بسم الله الرحمن الرحيم
قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجاً عَلَى أَن تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدّاً{94}
تستمر الآية الكريمة بسرد تفاصيل قصة ذي القرنين , وتروي على لسان القوم ( قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ ) , يختلف المفسرون والمؤرخون في معنى ( يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ ) , فذهبت بهم الآراء وتعددت الرؤى , ننقل بدورنا عدة اراء في هذا المضمون :
1- اسمان لقبيلتين من ولد يافث بن نوح , ( عن الهادي عليه السلام جميع الترك والسقالب ويأجوج ومأجوج والصير "الصين" من يافث ) . "كتاب العلل" .
2- التسمية صينية ( كوك ) وتعني قارة شعب الخيل وهم من المغول والدول المجاورة للصين .
3- اسمان أعجميان منعا من الصرف للعلمية والعجمة ، وعلى هذا فليس لهما اشتقاق , يذهب الى هذا الرأي جملة من المفسرين ومنهم السيوطي في تفسير الجلالين والفيض الكاشاني في تفسيره الصافي ج3 .
4- بعض الآراء تشير الى انهما كلمتين عربيتين , لكن الاختلاف يقع في الاشتقاق :
أ) اشتقا من أجيج النار وهو التهابها .
ب) أشقتا من الأج وهو سرعة العدو .
ت) اشتقا من الأجة بالتشديد وهي الاختلاط والاضطراب .
5- وقيل يأجوج من الترك ومأجوج من الجبل . "تفسير الصافي ج3 للفيض الكاشاني" .
فليكونوا من يكونوا الا انهم ( مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ ) , بالقتل والنهب والتخريب واتلاف المزروعات وغير ذلك , ( فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجاً ) , يعرض القوم على ذي القرنين ان يعطوه المال او ان يدفعوا له الخراج , ( عَلَى أَن تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدّاً ) , حاجزا يمنعهم من الوصول الينا .
قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْماً{95}
تروي الآية الكريمة رده عليهم , وكان في محورين :
1- ( قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ ) : بين النص المبارك عدة امور منها :
أ) يدل النص المبارك على موافقته , وعدم رفضه لطلبهم .
ب) اشار لهم بأن ما مكنه الله تعالى فيه من المال والملك خير وافضل مما سيدفعون له من الخراج .
ت) يشير النص المبارك ان ذو القرنين بنى السد تبرعا من دون اي مقابل .
2- ( فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْماً ) : يسترسل ذي القرنين بكلامه معهم قائلا ( فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ ) , اعينوني بما تملكون من العدة والعدد , ( أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْماً ) , يلاحظ في الآية الكريمة السابقة ان القوم طلبوا منه ان يبني لهم سدا , لكن ذي القرنين رأى ان السد غير كاف , لذا قرر ان يبني لهم ردما , اما الفرق بين السد والردم فتختلف فيه الآراء , نذكر بعضا منها :
أ) الردم : حاجز حصين . "تفسير الجلالين للسيوطي".
ب) الردم : حاجزا حصينا وهو أكبر من السد . "تفسير الصافي ج3 للفيض الكاشاني" .
ت) السد يبنى على شكل حائط بين جانبين , لكنه غير منيع ازاء الهزات الارضية والظروف الجوية الاخرى , وبذا يكون عمره قصير , اما الردم , فيبني على شكل حائطين بين جانبين , يملأ ما بينهما بالتراب , وبذا يكون اكثر منعه وصمودا امام الكوارث الطبيعية , ويدوم طويلا .
آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَاراً قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً{96}
يستمر كلام ذو القرنين في الآية الكريمة مخاطبا القوم ( آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ ) , قطع الحديد , ( حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ ) , جانبي الجبلين , ( قَالَ انفُخُوا ) , امرهم بنفخ الاكوار , ( حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَاراً ) , حتى انصهر الحديد وصار كالنار , ( قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً ) , يبين النص المبارك ان ذو القرنين طلب منهم احضار النحاس , افرغه بين قطع الحديد المحمي , فتداخل مع بعضه وتماسك , حتى صار قطعة واحدة .
تنبغي الاشارة هنا الى :
1- ان ذو القرنين هو اول من بنى الردم .
2- ان عمل ذو القرنين كان بمثابة المهندس المشرف والمخطط للعمل , وعمل القوم كان يقتصر على تنفيذ وصاياه واوامره .
فَمَا اسْطَاعُوا أَن يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْباً{97}
تبين الآية الكريمة ( فَمَا اسْطَاعُوا أَن يَظْهَرُوهُ ) , لم يستطع يأجوج ومأجوج ان يعبراه , والسبب ارتفاع الردم , ولم يتمكنوا من تسلقه لملاسة جداره , ( وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْباً ) , وايضا لم يستطيعا خرقه , لصلابته وسمكه .
قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِّن رَّبِّي فَإِذَا جَاء وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاء وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقّاً{98}
تروي الآية الكريمة على لسان ذي القرنين ونستقرأه في خمس موارد :
1- ( قَالَ هَذَا ) , يختلف المفسرون ان الاشارة هنا الى :
أ) السد .
ب) الاقتدار على بناءه .
ت) كلاهما معا .
لا تنافي بين الرأيين ولا اعتراض , فكلاهما يتفقان ولا يتقاطعان .
2- ( رَحْمَةٌ مِّن رَّبِّي ) , النص المبارك يترك المجال مفتوحا لكثير من الآراء منها :
أ) ان ذو القرنين قال ( ربي ) ولم يقل ( ربنا ) مثلا , في ذلك دعوة للقوم ان يؤمنوا بما يؤمن هو به .
ب) ( رَحْمَةٌ مِّن رَّبِّي ) ان ذو القرنين يعترف بفضل الله تعالى عليه ورحمته , بأن هيأ له من الاسباب ومكنه منها , فيظهر ذلك شكرا وبيانا لعجزه من دون رحمته عز وجل .
ت) ( رَحْمَةٌ مِّن رَّبِّي ) : نعمة لأنه مانع من خروجهم . "تفسير الجلالين للسيوطي".
ث) ( رَحْمَةٌ مِّن رَّبِّي ) : على عباده . "تفسير الصافي ج3 للفيض الكاشاني" .
3- لكن هذا الردم سوف يمنعهم مدة من الزمن ( فَإِذَا جَاء وَعْدُ رَبِّي ) , بخروجهم قبل يوم القيامة .
4- ( جَعَلَهُ دَكَّاء ) , مدكوكا مسوى بالأرض .
5- ( وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقّاً ) , كائنا لا محالة , والوعد هنا بخروج يأجوج ومأجوج قبل يوم القيامة .
وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعاً{99}
تبين الآية الكريمة حال يأجوج ومأجوج يوم خروجهم ( وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ ) , يختلط بعضهم في بعض مزدحمين , وعبر عنهم انهم ( يَمُوجُ ) لكثرتهم , ( وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ) , لقيام الساعة ( البعث ) , ( فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعاً ) , يجمع الخلق جميعا للحساب دون استثناء .
وَعَرَضْنَا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِّلْكَافِرِينَ عَرْضاً{100}
تبين الآية الكريمة ان الله تعالى سيعرض جهنم للكفار , تبرز لهم , فيتمكنوا من مشاهدتها .
الَّذِينَ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَاء عَن ذِكْرِي وَكَانُوا لَا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعاً{101}
الآية الكريمة السابقة ذكرت الكافرين ولم تبين حالهم , فبينت الآية الكريمة حالهم او ما كانوا عليه :
1- ( الَّذِينَ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَاء عَن ذِكْرِي ) : كانت اعينهم تغشاها الحواجب والحواجز ( الاغطية ) فلا ترى آياتي .
2- ( وَكَانُوا لَا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعاً ) : كانت اذانهم تستثقل سماع الحق مما جاء به الرسول الكريم محمد (ص واله) , بغضا وتعنتا وعنادا . |