ذكر السيد محمد حسين فضل الله في كتابه الزهراء القدوة قوله (ولكننا لم نصل إلى حد النفي لهذه الحوادث ( يقصد ما جرى على السيده الزهراء )ـ كما فعل الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء(قده) بالنسبة لضربها ولطم خدها )
الشيخ كاشف الغطاء (غفر الله له) فإنه بعدما أثبت كل مفردات ظلامات الزهراء (صلوات الله عليها) وأكد بلوغ نصوصها حد الاستفاضة؛ فإنه لم يستبعد منها سوى وصول يد الأجنبي (مباشرة) لضرب الزهراء (صلوات الله عليها) ولطم خدها الشريف، لا أن الضرب واللطم لم يقع من وراء الثياب، فقد صرّح بوقوعه، واستبعاده لللطمة المباشرة لم يكن بناء على أساس علمي أو نقلي بل على أساس وجداني وعقلي، من أن وجه الزهراء (صلوات الله عليها) هو وجه الله المصون فلا يتقبّل وجدانه أن تصل يد الأجنبي إليه، ومن أن القوم وإن كانوا قد خرجوا من الإسلام إلا أنه قد بقت فيهم بعض التقاليد الجاهلية التي تمنع الاعتداء على امرأة، وما إلى ذلك من توجيهات ذكرها لاستبعاده إلا أن أنها لا تصمد بل تنهار مع أدنى مناقشة علمية.
وحتى تقف على ما مارسه ذلك الصبي الضال من تجهيل للناس، إليك تمام كلام كاشف الغطاء، فقد قال: ”طفحت واستفاضت كتب الشيعة من صدر الاسلام والقرن الاول: مثل كتاب سليم بن قيس ومن بعده الى القرن الحـادي عشـر ومـا بعـده بـل والى يومنا كلّ كتب الشيعة التي عنيت باحوال الأئمة، وأبيهم الآية الكبرى وأمهم الصديقة الزهراء صلوات الله عليهم أجمعين، وكلّ من ترجم لهم وألف كتابا فيهم، وأطبقت كلماتهم تقريبا أو تحقيقا في ذكر مصائب تلك البضعة الطاهرة: أنها بعد رحلة أبيها المصطفى ضرب الظالمون وجهها ولطموا خدّها، حتى احمرت عينها وتناثرت قرطها، وعصرت بالباب حتى كسر ضلعها، واسقطت جنينها، وماتت في عضدها كالدملج، ثم اخذ شعراء اهل البيت (عليهم السلام) هذه القضايا والرزايا، ونظموها في أشعارهم ومراثيهم وأرسلوها إرسال المسلّمات: من الكميت والسيد الحميري ودعبل الخزاعي والنميري والسلامي وديك الجن ومن بعدهم ومن قبلهم الى هذا العصر، وتوسع أعاظم شعراء الشيعة في القرن الثالث عشر والرابع عشر الذي نحن فيه، كالخطي والكعبي والكوازين وآل السيد مهدي الحليين وغيرهم ممن يسعر تعدادهم، ويفوت الحصر جمعهم وآحادهم، وكل تلك الفجائع والفظائع وإن كانت في غاية الفظاعة والشناعة ومن موجبات الوحشة والدهشة ولكن يمكن للعقل أن يجوزها وللأذهان والوجدان أن يستسيغها، وللأفكار أن تقيلها وتهضمها، ولا سيّما وأن القوم قد اقترفوا في قضيّة الخلافة وغصب المنصب الالهي من أهله ما يعد أعظم وأفظع.
ولكن قضية ضرب الزهراء ولطم خدها مما لا يكاد يقبله وجداني ويتقبّله عقلي، ويقتنع به مشاعري، لا لأن القوم يتحرّجون ويتورعون من هذه الجرأة العظيمة، بل لأن السجايا العربية والتقاليد الجاهلية التي ركّزتها الشريعة الاسلامية وزادتها تأييدا وتأكيدا تمنع بشدة أن تُضرب المرأة أو تمد اليها يد سوء، حتى أن في بعض كلمات امير المؤمنين (عليه السلام) ما معناه: أن الرجل كان في الجاهلية اذا ضرب المرأة يبقى ذلك عاراً في أعقابه ونسله.
ويدلّك على تركّز هذه الركيزة بل الغريزة في المسلمين وانها لم تفلت من أيديهم وإن فلت منهم الإسلام: أن ابن زياد وهو من تعرف في الجرأة على الله وانتهاك حرماته لما فضحته الحوراء زينب عليها السلام، وأفلجته وصيرته أحقر من نملة، وأقذر من القملة، وقالت له: ثكلتك أمك يا ابن مرجانة، فاستشاط غضبا من ذكر أمه التي يعرف أنها من ذوات الأعلام، وهمّ أن يضربها، فقال له عمرو بن حريث وهو من رؤوس الخوارج وضروسها انها امرأة والمرأة لا تؤاخذ بشيء من منطقها، فاذا كان ابن مرجانة امتنع من ضرب العقيلة خوف العار والشنار وكلّه عار وشنار، وبؤرة عهار مع بعد العهد من النبي صلى الله عليه وآله فكيف لا يمتنع اصحاب النبي مع قرب العهد به من ضرب عزيزته؟ وكيف يقتحمون هذه العقبة الكؤود ولو كانوا اعتى واعدى من عاد وثمود؟ ولو فعلوا أو هموا أن يفعلوا اما كان في المهاجرين والانصار مثل عمرو بن حريث فيمنعهم من مدّ اليد الأثيمة، وارتكاب تلك الجريمة؟ ولا يقاس هذا بما ارتكبوه واقترفوه في حق بعلها سلام الله عليه ومن العظائم حتى قادوه كالفحل المخشوش فأن الرجال قد تنال من الرجال ما لا تناله من النساء.
كيف والزهراء عليها السلام شابة بنت ثمانية عشر سنة، لم تبلغ مبالغ النساء؟ واذا كان في ضرب المرأة عار وشناعة فضرب الفتاة أشنع وأفظع، ويزيدك يقينا بما أقول انها - ولها المجد والشرف - ما ذكرت ولا أشارت الى ذلك في شيء من خطبها، ومقالاتها المتضمنة لتظلّمها من القوم وسوء صنيعهم معها مثل خطبتها الباهرة الطويلة التي القتها على المهاجرين والأنصار، وكلماتها مع أمير المؤمنين عليه السلام من المسجد، وكانت ثائرة متأثرة أشد التأثر حتى خرجت عن حدود الآداب التي لم تخرج من حظيرتها مدة عمرها، فقالت له: يا ابن ابي طالب افترست الذئاب وافترشت التراب - الى أن قالت: هذا ابن أبي فلانة يبتزّني نحلة أبي وبلغة ابني، لقد أجهد في كلامي، وألفيته الألد في خصامي، ولم تقل أنه او صاحبه ضربني، او مدّت يد إليّ، وكذلك في كلماتها مع نساء المهاجرين والأنصار بعد سؤالهن كيف أصبحت يا بنت رسول الله؟ فقالت: أصبحت والله عائفة لدنياكن، قالية لرجالكنَّ، ولا إشارة فيها إلى شيء عن ضربة أو لطمة، إنما تشكو أعظم صدمة وهي غصب فدك وأعظم منها هي غصب الخلافة وتقديم من أخر الله وتأخير من قدّم الله، وكل شكواها كانت تنحصر في هذين الأمرين وكذلك كلمات أمير المؤمنين (عليه السلام) بعد دفنها، وتهيّج أشجانه وبلابل صدره لفراقها ذلك الفراق المؤلم، حيث توجه الى قبر النبي صلى الله عليه وآله قائلا: السلام عليك يا رسول الله عني وعن ابنتك النازلة في جوارك، إلى آخر كلماته التي ينصدع لها الصخر الأصم لو وعاها، وليس فيها الاشارة الى الضرب واللطم ولكنه الظلم الفظيع والامتهان الذريع، ولو كان شيء من ذلك لأشار اليه (عليه السلام)، لأن الأمر يقتضي ذكره ولا يقبل ستره، ودعوى أنها اخفته عنه ساقطة بأن ضربة الوجه ولطمة العين لا يمكن اخفاؤها.
وأما قضية قنفذ وأن الرجل لم يصادر أمواله كما صنع مع سائر ولاته وأمرائه وقول الامام (عليه السلام): أنه شكر له ضربته فلا أمنع من أنه ضربها بسوطه من وراء الرداء وإنما الذي أستبعده أو أمنعه هو لطمة الوجه، وقنفذ ليس ممن يخشى العار لو ضربها من وراء الثياب او على عضدها، وبالجملة فإن وجه فاطمـة الزهـراء هـو وجـه الله المصون الذي لا يهان ولا يهون ويغشى نور العيون، فسلام الله عليك يا أم الأئمة الأطهار ما أظلم الليل وأضاء النهار، وجعلنا الله من شيعتك الأبرار، وحشرنا معك ومع أبيك وبنيك في دار القرار“. (جنة المأوى للشيخ محمد حسين كاشف الغطاء ص135).
وهكذا يتبيّن لك من كلامه الآتي:
• أنه عبّر عن ظلامات الزهراء (روحي فداها) ببلوغها حد الاستفاضة، وهي شهادة مهمة من خبير.
• أن تلك الفجائع والفظائع رغم أنها من موجبات الوحشة والدهشة إلا أنه يمكن للعقل أن يقبلها وللوجدان أن يستسيغها لأن القوم اقترفوا ما هو أفظع وهو غصب الخلافة من أهلها.
أن قضية ضرب الزهراء (صلوات الله عليها) بلطم وجهها مباشرة لا يقبلها الشيخ وجدانيا، لا لأن القوم يتحرّجون ويتورّعون عن ذلك بل بسبب التقاليد الجاهلية التي تمنع ضرب المرأة. وفيه: أن سبب اعتبار الأئمة (عليهم السلام) لهؤلاء القوم الأوغاد بأنهم أكثر خلق الله شرا هو أنه لم تمنعهم حتى أعراف الجاهلية عن الإقدام على هذه الجريمة الشنيعة، فاستبعاد وقوع هذه الجريمة بدعوى تمسكهم بهذه الأعراف غير صحيح إذ هو منفي عنهم. كما أن الاعتداء على النساء وقع من قبل عمر بن الخطاب في أكثر من مورد، كما في مجلس العزاء الذي أقامته عائشة عند هلاك أبيها، حيث ضربهن عمر بدرّته، وهو كاشف عن عدم تورّعه عن الاعتداء على النساء رغم ما فيه من عار على الرجل. وما ذكره عن الحوراء زينب (صلوات الله عليها) من همّ ابن زياد بضربها لولا أن منعه عمرو بن حريث هو أصلا يدفع إصراره على أن القوم كانوا متمسكين بالأعراف الجاهلية التي تمنع ضرب المرأة، فها هو ابن زياد قد همّ بالضرب دون أن تمنعه تلك الأعراف عن ذلك، وعليه يثبت أن بضعهم كان غير مكترث بتلك الأعراف والآخر كان متمسكا بها إلى حد ما كعمرو بن حريث، فما الذي يمنع أن يكون عمر ومن معه (عليهم لعائن الله) حين الهجوم على الزهراء (صلوات الله عليها) من أولئك الذين لا يكترثون كما هو ظاهر من أفعالهم في غير هذا المورد أيضا؟ أما ما استشكل فيه من أنه كيف لم ينكر أحد من أصحاب النبي (صلى الله عليه وآله) ما وقع على الزهراء (صلوات الله عليها) فمدفوع بأنه قد وقع الإنكار من بعضهم وذلك ما ذكرته الروايات صراحة من أنه حين همّ عمر (لعنة الله عليه) بتهديد الزهراء (صلوات الله عليها) ”أنكر الناس ذلك من قوله“ (الاحتجاج ج1 ص105) وأن الزبير أنكر فعليا حتى كُسر سيفه كما هو معلوم، وأنه على فرض عدم وقوع الإنكار فإن ذلك لا يلازم عدم وقوع الجريمة لوضوح أن السلطة الغاشمة كانت ذات قوة طاغية آنذاك سيما مع استعانتها بقبيلة أسلم وتكوينها كتيبة عسكرية قوامها ثلاثمئة رجل ومع هؤلاء يصعب على الناس إبداء الإنكار. وأما أن الزهراء (صلوات الله عليها) لم تذكر ضربها وإسقاط جنينها في خطبتها أو في سائر كلامها فلأن خطبتها صدرت منها بعد أيام عديدة من الحادثة وكانت منحصرة بالرد على فعل السلطة بمصادرة أرض فدك وهذا ظاهر من صدر الرواية، فلا داعي لذكر غير ذلك، والزهراء (عليها السلام) لم تذكر في خطبتها صراحة غصب الخلافة وما جرى في السقيفة فهل يكون ذلك دليلا على عدم وقوع ذلك؟! بل قد اكتفت بالتعريض دون التصريح في عباراتها، وهي تشمل غصب الخلافة ووقوع الجنايات عليها بما فيها الضرب واللطم وما إلى ذلك. وأما ما ذكره من أن أمير المؤمنين (عليه السلام) لم يذكر في كلماته أيضا هذه المصيبة فمنشأه عدم التتبع، وإلا فإنه (عليه السلام) قد ذكر ذلك صراحة في بعض الموارد ومنها قوله: ”أيتها الغدرة الفجرة! فاستعدوا للمسألة جوابا! ولظلمكم لنا أهل البيت احتسابا، أوَ تُضرب الزهراء نهارا؟! ويؤخذ منا حقنا قهرا وجبرا؟! - إلى أن يقول - فقد عزّ على علي بن أبي طالب أن يسودّ متن فاطمة ضربا! وقد عُرف مقامه، وشوهدت أيامه“. (الصوارم الحاسمة للكمالي الاسترابادي وعنه في نوائب الدهور للميرجهاني ج3 ص157). وأما قوله أن الزهراء بعد رجوعها من المسجد كانت متأثرة أشد التأثر حتى خرجت عن حدود الآداب التي لم تخرج من حظيرتها مدة عمرها؛ فكلام شنيع جدا وهو أشد من كبوة العالم ولا نعلم كيف تجرأت نفسه على التفوّه به. على أن هناك ردودا كثيرة أخرى على كلامه لا يهمنا التعرض لها الآن، غير أننا ننبه على أن لطمها (صلوات الله عليها) ليس بأعظم مما وقع على رسول الله (صلى الله عليه وآله) من الضرب بالحجارة حتى أُدمي وبرمي القمامة على رأسه الشريف ولا بأعظم مما وقع على أمير المؤمنين (عليه السلام) وعلى الحسن والحسين (عليهما السلام) وعلى سائر الأئمة وبنات الرسالة (عليهم السلام) أيضا في كربلاء، وفي كل تلك الحوادث لا يكون وقوعها دليلا على هوان من وقعت عليه على الله تعالى، نعوذ بالله من ذلك، وإنما هذه هي سيرة الأنبياء والأولياء (عليهم السلام) وهي سنة الله تعالى في أن يتحملوا مثل هذه الجنايات رغم فظاعتها وفي ذلك رفعة ومجدا لهم عليهم آلاف التحية والثناء، فمجرّد استبعاد وقوع اللطم على وجه الصديقة الطاهرة (عليها السلام) لأنها وجه الله المصون - وهي كذلك بلا ريب - ليس في محلّه وإلا لصح نفي كل ما وقع على سائر الأنبياء والأولياء لأنهم جميعا وجه الله المصون، وهذا واضح البطلان.
أن ما يخفف الخطب هو أنه إنما يستبعد لطمة الوجه، أي وصول يد الأجنبي مباشرة إليها أرواحنا فداها، أما ما عدا ذلك فلم يستبعده، أي لم يستبعد أصل وقوع الضرب، كما صرّح به في نهاية كلامه. فأين هذا مما ادعاه هذا الصبي الضال من أنه نفى وقوع ذلك أصلا؟! وحتى على فرض أنه استبعد كل ذلك، فواضح من كلامه أن استبعاده منشأه العاطفة لا العلم. فتنبّه.
هذا ولا نعلم أحدا من العلماء المعتبرين قد أنكر ما وقع على الزهراء صلوات الله عليها، فإن ظلامتها واضحة وضوح الشمس وبلغت في مجموعها حد التواتر الإجمالي، فكيف يمكن إنكارها أو التشكيك فيها؟! |