لخلافته هذه السرادق والستور وقدموا إليه الثياب والفرش حسب العادة ،اعرض عن هذا كله،وأبطل العمل به وقال لتابعه مزاحم:يا مزاحم ضم هذا إلى بيت مال المسلمين وقدموا إليه قوارير العطور والطيب التي كانت تخصص للخليفة ، فرفضها أيضا و أبطلها وقال لتابعه:ضمها إلى بيت مال المسلمين(الشرباصي،1977 :193)،وكان بيت المال يمثل أحد الدواوين ذات الأهمية العظيمة في الدولة الإسلامية حتى انه كان يسمى ب(الديوان السامي)لأنه أصل الدواوين ومرجعها إليه(اليوزبكي،1988 :132 ).
ويمثل بيت المال بمصطلح عصرنا الحاضر الخزينة العامة أو وزارة المالية ،وهو عنوان اعتبره الشارع مالكا ولا ينحصر عنوان بيت المال في نطاق ملكية الدولة العامة بل يعمم ملكيتها الخاصة(سند، 2003 :115) ومن ثم فان جميع الأنشطة الاقتصادية والمالية والتجارية ...الخ التي تقوم بها الدولة والتي تدر أموالا وأرباحا ، فإنما تتملكها الدولة باعتبار إنها لبيت مال المسلمين ،وكذلك جميع مصادر الدخل للدولة فانه يدخل ضمن بيت مال المسلمين، وتصرف الدولة بهذه الأموال يكون نيابة عن المسلمين كافة وليس لفرد دون آخر ، والشارع المقدس اقر ذلك القصد و أمضاه(سند، 2003 :111 )، ويترتب على ذلك وجوب احترام الخزانة المالية للدولة الوضعية وان مال الدولة هو مال غير مباح ولا يجوز أخذه - بدون وجه حق- كما لا يجوز التلاعب به لوجوب حفظ النظام .لذلك يكون بيت المال عبارة عن الجهة التي يسند إليها العناية بأمر المال الذي يستحقه المسلمون – دون تعيين مالك منهم – سواء أكان داخلا إلى حرزه(خزانته) أم لم يدخل ، لان بيت المال عبارة عن الجهة لاعن المكان وكل حق وجب صرفه في مصالح المسلمين فهو حق على بيت المال(عفيفي، 1980 :138)، ويعتقد أن المحاسبة نظاما قد ابتدأت مع إنشاء الدواوين ، لغرض تسجيل إيرادات ونفقات بيت المال (ZAID,2003).
ب)مصادر تمويل بيت المال:
تتكون مصادر بيت المال من كل مال استحقه المسلمون ولم يتعين مالكه منهم حقا من حقوق بيت المال، وفي هذا السياق يعرف الماوردي إيرادات بيت المال بأنها "كل مال استحقه المسلمون ولم يتعين مالكه منهم فهو من حقوق بيت المال فإذا قبض صار بالقبض مضافا إلى حقوق بيت المال سواء أكان داخلا الحرز(الخزانة) أم لم يدخل لأن بيت المال عبارة عن الجهة لا عن المكان" ، وتتكون مصادر تمويل بيت المال عادة من(السند،2003، 115-116 ) :
1. الزكاة
2. الأراضي المفتوحة عنوة.
3. ما هو عنوان ملك الإمام(ع)(أو الحكومة الشرعية) وهو الأنفال: التي تتضمن بدورها :ـ
• تركة من لا وارث له.
• أراضي البوار العامة والتي استولي عليها بغير قتال والتي لا رب لها.
• غنائم دار الكفر المفتوحة من دون إذن.
• المعادن إجمالا.
• صفو غنائم دار الكفر المفتوحة بالقوة العسكرية و قطايع الملوك و مختصاتهم وغير ذلك مما أدرج في هذا العنوان.
4. المعادن التي تستخرج من اجل الشعب المسلم ،وكل الثروات الطبيعية التي تستثمرها الدولة.
5. أموال المعاهدات ،كالجزية والهدنة والصلح.
6. أرباح التجارة الخارجية.
7. عائدات الخدمات العامة داخلية وخارجية،ويدخل في نطاقها مشتريات الدولة من المواطنين ،والى غير ذلك من المنابع .
ويتعلق عمل المحاسبة الحكومية بهذه المصادر في تنظيم جبايتها واستلامها وتسجيلها وتقديرها ، أما نفقات بيت المال فيعرفها الماوردي بأنها " كل حق وجب صرفه في مصالح المسلمين فان تم صرفه في جهته صار مضافا إلى النفقات من بيت المال سواء أكان خرج من الحرز(الخزانة) أم لم يخرج لأن ما صار إلى عمال المسلمين أو خرج من أيديهم فحكم بيت المال جار عليه في دخله وخرجه" .
ج)الحركة المالية لأموال بيت مال المسلمين:
ترتبط الحركة المالية لأموال بيت المال والنظام المتبع في ذلك بكيفية تصرف الدولة على بيت المال وما يرتبط بهذا الأمر من مسك للدواوين والسجلات اللازمة لتدوين واردات ونفقات بيت المال وأسلوب أو طريقة تقدير واردات بيت المال وجبايتها وتنظيمها وتصنيفها ثم تحديد طريقة إنفاقها وصرفها وتوزيعها على المواضع المخصصة لها شرعا.
وفي بداية الدولة الإسلامية كانت الحركة المالية للأموال محدودة وكان النبي (ص)يتولى الإشراف عليها بنفسه ،وكان (ص) ينفق على المسلمين كل ما يتجمع في بيت المال ولا يبقي منها شيئا ، ولكن وبعد وفاته(ص) وبسبب الفتوحات الإسلامية ، ازدادت كمية الأموال الواردة إلى بيت المال وتعددت مصادرها وأنواعها ،فاستلزم الأمر وجود نظام مالي ومحاسبي يضمن تدوين هذه الأموال وصرفها في مواضعها ، فكانت أولى الخطوات هي إنشاء الديوان لضبط المال وتوزيعه بطريقة عادلة فوضع ديوانا للخراج لضبط أمره وتحديد مقاديره ،وكان ذلك بداية لضبط الأموال و أساس توزيع الأعمال المالية وتفرعها إلى عدة دواوين فيما بعد(النواوي،1973: 17)، ثم تبعتها خطوات متلاحقة تتمثل في تقنين النظم وتحديد الاعطيات، وهذا بدوره تطلب اتخاذ عددا من الإجراءات المهمة منها إجراء الإحصاء السكاني ، فقام كل من عقيل بن أبي طالب ومخرمة بن نوفل و جبير ابن مطعم بإجراء إحصاء للناس لكي يحسن توزيع ما يأخذون ، كما تم إجراء تصنيف عام للمسلمين لتحديد مستحقاتهم و مقدراتهم من بيت المال وتبع ذلك القيام بأعمال المتابعة والمراقبة للقائمين على بيت المال للتأكد من قيامهم بواجباتهم (عفيفي، 1980: 138)، فقد كتب أمير المؤمنين علي بن أبي طالب(ع) إلى مالك الاشتر عندما ولاه على مصر و أعمالها يقوله : (...وتفقد أمر الخراج بما يصلح أهله، فان في إصلاحه وصلاحهم صلاحا لمن سواهم ولا صلاح لمن سواهم إلا به لان الناس كلهم عيال على الخراج و أهله، وليكن نظرك في عمارة الأرض ابلغ من نظرك في استجلاب الخراج لان ذلك لا يدرك إلا بالعمارة ومن طلب الخراج من غير عمارة أخرب البلاد واهلك العباد ولم يستقم أمره إلا قليلا... و إنما يؤتى خراب الأرض من اعواز أهلها و إنما يعوز أهلها لأشراف الولاة على الجمع وسوء ظنهم بالبقاء وقلة انتفاعهم بالعبرة)(نهج البلاغة،ج3: 96- 97)ويتضح من كلام أمير المؤمنين(ع) إن الدولة تعتمد في تلافي الأموال اللازمة لنفقاتها المبرمة على الضرائب التي تجبيها من الشعب ،وان الرقي الاقتصادي للأمة يتناسب مع إنتاجها أي كلما زاد الإنتاج الزراعي والصناعي والفكري ...الخ كلما زادت الثروة الشعبية وتجلت المنافع الوطنية لذلك فليس من الحزم إن تكون الضرائب حائلا دون الرقي الشعبي وذلك عندما تكون ثقيلة الوطء على كاهل المكلف ،لان التكاليف الثقيلة تستدعي إرهاق الناس و إحداث أضرار اقتصادية واجتماعية وأخلاقية هي أعظم من المنافع التي ترجوها الحكومة من فرض تلك الضرائب(الفكيكي،2003 :204-205)، إن كتاب أمير المؤمنين إلى عامله ينطوي على أسس ومبادئ سامية في أساس فرض الضرائب وتنظيمها ،ويدعم النظام المالي والمحاسبي للدولة بقواعد متينة تزيد من عمرانها وحفظ أموالها ويحول دون خرابها وإفلاسها.(النواوي،1973: 23)، وهكذا بدا العمل في وضع أولى القواعد العلمية والعملية للنظام المالي والمحاسبي الإسلامي وطبقا للشريعة الإسلامية ،ويمكن القول إن ذلك يظهر وبوضوح مدى أهمية المحاسبة الحكومية في تدوين نشاطات الدولة الإسلامية وملازمتها لمراحل نشأتها وتطورها على مر العصور.
2)ديوان بيت المال
أ) الديوان
كانت العادة المتبعة في توزيع الأموال بين المسلمين في عهد النبي (ص) ،هي أن يقوم النبي (ص) بتقسيمها بنفسه بين المسلمين ، وإذا ما غزوا بلدا من البلدان يقوم النبي (ص) بتوزيع نصيب كل واحد بحسب ما قررته الشريعة، و كان لديه عدد من الكتاب كل واحد منهم يمسك سجلا خاصا بنوع معين من الأموال التي كان يستلمها ،ولكن لما توالت الفتوحات الإسلامية وكثرت الأموال ،تطلب الأمر وضع نظام معين لتنظيم وتسجيل أنواع الأموال المجباة ،وتحديد طرق توزيعها وصرفها في مواضعها المحددة فتم إدخال نظام الدواوين الذي سار عليه الفرس لضبط دخل الدولة وخراجها ، فتمت استعارة هذا النظام بشكله الإداري منهم في عهد الخليفة عمر بن الخطاب،أي فيما بين 15هـ و أوائل سنة 20هـ(اليوزبكي،1988 :115 ) وكان أول ديوان استحدث في ذلك الزمن هو ديوان الجند ولم ينشا بعد ديوان الخراج وغيره من الدواوين(الحسب،1984 :57).
فالديوان لفظ فارسي معناها سجل أو دفتر ،و أطلق اسم الديوان من باب المجاز على المكان الذي يحفظ فيه الديوان(حسن، 1939: 215)، ويصف الماوردي الديوان بقوله"الديوان موضع لحفظ ما يتعلق بحقوق السلطنة من الأعمال والأموال ومن يقوم بها من الجيوش والعمال" ، فهو يشمل بمصطلحاتنا المعاصرة أعمال وزارة المالية في الإشراف على الموازنة العامة ،الإيرادات والمصروفات و أعمالها وممثليها في استيفاء أنواع الضرائب والمكوس إضافة لأعمال دوائر" الميرة" أي التموين والحسابات بوزارة الدفاع،ونرى إن من أهداف نظام الدواوين مراقبة إيرادات الدولة الإسلامية ونفقاتها وضبطها والتصرف بها وفقا للسياسة المالية في الإسلام(خرا بشة، 1990: 1314) وبذلك فان الديوان يقسم على أربعة أقسام هي (الحسب،1984: 56-57 ):
1. ما يختص بالجيش من إثبات(إحصاء وتسجيل) وعطاء.
2. ما يختص بالأعمال من رسوم وحقوق.
3. ما يختص بالعمال من تعيين وعزل .
4. ما يختص ببيت المال (الموازنة ) من إيرادات ونفقات.
وكانت أهم الدواوين في عصر الدولة العباسية هي: ديوان الخراج ،وديوان الدية،وديوان الزمام(قلم مراقبة الحسابات)،وديوان الجند،وديوان الموالي والغلمان ،وديوان البحرية ،وديوان زمام النفقات ،وديوان الرسائل وديوان النظر في المظالم ،وديوان الأحداث والشرطة وديوان العطاء ،فضلا عن دواوين أخرى تتصل بالإدارة والسياسة والقضاء ،وتنظم هذه الدواوين بطريقة توضح مدى المراقبة الداخلية لأنشطة الدولة،فضلا عن الرقابة المالية التي يقوم بها ديوان الزمام على جميع دواوين الدولة،والذي يشبه ديوان المحاسبة في وقتنا الحاضر(خرابشة،1990 : 1314) .
وبذلك فان ديوان بيت المال كان يمثل الجهة التي تنظم فيها العلاقات المالية بين الدولة ورعاياها (عبد الوهاب، 1984 :255) ، فهو يهدف إلى ضبط إيرادات بيت المال ونفقاته ومحاسبة القائمين على أمور هذه الأموال ،وباستخدام وسائل عدة للرقابة المالية فيه متمثلة بآلاتي(خرابشة،1990 :1315):-
1. يجب أن تمر به جميع أوامر الصرف الصادرة من ولي الأمر لتقيد إرسالها إلى الديوان المختص بالصرف وكذلك أوامر تحصيل الإيرادات لتقيد فيه قبل نفاذها.
2. وضع علامة صاحب الديوان على هذه المستندات بعد قيدها في السجلات.
3. تحرير مستندات معتمدة من ذوي الشأن عند القيام بالصرف وتحفظ هذه المستندات في الديوان دليلا على صحة الصرف.
4. مراقبة الإيرادات وضبطها.
5. مراقبة المصروفات وضبطها.
6. مراقبة مخازن الغلال وضبطها.
7. رفع ما يلزم به الكاتب من الحسابات يوميا وسنويا ،كالموازنة التقديرية.
8. يتوجب على الكاتب أن يرفع كل ثلاث سنين كشوفا تفصيلية يذكر فيها أسماء النواحي العامرة والفدن الكادية الضعيفة ،والعاطلة ،والبذار والرجع ،ونحو ذلك من الأمور الإجمالية والتفصيلية،وهذه الكشوف تمكن متولي بيت المال من المراجعة والتحليل وهذا ما تتطلبه النظم المالية المحاسبية في وقتنا الحاضر.
وكان يقسم ديوان بيت المال على عدة دواوين منها(يحيى،2004: 130):-
• بيت المال الخاص بالصدقات و عشور الأراضي وما يأخذه الوالي من تجار المسلمين.
• بيت المال الخاص بالجزية والخراج(خراج الرأس).
• بيت المال الخاص بالغنائم والركاز(الكنوز).
• بيت المال الخاص بالضوائع (الأموال التي لا يعرف مالكها).
ب)كاتب الديوان واختصاصاته:
يستعمل لفظ "الكاتب" ليتضمن أي شخص يتحمل مسؤولية كتابة وتسجيل المعلومات سواء أكانت معلومات ذات طبيعة مالية أم غير مالية، وهذا المصطلح يعادل كلمة(accountant) في اللغة الإنجليزية، وكان الخوارزمي أول من استخدم كلمة محاسبة التي تقابل الكلمة الإنجليزية (Accountancy) ،للتعبير عن وظيفة المحاسبة ،وكلمة "محاسب" للتعبير عن الشخص المسئول عن هذه الوظيفة (ZAID,2003)، ويستلزم فيمن يشغل وظيفة كاتب الديوان توافر شرطان هما العدالة والكفاية ، فأما العدالة فلأنه مؤتمن على حق بيت المال والرعية، وأما الكفاية فلأنه يجب أن يكون مؤهلا للقيام بعمل يتطلب الدراية الفنية والأهلية في ممارسة الإجراءات الإدارية وبخاصة في تلك التي لا يمكنه فيها الرجوع إلى سلطة إدارية أعلى لبعد المسافة مثلا(الحسب،1984: 63) .
أما اختصاصات كاتب الديوان فهي (الموسوي،1998: 159-162) , (الحسب،1984: 63-64) ،(حسن وحسن،1939: 215-223):
1. حفظ القوانين والتعليمات ،وبخاصة المتعلقة بنسب ومقادير الرسوم المطلوب استيفاؤها، وهي إما إن تكون قد قدرت وقررت لبلاد تم افتتاحها توا ، أو لموات ابتدئ في إحيائها حالا، فتثبت في ديوان الناحية المعنية والديوان العام بنفس الوقت، وأما إن تكون تلك الرسوم مقررة من السابق فعلى كاتب الديوان أن يرجع إليها في ما أثبته كتاب الديوان قبله على شرط أن تكون سجلاتها مختومة ومصدقة بأختامهم.
2. استيفاء حقوق بيت المال من العاملين ، أي من سعاة الخراج ومن العمال القابضين لها ، وينظم الديوان مستندات الجباية والقبض وكذلك الإجراءات الإدارية لمعالجة سوء التصرف والغش والتدليس عند عدم مطابقة المستندات مع واقع الحال أو حدوث تزوير فيها .
3. إثبات المعاملات المقدمة (إثبات الرفوع) وهي أما معاملات ذات ارتباط بمساحات وعمل، فيصار في تثبيتها إلى مطابقتها مع الأصل في الديوان وان لم يكن لها أصل سابق فتثبت على أساس إقرار رافعها ، أو إنها معاملات قبض واستيفاء فيجري تثبيتها على أساس قول رافعها لأنه يقر بها على نفسه. أما إذا كانت معاملات صرف ونفقات فلا بد من التحقق من صحتها و إلزام رافعها في تقديم الحجج قبل تثبيتها.
4. محاسبة العمال مع ملاحظة اختلاف ذلك في حالة عمال الخراج عن عمال العشر، ففي حالة الخراج يلتزم العمال برفع الحساب ويمكن لكاتب الديوان إن يحاسبهم لان الخراج محدد في المبالغ والمساحات، أما في حالة عمال العشر فلا يملك كاتب الديوان محاسبة عماله لان العشر تابع لكمية الإنتاج الذي يعتمد تحديده على صاحبه.
5. تثبيت الكشوفات بأموال الديوان ، ويعتبر ذلك إقرارا من صاحب الديوان على ما ثبت فيه من قوانين وحقوق.
6. النظر في المظالم المرفوعة إليه ، فان كان المتظلم من الرعية ضد أحد عمال الديوان صار كاتب الديوان حاكما بينه وبين العامل وان كانت القضية تخص عاملا من عمال الديوان لتقصير أو مخالفة في عمله صار كاتب الديوان خصما له وصار رئيسه التالي حاكما بينه وبين العامل.
وكان يحتل صاحب ديوان بيت المال موقعا مهما في الدولة الإسلامية ،حيث كان هناك ارتباطا مباشرا بين صاحب ديوان بيت المال و الخليفة أو الوزير .
ج)مسميات الوظائف المحاسبية والمالية للأفراد العاملين في بيت المال:
إن مسميات مثل العامل ، والمباشر، والكاتب، وكاتب المال هي عناوين متعارف عليها في الدولة الإسلامية ،وهي تعبر عن المحاسب أو كاتب الحسابات - بمصطلحاتنا الحاضرة- وكانت هذه المسميات تستخدم بصورة متبادلة في أجزاء مختلفة من الدولة الإسلامية (ZAID,2003)، أما أهم المسميات التي كانت تطلق على الأفراد العاملين في بيت المال فهي(يحيى،2004: 130-131)،(الزهراني،1986: 459-464)،(الدجيلي،1976: 64-67):
• صاحب بيت المال: وهو يمثل أعلى سلطة مالية ، وبما إن ديوان بيت المال يمثل في وقتنا الحاضر وزارة المالية ، فان صاحب بيت المال في الدولة الإسلامية يقابل وزير المالية في وقتنا الحاضر ويمكن أن يمارس هذه الوظيفة أشخاص مخولون عن صاحب بيت المال فقد يكون هناك صاحب بيت المال للنقدية ، وصاحب بيت المال للأنعام ، وصاحب بيت المال للثمار...الخ.
• مباشر بيت المال:مهمته ضبط أمور الدخل والخرج،وذلك بتنظيم سجل خاص لكل عمل من الأعمال يوضح فيه اسم العمل والجهة ووجوه الأموال.
• الناظر: وهو الشخص المؤتمن على الأموال واليه ترفع الحسابات الخاصة بها وهو يقابل المدير المالي أو مدير الحسابات في الوقت الحاضر.
• المشارف: عمله شبيه بعمل الناظر،لكنه يزيد عليه بأن يكون الحاصل من المستخرج في مدفوعه وتحت حوطته ، بعد أن يكون مختوما عليه.
• الشاهد: وهو الشخص الذي يقوم بتدقيق ومراجعة أعمال الديوان وهو يقابل المدقق حاليا.
• المستوفي : وهو الشخص الذي يقوم بإرسال الكشوفات المالية للمقبوضات الخاصة بالأقاليم الأخرى وما يصدر من تعليمات ويلفت النظر إلى الكشوفات التي ترد إليه والتي تكون مخالفة للقوانين، وكان يقوم بفحص الحسابات وتحقيقها، وهو يقابل مراقب الحسابات (أو ديوان الرقابة المالية) حاليا.
• المعين: مساعد للمستوفي، يساعده في أعماله.
• العامل : وهو الشخص الذي يقوم بكتابة الحسابات وتنظيمها ،وهو يقابل المحاسب أو كاتب الحسابات حاليا، وهناك عامل على الزكاة وعامل على الصدقات...الخ،وأول ما أطلقت هذه التسمية على الأمير المتولي للعمل ثم نقلت التسمية إليه وخصت به دون غيره.
• الكاتب: عمله شبيه بعمل العامل تماما.
• الصيرفي: وهو الشخص الذي يقوم باستلام الأموال أو صرفها وفق التعليمات الصادرة إليه، وهو يقابل أمين الصندوق في وقتنا الحاضر.
• الخارص: وهو الشخص الذي يقوم بتقدير المال بين طرفين ، وهو يقابل المخمن في الوقت الحاضر.
• الناسخ: عمله نسخ التوقيعات والكتب الصادرة والواردة.
• متولي الديوان:وهو الذي يشرف على أصول المعاملات ويضبطها بخطه.
3) نظام الحسبة
أ) مفهوم الحسبة
تمثل الحسبة أحد معالم الحضارة الإسلامية المتميزة بروح الإنسانية والحس بالمسؤولية الحكومية التي تهدف إلى تحقيق الطمأنينة في التعايش وتبادل المنافع المشتركة بين طبقات الرعية بالعدل وطيبة النفس،وليس معروفا إن العرب قبل الإسلام ولا أية أمة أخرى كان لها ما يماثل نظام الحسبة في الإسلام(السامرائي،1988: 17).
وللحسبة معنيان،أولهما: أن يقصد بالأمور الحسبية شؤون الرقابة الاجتماعية والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر،وهذا هو المقصود من الولاية الحسبية في التاريخ الإسلامي،وثانيهما :يقصد به كل ما يطلبه الشارع المقدس على نحو الكفاية مما تقوم به حياة المجتمع،ويختل من دونه المجتمع ،ويدخل في قوله تعالى:" وتعاونوا على البر والتقوى"(المائدة،2)(داود،1425هـ: 59)،والمعنى الأخير ورد في تعريف السيد الخوئي (1411هـ،ج4: 290)للحسبة بأنها:" إتيان الأمر من باب كونه أمرا قربياً ، بحيث إن الشارع يرضى بذلك ولا يرض بحيفه ، فيؤتي ذلك حسبة أو قربة إلى الله ، ومن باب كونه مطلوبا للشارع ، ويكون حفظه محبوبا ".
ويرى السيد الجزائري( مخطوطة بدون تاريخ : 198) أنها- أي الحسبة-:" اسم ما يحتسب من القربات التي تعم مصالحها ،ويقوم بها نظام المسلمين،وأظهرها ثمانية أبواب هي :باب الجهاد،وباب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وباب إقامة الحدود،وباب الفتيا،وباب القضا،وباب الشهادة،وباب أخذ اللقيط،وباب الحجر".
أما معنى الحسبة اصطلاحا فقد وردت فيها عدة تعار يف منها تعريف الماوردي، حيث يصفها بأنها أمر بالمعروف إذا ظهر تركه، ونهي عن المنكر إذا ظهر فعله(الماوردي،الأحكام، 240)،وتبعه على هذا التعريف أبو يعلي الفراء ، أما الكتاب المحدثين فعلى سبيل المثال عرفها محمد المبارك بأنها(رقابة إدارية تقوم بها الدولة عن طريق موظفين خاصين ،على نشاط الأفراد في مجال الأخلاق والدين والاقتصاد ، أي في المجال الاجتماعي بوجه عام تحقيقا للعدل والفضيلة وفقا للمبادئ المقررة في الشرع الإسلامي )(مرشد،1992: 14)، أما ابن خلدون فانه يعرف الحسبة إجمالا بأنها (وظيفة دينية من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أي أنها عبارة عن رقابة إدارية تقوم بها الدولة عن طريق وال مختص على أفعال الأفراد وتصرفاتهم لصبغها بالصبغة الإسلامية أمرا بالمعروف ونهيا عن المنكر وفقا لأحكام الشرع وقواعده(مرشد،1992 :16 ).
ويمكن تعريف الحسبة إجمالا بأنها:وظيفة الحاكم المسلم حين فقد الحاكم الشرعي المخول أو من ينوب مقامه لحفظ نظام المجتمع بما فيه من جلب المصالح ودفع المفاسد من دون تعارض مع الشارع المقدس ، وبتتبع موارد الاستعمال للحسبة في فتاوى الفقهاء نجد نظام الحسبة يشمل المراقبة والشهادة الطوعية بلا ادعاء (شهادة الحسبة) والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والإشراف والتصرف والجباية والتسليم والولاية على أموال المحجور عليهم والقاصرين والمال الذي لا مالك له ، وحضانة الأطفال وحضانة اللقيط ، والتصرف باللقطات والودائع وحفظها من التلف، فهي نظام يتضمن مجموعة ضوابط وإجراءات تنظيمية وإصلاحية تقوم بها الحكومة الإسلامية في مختلف نواحي الحياة المالية والمحاسبية والاقتصادية والدينية والثقافية...الخ ، وذلك لغرض صبغها بالصبغة الإسلامية وصيانة الأمن والاستقرار التام وتحقيق الدولة الإسلامية . وهذا يعني إن بيت المال وديوان بيت المال يخضعان لإشراف ومراقبة جهاز الحسبة أيضا ،ويكون الاحتساب اصطلاحا القيام بتنفيذ تلك الضوابط والإجراءات بتكليف من الدولة أمراً بالمعروف ونهياً عن المنكر وفقا لأحكام الشرع وقواعده.
ب)نشأة الحسبة :
تشير الكتب والدراسات التاريخية إلى إن الحسبة نشأت منذ عهد الرسول(ص) (اليوزبكي،1984 :187)،فقد مارسها (ص) بنفسه، وفوضها أحيانا لغيره ،وهناك عدة روايات تبين تولي الرسول(ص) للحسبة بنفسه ،فعن أبي هريرة" إن رسول الله(ص) مر على صبرة طعام فادخل يده فيها فنالت أصابعه بللا فقال :"ما هذا يا صاحب الطعام؟ قال:أصابته السماء يا رسول الله، قال :أفلا جعلته فوق كي يراه الناس؟من غش فليس مني"،كما كان يبعث أصحابه ويأمرهم بالقيام بها وتبعه من بعده الخلفاء ،فلقد كانوا يتولونها بأنفسهم ويطوفون في الأسواق والطرقات ،يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ،فإذا اشتغلوا عنها بتصريف أمور المسلمين وتجهيز الجيوش الغازية في الفتوحات الإسلامية ،أسندوها إلى من يثقون به من المسلمين(مرشد،1992: 17) ، ويمكن أن نرى ذلك بوضوح في عهد الإمام علي(ع) إلى عامله على مصر مالك الاشتر عندما كتب إليه(ع)يقول:"...ثم انظر في أمور عمالك فاستعملهم اختبارا ،ولا تولهم محاباة و أثرة، فإنهما جماع من شعب الجور والخيانة وتوخ منهم أهل التجربة والحياء من أهل البيوتات الصالحة والقدم في الإسلام المتقدمة ،فإنهم أكرم أخلاقا ،واصح إعراضا ،واقل في المطامع إشرافا وابلغ في عواقب الأمور نظرا،...،ثم تفقد أعمالهم ، وابعث العيون من أهل الصدق والوفاء عليهم فان تعاهدك في السر لأمورهم حدوة لهم على استعمال الأمانة والرفق بالرعية .وتحفظ من الأعوان ،فان أحد منهم بسط يده إلى خيانة اجتمعت بها عليه عندك أخبار عيونك اكتفيت بذلك شاهدا ،فبسطت عليه العقوبة في بدنه و أخذته بما أصاب من عمله ، ثم نصبته بمقام المذلة ووسمته بالخيانة ،وقلدته عار التهمة"(نهج البلاغة،ج3: 96)،فمن هذا الكلام يبين الإمام (ع) انه لابد أن تتوافر مجموعة من الخصائص في موظفي الدولة والعاملين عليها منها الإيمان والتقوى ، ومن الأمور المهمة هو ضرورة وجود المراقبة والمتابعة المستمرة لهم سواء أكانت بصورة مباشرة أم غير مباشرة للتأكد من قيامهم بأعمالهم كما يجب وضرورة محاسبة ومعاقبة المخطئ منهم،وهذه من القواعد الأساسية في علم الرقابة الإدارية المعاصرة.
ج)المحتسب:
وهو موظف مختص معين من قبل الدولة ، ،ووظيفته مزيجا من سلطات رجال الدين والشرطة والقانون والتموين ورجال الصحة والشؤون البلدية والمقاييس والمكاييل ،و المحتسب لابد أن تتوافر فيه مجموعة من الشروط والمؤهلات منها أن يكون مسلما بالغا عاقلا،ويتسم بالعدالة والتقوى والعفة عن أموال الناس وان يكون ذو أخلاق حميدة و أدب عال،فضلا عن كونه على علم واطلاع واسع بأحكام الشريعة و بالمنكرات وطرق التدليس والغش قادرا على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بيده ولسانه(خرابشة 1990: 1312)(مرشد،1992: 61 ).
وكان المحتسب يراقب المرافق العامة للدولة ويعمل على صيانتها وتوفير الموارد المالية لها ،كما يراقب تحصيل أموال الدولة ويجبر من يتهرب من دفع زكاة أمواله على الدفع ،كما انه يمنع إنفاق الأموال العامة إلا في الوجوه المخصصة لها ،وفضلا عن الرقابة المالية فانه كان يتدخل في الشؤون الاقتصادية إذا أدت الحرية الاقتصادية إلى الإخلال بمصالح المجتمع كمنع الاحتكار والتسعير(خرابشة، 1990: 1312 ).
د)كيفية الاحتساب
لقد وضع العلماء قواعد وضوابط وصفات للاحتساب على سائر الناس وباختلاف طرق كسبهم للمعيشة سواء أكان ذلك في موظفي الدولة أم أصحاب المهن الحرة ،وضمنوا هذه القواعد أساليب الغش والخداع التي يلجا إليها بعض ضعاف النفوس في معاملاتهم مع الآخرين، وبسبب اختلاف وتعدد المهن والحرف والوظائف التي يمارسها مختلف الناس فان هنالك قواعد وضوابط تخص كل فئة منهم وكل مهنة أو عمل أو فعل ومكانها مثل:-
• أرباب الحرف والصنائع والتجار والزراع.
• عمال الدولة وموظفيها.
• أعيان الناس وأوساطهم وأراذلهم.
• منكرات الأسواق والطرقات والمرافق العامة.
• أهل الذمة.
مما سبق يتضح إن نظام الحسبة هو تشريع يهدف إلى مراقبة سلوك وتصرفات الأفراد في المجتمع الإسلامي على جميع فئاته وطبقاته في القول والفعل لصبغها بالصبغة الإسلامية وكذلك تعديل ومنع ما قد يقع من تصرفاتهم المضرة بالفرد والمجتمع، والحسبة تتسم بكونها نظام رقابي انضباطي أكثر من كونها نظام قضائي ، والرقابة على الأموال العامة تعتبر حاليا أحد الوظائف الرئيسة للمحاسبة الحكومية.
نستخلص مما سبق، أن للمحاسبة الحكومية جذورا تمتد إلى بداية نشأة الدولة الإسلامية حيث كانت تستند في مبادئها و تطبيقاتها إلى نصوص القران الكريم والسنة النبوية المطهرة،فقد كانت تقوم على أساس من القيم الإنسانية التي كانت تسود المجتمع الإسلامي في صدر الإسلام وعلى الممارسات الفعلية للعملية المالية والمحاسبية من تسجيل وقبض وصرف للأموال، فقد كان هناك تحديد وتنظيم وتوصيف للعمل المحاسبي من خلال تقسيمه على مجموعة من العاملين في بيت المال ،و كان النبي الأكرم(ص) يمارس جزءا من العمل المالي والمحاسبي بنفسه وذلك لمحدودية الموارد المالية وقلة عدد المسلمين آنذاك، ومع تطور الدولة الإسلامية واتساع الأراضي المفتوحة من قبل المسلمين وكثرة وتنوع الأموال الواردة إليهم تطورت النظم المالية والمحاسبية المعنية بشؤون المال وكيفية تنظيمها والمحاسبة عليها ،فشملت نظاما متكاملا لبيت المال وسجلاته الحسابية وقواعد المراقبة والمتابعة على ما يرد إليه وما يخرج منه من أموال،فنرى إنشاء بيت المال ووضع الدواوين المختلفة ذات العلاقة بتسجيل وتدوين وتنظيم الأموال والمحاسبة عليها والتخطيط لها لفترات زمنية مستقبلية كما في قوائم الخراج ووضع نظام الحسبة لتكمل عملية المحاسبة على الأموال بخطوة مراقبة ومتابعة عملية الجباية والصرف للتأكد من سيرها في المسار المرسوم والمحدد لها شرعا،، مما يعكس مدى اهتمام الإسلام بقضية المال والاقتصاد وأهميتهما في تنظيم واستقرار الحياة الاقتصادية والاجتماعية للمجتمع الإسلامي،فضلا عن ذلك فانه يثبت أسبقية الاقتصاد الإسلامي- عن بقية النظم الوضعية الآخر - في وضع أصول وقواعد ومعايير المحاسبة الحكومية.
وختاما نقول ،إن الشريعة الإسلامية المقدسة لم تترك صغيرة ولا كبيرة إلا أحصتها وذكرتها وبينتها،يقول الله تعالى في محكم كتابه المجيد:" ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء .."(النحل، 89)، وعن الإمام الصادق(ع) انه قال:" إن الله تبارك وتعالى انزل في القران تبيان كل شيء حتى-والله- ما ترك شيئا يحتاج إليه العباد ،حتى لا يستطيع عبد أن يقول :لو كان هذا انزل في القران؟ إلا وقد أنزله الله فيه"(الكافي،ج1: 59).،ومما لاشك فيه إن المحاسبة والمال والاقتصاد هي من ضمن تلك الأشياء.
وعليه يمكن القول إن النظام المحاسبي المالي الحكومي الإسلامي هو نظام متكامل من حيث وجود المقومات الأساسية لعمل هذا النظام والوسائل والأجهزة المنفذة له،ذلك انه نظام متفرع من مبادئ وأسس ومعايير المذهب الاقتصادي الإسلامي حيث يشتق الأخير من النظام الإسلامي العام ،لذلك نعتقد انه النظام الأصلح ليتم تطبيقه في المجتمع الإسلامي بما يحقق أهداف هذا المجتمع ،وما كان استخدام المحاسبة الأنجلو –أمريكية في الدول الإسلامية لأفضليتها أو مثاليتها ،و إنما كان ذلك لأسباب سياسية واقتصادية بحتة (Tahri,2004) ،فإذا ما أردنا تحقيق الأهداف والمصالح العليا للمجتمع الإسلامي وللدولة الإسلامية الحقة ووضع نظام محاسبي حكومي فعال يحقق تلك الأهداف، فان ذلك لا يكون إلا من خلال تطبيق الشريعة الإسلامية ،وفي جميع مجالات الحياة البشرية وفي مجال البحث الحالي يكون ذلك من خلال الالتزام بالنظام المحاسبي الحكومي الإسلامي ،والذي استعرضنا قبل قليل أهم المقومات والعناصر والأهداف التي يحتويها ،ويمكن القول إن معظم هذه الأهداف والمقومات والعناصر تنادي بها وتسعى إليها الأنظمة الحديثة والعصرية ،في حين إن الإسلام الحنيف جاء بها وطبقها قبل تلك الأنظمة بأكثر من ألف وأربعمائة سنة . |