لفتت نظري سيرته الشخصية والعلمية والسياسية، وعلى مدى سنوات وانا ألتقيه في مناسبات عدة وفي كل مرة اكتشف فيه بعداً جديداً يضاف الى سيرته الذاتية ومسيرته الجامعية والسياسية.. انه نصار الربيعي، النائب البرلماني الذي نشط في شتى الميادين: الدستورية ( عضو في لجنة الـ 55) والسياسة الخارجية
( عضو لجنة العلاقات الخارجية) والزراعية (نائب رئيس اللجنة الزراعية في البرلمان ) والوزير الذي تقلد منصب وزير العمل والشؤون الاجتماعية ووزير التخطيط وكالة لمدة أربعة أشهر، وحصل على ثقة الدول الاعضاء في منظمة العمل العربية، وكاد ان يتبوء منصب امينها العام لولا تأجيل الانتخابات. وربما تكون اكثر جوانبه إشراقا هو أنه، على الرغم من كثرة مسؤولياته، بقي مواصلاً لدراسته العليا بجدارة.. تخرج من الطب البيطري وحصل على درجة البكلوريوس والماجستير علوم سياسية ودرس ذاتيا الفلسفة وعلم النفس والاقتصاد وكتب عنها وبها بعضاً من الكتب والابحاث ذات الشأن والجدة منها كتابه المبتكر:تكوين العقل الجدلي وعقده ..انتظرت طويلاً حتى يصبح الرجل خارج المناصب الرسمية لكي اكتب عنه كشخص عرفته عن قرب وعن نشاطاته في الميادين كافة، وعن ذلك الاصرار الذي ندر توفره في مسؤول لكي يواصل دراسته العليا بتفوق، ولكي اكتب عن انطباعاتي حول عدد من مؤلفات الربيعي المتداخلة التخصصات والتي برع في ابداعها ..
الربيعي الانسان
سأحاول بسطور قليلة ان أقدم الاستاذ نصار الربيعي ، كما عرفته، كإنسان أولاً وكاتب ثانياً ووزير اخيراً .. وبادئ ذي بدء فإننا أمام شخصية متعددة المواهب وربما ابرزها توقه للمعرفة ونزعته التوافقية ، فعلى الرغم من تباين آراءنا السياسية ومنطلقاتها ما بين دينية ووضعية فإنني أجده معتدلاً في النظر والعمل، وقد انعكس ذلك على مرونته العلمية والانسانية، فهو ودود متواضع وصاحب رأي، وأينما حل فقد كون أصدقاء وربط شبكة علاقات، إلى جانب كونه رجلاً طموحا متحفزاً لمستقبل أفضل.. ويبدو لي خلال احاديثنا في القاهرة وفي بغداد وهي كثيرة، انه ليس قنوعاً بقدره، راضياً بما هو عليه، فهو يرنو دوماً الى تحقيق ما لم يحققه بعد، وتلك لعمري صفة محمودة ونادرة.. وما يدهشني فيه ولعه في اقتناء الكتب من اي بلد حل فيه، ودرايته في شتى التخصصات مما يترك انطباعاً بأنه ليس ككثير من مقتني الكتب من اجل التمتع بمشاهدتها أو إستخدامها كزينة فحسب، فهو يحرص على إعلامك بكتبه الجديدة ويحدثك دون كلل أو ملل، عن سماتها ومؤلفيها ..
وعن ابحاثه وكتبه التي غطت تخصصات عديدة من علم النفس وتكوين العقل الجدلي الى الاقتصاد ودراسته عن التضخم في العراق، وبحثه في صراع الحضارات ثم عن الاغتراب والعولمة وصولاً الى افضل كتبه عن ((دورالهيمنة الأميركية في العلاقات الدولية» فإن لنا وقفة مع هذا الكتاب ..
الهيمنة الامريكية في ثلاث قضايا مركزية
الكتاب بالاساس رسالة علمية جامعية لنيل الماجستير بالعلوم السياسية والتي نالها بإمتياز مَع التوصية بطباعتهاوهو كتاب تجتمع فيه الشروط الاكاديمية ويعالج موضوعاً في منتهى الاهمية بالنسبة لمنطقتنا العربية الاسلامية .. وفيه يصل الاستاذ نصار الى عدد من القضايا المهمة للغاية ومنها :
أولاً: ان الهيمنة الامريكية بدأت في التراجع داخلياً بتعدد الازمات (أزمة الرهن العقاري في بداية العام 2007 والأزمة المالية العالمية الأميركية العام 2008) وتراجعت خارجياً بتقهقر دورها القيادي للتنظيم الدولي ..
وربما يكون هذا التراجع اليوم اوضح وأكثر قوة مما كان عليه قبل عقود من الزمن ،عندما أشار له البروفسور بول كندي مؤكداً على أنه يشهد بداية انحطاط القدرة الأمريكية، وأعادت تأكيده دينيس أرتراند في بحثها "مفهوم القوى الكبرى في السياسة الخارجية الأمريكية" إذ أصرت على رأيها بأن أمريكا تواجه صعوبة التوفيق ما بين الحفاظ على مركز دولة عظمى خارجياً ودولة تنحط داخلياً لارتفاع معدلات الجريمة والتمزق الأسري وانتشار المخدرات، وخلصت الى ان امريكا نموذج لديمقراطية بلا أخلاق !!
وسبق أن أشرنا في كتابنا" العرب والغرب على مشارف القرن الحادي والعشرين" المنشور بباريس عام 1997 إلى إنتفاء قيادة امريكا ومركزيتها التي :" ستصبح حقيقة واقعة من حقائق العصر الجديد، لان العالم اليوم هو عالم متعدد القطبية اقتصادياً وان كان احادي القطبية عسكرياً.. وهذا التفاوت ما بين القوتين الاقتصادية والعسكرية يمثل الحالة الاستثنائية التي – كما يجمع اغلب الاستراتيجين – لن تستمر طويلاً، فالكتل الاقتصادية تمتلك من التكنولوجيا والامكانات المادية ما سيمكنها سريعاً من اقتناء الاسلحة المتقدمة لضمان الدفاع عن مصالحها الحيوية".. ومع ذلك فإن الربيعي يرى بأن بداية التراجع الحقيقي في قدرة الولايات المتحدة في لعب دور القائد تعود إلى السبعينات من القرن الماضي وهو محق في هذا .
ثانياً : القضية المركزية الثانية التي يؤكدها الاستاذ الربيعي هي إن التنافس والتعاون التكنولوجي بين الوحدات الدولية ينبيء بأن الصراع القادم سيكون صراعاً معرفياً ، ولعمري ان رأيه هذا بات من حقائق هذا العصر الذي تخاض اليوم اغلب معاركه إلكترونياً.. فالقدرة على ادارة المعارك الاقتصادية والسياسية والاعلامية والاستراتيجية من خلال الاستعانة او الاستخدام الافضل للمعرفة الالكترونية أصبحت في متناول يد العديد من الدول . ومن الآن نشاهد أن انظمة المعلومات والطفرة المعرفية أتاحت فرص من المنافسة لمجتمعات كانت خارج الساحة المعرفية دولياً ، فكوريا الجنوبية والصين والهند، ناهيك عن اليابان بطبيعة الامر دول تلعب اليوم أدواراً مهمة للغاية في حلبة الصراع المعرفي والمعلوماتي الدولي, وتقوم بتزويد البشرية كل يوم بابتكارات وابداعات إلكترونية تضيف الى دائرة الاتصال والتواصل الانساني ما يجعل العالم بالفعل قرية صغيرة.
ثالثاً : القضية الثالثة للاستاذ الربيعي هي أن الهيمنة الامريكية وإن فرضت على النظام الدولي بفعل عوامل متداخلة عدة، بيد انها اصبحت اليوم اقل تماسكاً، فهذه القوة العظمى بحاجة دوماً لحلفاء ويكاد دورها اليوم يقتصر على توجيه النظام الدولي وفق قواعد معينة متفق عليها. إن ما نراه على الساحة الدولية يثبت رأي الربيعي، فالولايات المتحدة في كل حروبها منذ بداية التسعينات وحتى اليوم استعانت بعدد كبير من القوى الدولية، وكان دورها تنسيقي في حرب تحرير الكويت وحرب افغانستان وعملية غزو العراق عام 2003 ... صحيح انها كانت القوة الاساسية الضاربة ولكنها استعانت بقوى اخرى لكي تضفي الشرعية الدولية على مغامراتها العسكرية، ولكونها لا تتمكن من تغطية نفقات تدخلاتها العسكرية وحيدة .
وقد يفسر البعض لجوء الولايات المتحدة الى حلفاء بأنها ما عادت راغبة بلعب دور شرطي العالم وحيدة وانها ترنو الى الانسحاب من التدخلات الخارجية تدريجياً للعناية بذاتها وحل مشكلاتها الداخلية، وهو ما يلاحظونه على سياسة الرئيس باراك اوباما الذي رفض تدخل بلاده في مناطق عديدة بعد ان انسحب كليا من العراق، فهو يرمي، في نظرهم، الى جعل بلاده راعية السلام العالمي . وحقيقة الامر لا يستقيم هذا التحليل مع الواقع المعاش امريكياً ودولياً وذلك لان مصالح امريكا الحيوية في العالم تجعل من المستحيل انسحابها منه من ناحية، ومن ناحية ثانية فإن مصالحها الداخلية هي الاخرى تحول دون ذلك، فما مصير الملايين من العمال والخبراء الامريكيين العاملين في مصانع السلاح؟ سوف نستبشر خيراً بحسن نوايا وتوجهات الرئيس اوباما نحو السلام العالمي عندما تتوجه أمريكا لتحويل بعض الصناعات العسكرية المكلفة إلى صناعات سلمية .
الربيعي الوزير
تلك هي أبرز ملاحظاتنا على الكتاب القيم للاستاذ الربيعي، يبقى أن نشير إلى عمله كوزير للعمل والشؤون الاجتماعية.. وحيث أنني لم اطلع عن قرب على نشاطه الوزاري في العراق فقد اكتفيت بما أورده الاخرين عنه، مثل ما اسماه البعض أهم انجازاته وهو ضم الضمان الاجتماعي ورعاية المرأة الى وزارتهوخلق بيئة قانونية سليمة للوزارة حيث تم إصدار عدد كبير من القوانين تجاوز العشرين ومن أهمها قانون الحماية الاجتماعية وقانون القروض الميسرة لدعم المشاريع الصغيرة المدرة للدخل.ناهيك عن عنايته الخاصة بالاطفال وبخاصة الاطفال المعاقين ومقابلته الأسبوعية لأكثر من خمسمائة مواطن موثقة بالاسماء والعناوين والهواتف وكذلك حصوله على ثقة الجمهور كأفضل وزير وذلك في استفتاء اجرته قناة الشرقية عام 2012 .
ومع ذلك فلي مع الوزير نصار تجربة لقاءاته في القاهرة وحرصه على معرفة ما يجري في البلاد، فعلى أثر ثورة 25 يناير في مصر التي اطاحت بالرئيس مبارك، فقد رغب في لقاء قادة الثورة الشباب، وبالفعل قمت بدعوة 26 من قيادات الشباب الثوري المصري الى لقاء معه وحوار دام ساعات بتاريخ 22/5/2011 كان له آثار في تمتين العلاقات المصرية العراقية.ومما قال لهم في اللقاء :((تتميز الثورة الشبابية المصرية بخصوصية انها ثورة بلا ايديولوجية محددة وهنا يكمن سر قوتها وعظمتها وفي نفس الوقت تكمن خطورتها لانه من الممكن ان تصل الى محصلة رأي عندما تتعدد الاّراء ولكن لايمكن ان تصل الى محصلة ايديولوجية توحد الايديولوجيات المختلفة)).
وتم تمتين العلاقات بين البلدين لأن الثوار الشباب طالبوا الوزير بالعمل على أن يدفع العراق قيمة ما تعارف على تسميتها بالحولات الصفراء الخاصة بمستحقات العمال المصريين الذين كانوا يعملون في العراق وقيمتها 408 مليون دولار.. وقد عمل الرجل كل ما باستطاعته ونجح إذ اعلن العراق عن استعداده للدفع وحدث ذلك بالفعل، وانعكس على الفور على الشارع المصري والاعلام وكانت حملة الاشادة بالعراق واسعة .. وبعد قرابة سنة من ذلك وفي القاهرة أعلن الوزير الربيعي للاعلام المصري عن إستعداد العراق لدفع مستحقات اخرى وهي قرابة 60 مليون دولار القيمة التقاعدية لبعض العمال المصريين ايضاَ، وقد كان الربيعي في زياراته للقاهرة يمثل بشائر خير للاعلام المصري، فيتوافد عليه الصحفيين من المنابر الاعلامية المختلفة .
وأستمر الوزير يعتني بالعلاقات العربية العراقية فقد طلب مني دعوة بعض قيادات الشباب الثوري المصري والتونسي الى بغداد لاجراء الحوارات والتعرف على التجربة العراقية ومعرفة حقيقة الاوضاع في البلاد.. وقد نجحت هذه الزيارة الى حد بعيد وما زال هؤلاء يتذكرون الكرم العراقي والتواضع والحريات التي يتمتع بها العراقيين .
وفي سياق نشاطاته الوزارية العربية أيضاً كان في كل زيارة له للقاهرة يقوم بدعوة المسؤولين ووزراء العمل وقادة النقابات العرب لعشاء او غذاء عمل، فيساهم في ابراز مكانة العراق العربية ويعزز علاقاته مع الاشقاء العرب ..
وللحقيقة والتاريخ نشهد بعمله الدؤوب كوزير للعمل والشؤون الاجتماعية عربياً، إذ تمكن بقدرته الشخصية في الوصول الى رئاسة مجلس إدارة منظمة العمل العربية، لكي يعيد للعراق بعضاً من مكانته التي فقدها النظام البائد بفعل حروبه وعدوانيته إزاء القريب والبعيد.. واليوم يعول الاصدقاء والحلفاء على مساعي الربيعي لكي يخطو الخطوة الاكبر بالوصول الى منصب الامين العام لمنظمة العمل العربية ليضع العراق على قمة العمل العربي.. |