- يبدو أنها المرة الأخيرة التي سآخذكِ بها بين ذراعي ..حبيبتي ..
كانت تلك الجملة هي آخر ما تمتم به في أذنها حين كان يحتضنها امام المرآة العريضة ..
ابنته الوحيدة ذات العام الثالث . امسك بها بحنان .. وعانقها طويلا .. استنشقها .. انتزع من رقبته قلادة من الفضة و ألبسها إياها فكانت – (ولا يؤده حفظهما )-
جاءت إليه زوجته بكوب الشاي على وجل ، يبدو على غير عادته .. تحوم حول وجهه سحائب الغموض و الأسى الشفيف ، فيتقن الصمت و ينصرف بعينيه صوب شاشة التلفاز .
ثرثرة عن شواطئ من الدم ماجت على رمال عطشى ، و عذارٍ تستباح ، ووطن في المزاد العلني !
غلى الدم في عروقه بغيرة شهم قديم ينبعث من أجواء ثورة العشرين الساخنة .. تصبّب عرقاً .. قطَّب حاجبيه و اعتراه الوجوم .
فكأنه كان ينتظر مفاجأة لاحت بتباشير الفرج ، أسفل الشاشة - إعلان عن الجهاد الكفائي -
ينتفض من مكانه مستبشراً ، يجري اتصالا هاتفيا على عجل مع أصدقائه ..
- ها قد تم الإعلان .. أظن انه لا مناص من الأمر.
- حتما لا .. هيأ نفسك ..
كانت زوجته تترقبه باستغراب .. تبعته على عجل في تساؤل :-
- بمَ تفكر ؟
- الأوضاع تزداد سوءا والخطر قادم .. المد البربري يجتاح البلد .. أهدافه قتلي وبيعك .. سوق النخاسين يعود من جديد .
- ستذهب الى الجهاد ؟
- لا خيار آخر .. فاصبري .
يغادر المنزل مع ثلة من الغيارى .. يتجه صوب حشود من الأوباش .. يستبسل .. يتفانى ...
تختلط عليه الأصوات مرة واحدة و تموج في رأسه لحظات قد مضت وقد استحضرها بسرعة .. قهقهة ابنته .. صوت الآذان .. تهاني زفافه .. همسات زوجته .. دعوات والدته ..
يقطع شريط فلم الذكريات بصخب تكبير باطل .. فكانت كلمة حق يراد بها باطل ، حين اقتطع رأسه و هوت الأجساد الى نهر ضيق ..
فكانت قوارب ضائعة ..
|