بسم الله الرحمن الرحيم
وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُم إنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْءاً كَبِيراً{31}
تنهى الاية الكريمة عن قتل الاولاد , وهذه من عادات العرب الجاهلية , وابرزها ( وأد البنات ) , لهم تعليلات كثيرة في هذا المضمون , فذكرت الاية الكريمة مختصرا شافيا شاملا لها جميعا ( خَشْيَةَ إِمْلاقٍ ) , الفقر والجوع , الحاجة وضنك المعيشة , ( نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُم ) , يبين النص المبارك ان الله تعالى قد تعهد بالرزق لهم ولأولادهم , رزقا كافيا , وايضا يدحض تعليلاتهم الباطلة تلك , ( إنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْءاً كَبِيراً ) , ذنبا عظيما .
وَلاَ تَقْرَبُواْ الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاء سَبِيلاً{32}
تنهى الاية الكريمة ايضا عن الزنا ( وَلاَ تَقْرَبُواْ الزِّنَى ) , وتبين في الوقت نفسه تعليلين لهذا التحريم ( النهي ) :
1- ( إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً ) : قبيح , ينكره العقل .
2- ( وَسَاء سَبِيلاً ) : قبح طريقه , لما فيه من اشكالات كثيرة , لعل اهمها :
أ) ولادات غير شرعية , لا نسب لهم او لا يعرف لهم اب , فتقطع الانساب وتبطل المواريث , وكذلك ابطال صلة الرحم وحقوق الاباء ... الخ .
ب) دخول الابناء الغير شرعيين في النسب بدون علم الاب طبعا , في حالات خيانة الزوجة .
ت) اكدت عدة دراسات نفسية , ان الاولاد غير الشرعيين يشكلون خطرا على المجتمع , فغالبا ما يكونوا مجرمين , او متمردين على النظام المألوف .
وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللّهُ إِلاَّ بِالحَقِّ وَمَن قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَاناً فَلاَ يُسْرِف فِّي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُوراً{33}
تستمر الاية الكريمة في بيان بعض النواهي ( وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللّهُ إِلاَّ بِالحَقِّ ) , ينهى النص المبارك عن قتل النفس بغير وجه حق , ولعل موارد جواز القتل كما يذكرها الفيض الكاشاني في تفسيره الصافي ج3 ( إلا بإحدى ثلاث كفر بعد الأيمان وزنا بعد إحصان وقتل مؤمن عمدا ) , ( وَمَن قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَاناً ) , ( لِوَلِيِّهِ ) لوارثه , او من يلي الامر بعد وفاته , ( سُلْطَاناً ) , تسلطا بمؤاخذة القاتل , ( فَلاَ يُسْرِف فِّي الْقَتْلِ ) , لذلك عدة اوجه :
1- كان متعارفا لدى العرب ولا يزال , سوف يكون القاتل في خطر الانتقام , ليس وحده فقط , بل اولاده واخوانه وسائر عشيرته , وربما لا يقتلون واحدا بواحد , بل قد يقتلون عدة اشخاص من عشيرة القاتل واقاربه بغير وجه حق .
2- في احيان كثيرة , عندما يلقى القبض على القاتل من قبل اولياء الدم لا يكتفون بقتله , بل يعرضوه الى شتى انواع التعذيب , وقد يمثلون بجسده .
3- ما اشار اليه الكافي والعياشي ( عنه عليه السلام إذا اجتمع العدة على قتل رجل واحد حكم الوالي أن يقتل أيهم شاؤا وليس لهم أن يقتلوا أكثر من واحد إن الله عز وجل يقول ومن قتل مظلوما إلى قوله فلا يسرف في القتل ) .
( إِنَّهُ كَانَ مَنْصُوراً ) , لعل افضل بيانا لهذه الموضوع ما جاء في تفسير الصافي ج3 للفيض الكاشاني وفي الكافي ( عن الكاظم عليه السلام إنه سئل عن هذه الآية قيل فما هذا الأسراف الذي نهى الله عنه قال نهى أن يقتل غير قاتله أو يمثل بالقاتل قيل فما معنى قوله إنه كان منصورا قال وأي نصرة أعظم من أن يدفع القاتل إلى أولياء المقتول فتقتله ولا تبعة تلزمه من قتله في دين ولا دنيا ) .
وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُواْ بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاً{34}
تستمر الاية الكريمة في بيان المنهي عنه ومنها ( وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ الْيَتِيمِ ) , لا تقربوا مال اليتيم فضلا عن ان تتصرفوا فيه , فتنفقوه حسب اهواؤكم , ( إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ) , يبيح النص المبارك التصرف بمال اليتيم على نحو يحفظه من التلف والضياع , وايضا بما يسد رمقه ويمنعه من تكفف الناس , ( حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ ) , حتى يتكامل اليتيم جسمانيا وعقليا , ( وَأَوْفُواْ بِالْعَهْدِ ) , يأمر النص المبارك بالايفاء بكل عهد اتخذه الانسان ( المؤمن ) على نفسه , في غير معصية لله تعالى , ( إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاً ) , يتعرض صاحب العهد الى المساءلة يوم القيامة , فأن هو قد وفى به , كان مثابا , والا يعرض نفسه للعقاب .
وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذا كِلْتُمْ وَزِنُواْ بِالقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً{35}
تأمر الاية الكريمة بأمرين وتبين بيانين :
1- ( وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذا كِلْتُمْ ) : لا تبخسوا منه شيئا .
2- ( وَزِنُواْ بِالقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ ) : الميزان السوي .
اما البيانين عند الالتزام :
1- ( ذَلِكَ خَيْرٌ ) : فأن في ذلك الخير لعموم افراد المجتمع .
2- ( وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً ) : افضل واحسن عاقبة عند الله تعالى .
وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولـئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً{36}
الاية الكريمة تضمنت نهي وبيان , فأما النهي ( وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ) , ينهى النص المبارك عن تتبع او قول ما لا تعلم , الا بعد التأكد والتثبت , اما البيان ( إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولـئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً ) , يبين النص المبارك ان السمع سيسأل عما سمع والبصر عما رأى والفؤاد عما اعتقد , فيثاب صاحبهم او يعاقب .
وَلاَ تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحاً إِنَّكَ لَن تَخْرِقَ الأَرْضَ وَلَن تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولاً{37}
تنهى الاية الكريمة ( وَلاَ تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحاً ) , متكبرا مختالا , ثم ترد على اصحاب الكبر والخيلاء بجوابين بالغين :
1- ( إِنَّكَ لَن تَخْرِقَ الأَرْضَ ) : مهما تكبرت او زاد خيلائك , فأن خطواتك على الارض لن تخرقها , بل ستبقى مجرد دابة تدب عليها .
2- ( وَلَن تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولاً ) : وايضا مهما زاد خيلائك , فلن تبلغ به الجبال طولا , فأنت مجرد قزم امام الجبال الشاهقة , لا ينفعك غرورك وخيلائك تجاهها شيئا .
كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيٍّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهاً{38}
تبين الاية الكريمة ( كُلُّ ذَلِكَ ) , كل ما تقدم في الايات الكريمة السابقة من الصفات القبيحة والمذمومة , ( كَانَ سَيٍّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ ) , عند الله تعالى ذكره سيئة , وليست سيئة فقط بل ( مَكْرُوهاً ) , مبغوضا ايضا , لا يرتضيه جل وعلا لعباده , وخصوصا المؤمنين .
ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ وَلاَ تَجْعَلْ مَعَ اللّهِ إِلَهاً آخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُوماً مَّدْحُوراً{39}
المخاطب في الاية الكريمة النبي الكريم محمد (ص واله) والمعنى للناس كافة , ونستقرئها في موردين :
1- ( ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ ) : يبين النص المبارك ان كل ما اوحي للنبي الكريم محمد (ص واله) من النهي عن الخلق الذميم والامر بمكارم الاخلاق لهي من موارد الحكمة .
2- ( وَلاَ تَجْعَلْ مَعَ اللّهِ إِلَهاً آخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُوماً مَّدْحُوراً ) : وايضا من موارد الحكمة توحيد الله عز وجل , كما قيل ( رأس الحكمة مخافة الله ) , وايضا ما اشارت اليه الاية الكريمة { وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَن يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ }لقمان12 , ان عدم شكر الله تعالى على نعمه يوجب الكفر او الشرك , فأشارت الاية الكريمة ( وَلاَ تَجْعَلْ مَعَ اللّهِ إِلَهاً آخَرَ ) , تتخذ شريكا لله تعالى ذكره او الها مستقلا عنه جل وعلا , ( فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُوماً مَّدْحُوراً ) , فأن من يفعل ذلك ليس له الا هذا المكان والمنزلة يوم القيامة .
أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُم بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلآئِكَةِ إِنَاثاً إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلاً عَظِيماً{40}
الاية الكريمة في محل الرد على ما كان متعارف ومتوارث من مزاعم عرب الجاهلية بالعموم واهل مكة بالخصوص , حيث كانوا يدعون ان الملائكة هم بنات الله تعالى عن ذلك علوا كبيرا , ( إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلاً عَظِيماً ) , للنص المبارك عدة موارد منها :
1- هذه المزاعم الشنيعة والقبيحة , حيث لا يليق به جل وعلا ان يتخذ ( اولاد – بنات – زوجة ... الخ ) .
2- اختياركم للبنين لتفضيلكم اياهم على البنات , لما فيهم من القوة وكثرة العدد والتفاخر والقدر على الكسب وغيره , ثم نسبة البنات المعروفات بالضعف وقلة الحيلة لديكم الى الله تعالى عن ذلك علوا كبيرا .
وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَـذَا الْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُواْ وَمَا يَزِيدُهُمْ إِلاَّ نُفُوراً{41}
تبين الاية الكريمة ( وَلَقَدْ صَرَّفْنَا ) , بينا العبر والعظات , الحجج والبراهين الساطعة , ( فِي هَـذَا الْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُواْ ) , ليتعظوا ويعتبروا , ويدركوا حقيقة ما هم عليه , فيتداركوا امرهم , لكنهم لشدة تعلقهم بعاداتهم وتقاليدهم وشدة تمسكهم بميراث الاباء ( وَمَا يَزِيدُهُمْ إِلاَّ نُفُوراً ) , لا يزيدهم الا بعدا عن الحق , فيزدادون غفلة عن الاعتبار .
|