إنه الليل .. الكتف الذي تغفو عليه الهنيهات بعد يوم كأنه الهنيدة .. ألقت بنفسها على ضفاف السكون .. راقت لها سنفونية الدلهم القاتم .. أرخت سدول أجفانها الواسعة و استسلمت لعالم الوحدة المعتاد يومياً
نسمات عبقة وهبها لها اوكتوبر فداعبت شعيرات كنبيذ مسكوب على خد من العاج ، مازال لطعمه نشوة الضمآن في القفار و قد غفت على جانبيها جنتان من الورد..
داعب جفنيها القمر .. انه المحاق .. يكتمل القمر في وجهها كدورة الفصول في العام الواحد فيأتي موسم الأوراق المتساقطة و لما يشتد الحنين لذاتها المختبئة خلف ظلال الليل المبتورة..
الانفراد بالقمر شيء يبعث على تناسي الأنا اثر يوم صاخب بالذات .. كغريب الخليج تسافر بموج هائج من الأفكار متسمرة على ضفاف العمر ، العمر كدورة الفصول يمر سريعا على حقول من الثلج و النبيذ فيعيث بأغصان غابات الحناء صخب الشيب الأبلج في ليلة تحتفي غنجاً بالمحاق..
رمقت اللجين بإحساس الفتور و الأمل ..
- انها ليلتي
لا زالت تعلق رائحة الليل في طيّ الذكريات كقارورة الكريستال التي أهدتني إياها جدتي منذ أعوام .. نفذ العطر و بقيت رائحته .. كما عبق العمر حين غادرتها طقوس الحياة و بقيت روائح الليل .
استسلمت للاسترخاء تماما كمن يهبط على واحة غناء أثر يوم مرهق .. هنا وقد ظهرت أمامها من جديد فجأة .. بقميص النوم الستان الأبيض الفضفاض الذي عبثت به رياح أكتوبر الليلية عند السحر .. طافت حولها و هي لاتزال تنصاع الى الاسترخاء والركون الى صوت الليل .. أيسَت من قدِّ اسدال الصمت فنطقت:-
لا تزالين في دوامة الليل تجوبين محطات العمر بين ماض قديم و حاضر تائه -
. انه الارق المعتاد ليس الا -
- و الى متى ؟
. حتى ينقشع ظلك المظلم و تتركيني اعيش -
أطلقت قهقهة إلى السماء شقت عنان الفضاء الفضي .. صمتت فجأة .. أخذت تحدق في الأفق بامتعاض .. اخترق الهواء خصلاتها العاجية بصلافة فاستدارت نحوها قائلة:-
- انه الخريف .. موسمك الساحر .. يستغرق أوراقك .. كتاباتك .. قصصك و أشعارك .. فساتينك .. وحتى استقبالك له .. الحفاوة التي ينبض بها قلبك و نشوة كأس دلهم ليله المعتق التي تتسرب الى عروقك .. كل هذا و هو الخريف موسم تساقط الأوراق .. كما تتساقط سنواتك كل موسم فيعيث الشيب في جدائلك الفساد .. و بعد كل هذا و ذاك .. يبقى وجودي مقززا بالنسبة لك .. شي ما يستدعي امتعاضك ، أولست أنا خريف ؟! ولكن من نوع آخر .. إنني خريف العمر
. جئتِ مبكرا .. اكتسحت حياتي مبكرا -
( قالتها بحدة ) ذاك قدرك ... ها انذا أمامك .. مزقيني و أخرجي من سطوتي -
- هه .. انت لا تقيدينني .. في الواقع .. أنا من أقيد بك نفسي .. أو ... لربما كنت قدري القادم مبكرا ..أو حتى كنسيج ورقي ارضخ اليه بحجة التقاليد .. ولكن .... يبقى هناك من يناغي جمالي و يحملني قداساً بين ثنايا روحه على نول من صبر
- و هل سألتك يوما عن كونك مسترجلة كي تسددي فيَّ هذه النظرة الحادة كقذيفة من لهب !؟ .. لازلت أنثى شهية بضَّة .. لكنني أدرك تماما في مَ تفكرين ! أنت تفكرين في مدى حقارتي و لؤمي حين أستوطنك قصرا فخما من البلور و العاج و ما أنا أكثر من قطن يتطاير و تجاعيد .. و ثمة ملامح لامرأة قد التهمتها أكناف المقابر منذ زمن قديم !!
- غارقة أنت في خيبتك التي صببتها على رأسي منذ أن توقدتي أمامي كشبح يستعمرني كل ليلة في غرفتي .. في شرفتي .. في مرآتي .. الاّ مضجعي .. إفهمي .. الاّ مضجعي ..
- أعرف ذلك .. وقد أستودعتِ وسائدك حبات اللؤلؤ المنثور و ثمة روائح للتفاح البيروتي ... حقا انها شهية ..
- جيد انك تعرفين .. فلا تقتربي و لا تتنظري اليها .. فأنا امارس طقوس طفولتي هناك حيث حكايات ملأت بها رأسي نسوة هذا القصر يوما ما .. عن أميرة مدللة ظفائرها أغصان الحناء
- و فارس أسطوري .. ينحني عشقا و يريد المغازلة حين أنهكته أسوار منزلها
- دعينا من الفرسان ألان .. عصور الفرسان قد انقرضت و لم يتبق سوى ذكور لا تستحق ذرات إهتمامي .
. لم يخلبْ لبك أحدا حتى ألان -
- البركة في القدر الذي حملك لي مبكرا .. فأرتو من مياه سنوات عمري كما تشائين
- إعلمي ان أجمل ما في المعايشة هو التأقلم .. فتأقلمي .. قد يكون من البشاعة ان تسكن امرأة التسعين فتاة العشرين الا ان هذا ما حصل ...
و الان يا صغيرتي ... أشيري بأصبعك هذا الى وجهي .. مرري كفك الصغيرة على تجاعيدي التي طالما قززتك .. تلمسي أوردتي الظاهرة على كفي و بشرتي الشاحبة لعلك تفكرين في حكمة امرأة عجوز تستوطنك اكثر من ان يشغلك بشاعة وجهها يا وجه القمر .. فربما كانت هذه العجوز هي خير من فتاة صاخبة في عصر يضج بالصخب و الجنون
. انه الفجر -
- خاطبي الله قبل ركونك لمضجعك .. أما أنا فسأختبئ في فستانك الذي اخترتِ ليوم غد .
|