• الموقع : كتابات في الميزان .
        • القسم الرئيسي : ثقافات .
              • القسم الفرعي : ثقافات .
                    • الموضوع : المتعقب ! .
                          • الكاتب : حيدر الحد راوي .

المتعقب !

ذلك اليوم كنت اتجول وحيدا في مدينة الناصرية الفيحاء , كل اصدقائي قد شتتهم مشاغل الحياة , بعضهم ذهب لاداء الخدمة العسكرية , وبعضهم قد حصل على عمل بعد الدوام الرسمي , اما صديقي الاقرب فقد كان مريضا . 

تجولت في الشوارع على غير هدى , حتى نال مني التعب , فاتخذت مقعدا على ضفاف نهر الفرات , اراقب الماء وانظر الى الشمس عند المغيب , الملل كان سيد الموقف , لقد ملّ النهر مني , حتى استشعرت انه لا يريد ان يراني , وكذلك المصبطة الكونكريتية شعرت انها قد سئمت من كثرة جلوسي عليها , وتطالبني بالرحيل , لابد ان اتخلص من هذا الملل البغيض , نظرت الى الشارع خلفي , كان هناك الكثير من المارة , فحدثتني نفسي ان اختار احدهم , اسير خلفه واتبع خطاه , استحسنت الفكرة , وقعت انظاري على احدهم وانطلقت خلفه . 

احتفظت بمسافة متوسطة البعد بيني وبينه , بحيث اتمكن من رؤيته بوضوح ولا يمكنه ان يفلت من ملاحقتي , انعطف في عدة شوارع مزدحمة , ثم سلك طريقا مستقيما , بكل هدوء وتوازن , ثم توقف عند باب احد المنازل , فتحه ودخل , نظرت الى الساعة , لقد حان موعد عودتي للبيت , لقد امضيت وقتا جميلا ! . 

في اليوم التالي , عدت الكرة , وتبعت احدهم , لكنه التفت خلفه فشاهدني , لم يعـر للامر اهمية , استمر في سيره بهدوء , يخرج من شارع ليدخل في اخر , حتى توقف امام محل مرطبات , فتوقفت في زاوية واشعلت سيكارة , وانتظرته حتى اكمل مشروبه وانطلق قدما , لاحقته , حتى وصل الى كراج سيارات , استقل باصا لينطلق الباص الى احد الاحياء السكنية , لقد امضيت وقتا ممتعا , فكرة قتلت حالة الملل والجمود لدي ! . 

في اليوم الثالث , بينما كنت اتجول في شوارع المدينة , مستمتعا في هذه المهمة , باحثا عن مهمة ممتعة اخرى , فقررت ان اعبأ جسدي بالمزيد من الطاقة , فقصدت احدى الكافتريات , وتناولت لفة فلافل مع سبعة قطع من الفلفل الحار , فشعرت بالنشاط والحيوية , وقررت ان لا اكتفي بمتابعة شخص واحد , بل عدة اشخاص , تفحصت المارة كي اختار احدهم , فوقع نظري على حدثين يسيران معا , يتبادلان اطراف الحديث , يتمازحان ويضحكان , فانطلقت عقبهما , تجولا كثيرا في الشوارع , وتوقفا امام مجموعة من المحلات , ثم اقفلا عائدين الى البيت كما يبدو , كان الشارع الاخير خال تقريبا من الناس , الا رجل واحد غليظ الجثة , مفتول العضل , يرتدي سروالا داخليا , كان يقف بالقرب من باب منزله , فاسرع اليه احدهما وقال له : 

- مازن ... هذا الرجل يتبعنا ويقتفي اثرنا منذ ان ذهبنا الى السوق ولحد الان ! . 

واشار نحوي , بينما اكد الولد الاخر مقالة الاول , واشار نحوي , فاستشاط الرجل غضبا , ونظر الى داخل البيت وصاح بصوت جهوري اجش : 

- حمودي ... حسوني ... علاوي ... الحقوا بي ! . 

وشمر عن ساعديه واقبل نحوي مغضوضبا , طبعا سوف لن انتظر حمودي و حسوني وعلاوي , فحضورهم لا يسعدني , التفت يمينا ويسارا , ثم اطلقت ساقي للريح , كنت الاسرع , تنقلت بين الازقة والمطبات الضيقة والشوارع حتى اضاعوا اثري , فتوقفت لالتقط انفاسي , واعود للبيت , في طريق العودة فكرت اني اليوم حققت عدة انتصارات , الاول اني تخلصت من حالة الملل والضجر , والثاني اني قضيت على الروتين اليومي , والثالث اني صنعت تجديدا مهما في حياتي , والرابع وهو الاهم اني مارست رياضة الجري لمسافات طويلة , حيث لم امارس هذه الرياضة منذ زمن بعيد ! .   

في اليوم الرابع , اخترت واحدا من المارة , كان قد اطلق لحيته , يرتدي دشداشة بيضاء , تبعته , لكنه كان كثير الالتفات الى الخلف , فلاحظ وجودي في الشارع الرئيسي , وكذلك لاحظ وجودي خلفه في الشوارع والمنعطفات الاخرى , لم يكن ذلك ليردعني فاستمرت الملاحقة , حتى دخل في منعطف ضيق , حالما انعطفت خلفه , واذا به ممسكا بيّ , بدت عليه علامات الذعر والهلع , اغرورقت عيناه بالدموع , لم يكف عن التوسل وطلب العفو والمسامحة , ادهشني الموضوع فتحليت بالسكوت , لم انبس ببنت شفة , الامر الذي زاده قلقا , فوددت ان اخفف عنه : 

- ما الامر ؟ . 

استرسل بالشرح لي انه مطارد من قبل رجالات الامن , وانه قد اعتقل عدة مرات , وقد منع من التواصل مع اشخاص وحظروه وحذروه من الذهاب الى بعض الاماكن , لكنه اليوم خالف الامر وذهب الى مكان محظور عليه , فظن اني من رجالات الامن وطلب مني التغاضى عن الموضوع مقابل هدية مادية , حاولت تهدئته واخبرته ان لا صلة لي بهذه المؤسسة الاجرامية , لكنه لم يصدق , حتى ابرزت له هويتي ( هوية طالب ) , فتنفس الصعداء , وظهرت عليه علامات الانشراح والسرور , واعتذر مني , واعتذرت له بدوري , وانصرف كل منا في جهة , عندها قررت الكف عن مثل هذه السخافات ! . 

في اليوم الخامس , حيث كنت اتأمل نهر الفرات , في نفس المكان المعتاد , وكان الملل سيد الموقف , حدثتني نفسي ان اتعقب احدهم , لكني رفضت , فسولت لي نفسي انها ستكون الاخيرة , فوافقت ! . 

نظرت الى المارة , فوقعت عيناي على احدهم , كان شابا ممتلئ الجسم , يحمل حقيبة جلدية صغيرة في يده , يسير بزهو وعنفوان الشباب , ينظر في كل الاتجاهات , كانه يحب الاستطلاع , فخشيت ان يلاحظ وجودي خلفه , لكني لم اعبأ بذلك ابدا , انعطف في عدة شوارع , لكنه ما يفتأ ان يرمقني بنظرات لا تخلو من الريب , لم ابالي واستمرت الملاحقة , حتى انعطف في شارع يكاد يخلو من المارة , بمجرد ان انعطفت في نفس الشارع فاذا به يفاجئني , لكنه لم يبدو في حالة غير طبيعية , فقد كان يرتجف بشدة , كل جسده , حتى انه لم يقوى على الكلام , فقد جف ريقه , وظهرت عليه علامات الذعر والهلع والرعب , فاصفر وجهه , كان يحاول الكلام الا ان النطق خانه , فحاول ان يدخل يده في جيبه عدة مرات , فلم يفلح , من شدة رجفانها واهتزاز جسده , حتى تمكن اخيرا ان يدسها في جيبه ليخرج علبة سكائر , فاشعل السيكارة بعد جهد جهيد , وعناء مضني , كان السكون مخيما , يساورني القلق والرأفة بحاله , لمت نفسي على مثل هذه التصرفات المتهورة , من شاب نصف طائش , حتى تمالك نفسه وقال بصوت متردد : 

- انها ستكون الاخيرة ! .        

فرددت عليه بصوت ملئه الثقة : 

- متأكد ! . 

فاقسم على انها ستكون الاخيرة , واسترسل في الشرح , فعرف عن نفسه انه من رجالات الامن البغيض , وانه يحتجز معاملات المواطنين في مكتبه , ويجبرهم الى الذهاب الى مكان معين ليدفعوا المال هناك , ثم يذهب هو الى ذلك المكان بعد الدوام الرسمي ليأخذ الوارد او الدخل كما يسميه , على ان يقوم في اليوم التالي بانجاز كل معاملة دفع صاحبها الثمن المقرر عليه , وانه يجني اموالا طائلة بهذه الطريقة , الا ان زملائه طالبوه بحصة , فرفض ان يعطيهم شيئا , فهددوه ان يشكوه الى جهة شديدة السطوة , واسعة النفوذ , سيئة الصيت , فظن انهم قد فعلوا ذلك , وانا من تلك الجهة , وظن ايضا اني قد القيت القبض عليه متلبسا بالجرم المشهود , حيث ان في حقيبته الكثير من المال كان قد استلمها توا من الشخص الوسيط , وظن اني كنت اراقبه منذ وقت بعيد . 

لم اتفوه بكلمة , خشيت ان يكشف امري , ما زاده قلقا وتأكيدا بأني منهم , فاقترح ان يعطيني بعض المال كي اتغاضى عن الامر , وفعلا فتح الحقيبة وتناول رزمة , قدمها لي , لم امدّ يدي لها , فظن اني اريد المزيد , ناولني رزمة اخرى , لم امد يدي لها ايضا , فقرر ان يعطيني المزيد , فملئت جيوبي , حتى ان الرزم خرجت بارزة من جيوبي , لسذاجتي , نظرت هنا وهناك بحثا عن كيس بلاستك , لكني عدت الى رشدي , فرمقته بنظرة ثاقبة حازمة ثابتة , جف الدم في عروقه , فقرر ان يعطيني الحقيبة كلها , وفعلا اخذت الحقيبة وهممت بمغادرة المكان , حتى اني تناسيت من انه قد يتعقبني ويكشف امري , فاصدر قهقهة خفيفة , التفت اليه فوجدته يبتسم لي ابتسامة حمقاء , ليقول : 

- كنت اطمع ان احصل على ثمن علبة سكائر ! .    

نظرت اليه نظرة احتقار , واعتقدت ان مطلبه هذا قد يكون في محله ,  ثم فتحت الحقيبة واخرجت رزمة , وناولته ورقة واحدة فقط , فاصدر قهقهة حمقاء مع ابتسامة بلهاء , كأنه يريد المزيد , فتناولت ورقة اخرى , لكنه استمر بالتبسم والقهقهة ككلب يتملق صاحبه , ليرمي له عظما , فناولته ورقة ثالثة وقلت له بحزم : 

- هذا يكفي ! ... اذهب ! . 

فعلا , غادر المكان مسرعا , حالما ابتعد كثيرا , توجهت الى اقرب تكسي , وانطلقت مبتعدا , لقد كان المبلغ كبيرا ذلك الوقت , ففكرت انه ليس من حقي , بل هو مال مغتصب من اهله , لا اعرفهم فأعيده لهم , فقررت ان اوزعه بين بعض الفقراء والمحتاجين ! . 

بعد مضي عدة اسابيع , عدت للتأمل على ضفاف نهر الفرات , في نفس المكان المعتاد , حيث يرافقني الملل والسأم والضجر , فحدثتني نفسي ان اعيد الكرة , رفضت , لكنها اصرت , فالتزمت الرفض , ومن جانبها التزمت الاصرار , فقلت لها مقالة الرافض العنيد :  

- مو كل مرة ... تسلم الجرة ! ! . 




  • المصدر : http://www.kitabat.info/subject.php?id=38338
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2013 / 10 / 24
  • تاريخ الطباعة : 2025 / 03 / 15