في زمن صدام كان الجميع يستمع وربّما يسجل كل كلمة لك،لكن لااحد يتكلم،كلهم اذان صاغية،الآن المشكلة أكبر، كثر المتكلمون، والفاجعة انه لايوجد أحد يستمع اليهم!!،الوحيد ومن القلائل الذين خرجوا على القاعدة وهو غير مسلّح بسيارة مفخخة او عبوة ناسفة هو العقل العراقي المتفتح المرحوم الدكتور علي الوردي كافراً بكاتم الصوت والموت معاً.
ماكتبه الوردي طيلة ايام تفكيره كان بحاجة الى صورة شخصية يرسمها القاريء له حتى تكتمل الصورة وتصل الى مقام(ابتسم للصورة)،وهذا ماكان اغلبه مخفيّاً حتى لاتتخربط صورة السيد الرئيس(حفظه الله ورعاه سابقا!)،فكيف إذا وجدت قلما يرسم لك بالكلمات صوراً كانت مخفية الا على الخواص من صحابة الوردي،هذا الشاهد الحي الحقيقي هو محمد عيسى الخاقاني الذي أخرج لنا(مئة عام مع الوردي) من ألسن المطابع.
لم اجد ارق طبعا في حياتي من محمد عيسى الخاقاني،هذا الشاب الذي رافق العلماء وكأنه هامش في متن، فنسي نفسه في خضم روايته لهم او تناساها،لكنهم حين ذهبوا هناك!أخرج رأسه هنا ليقول:هذا أنا،فتراه يكاد يذيقك رقته ولطفه بكأس محبته منذ أن تقع عيناك على وجهه المبتسم دوما،حتى تراءى لي وانا اقرا له رائعته هذه انه يخرج لسانه من بين الحروف ويقول لي:
- شلونك ياطيب...كَول ماكو هيجي حجي؟.
. بين يديّ كتاب كنت أنتظره شخصيا منذ زمن طويل،وحين وقع بين يديَّ ووضعته في حملي تعجّلت الرجوع الى البيت لأتعرف من جديد على استاذ الجيل الدكتور المرحوم علي الوردي،محمد الخاقاني الذي رافق الوردي عشر سنوات كانت بمثابة قرن من السنوات،واتيقن أن عبقرية الوردي هي التي اختصرت الطرق على الخاقاني لأنه استطاع ايصال فكرته من دون أن يفتح فمه له ويقول له(هذا عنوان كتابك عني).
العالم الشخصي صورة مكمّلة لصورة الكتاب الذي يتركه الكاتب،فكيف إذا وقع بيد مترجم لم يكن شاهداً، بل كان ممثلا في مسرحية موت العلماء في وطن يصدّر العمائم ويستقبل المآتم،لهذا أخذ الكتاب مساحة الحاشية في حياة الوردي بلغة خاقانية مؤدبة(أنا البعيد عنها)،وكأن محمد الخاقاني كتب الكتاب ليقدمه بيديه الصغيرتين ويضعه برفق بين يدي استاذه الوردي كمن يضع وردة فوق قبر حبيبه،الأمر الذي جعلني أقرا الفاتحة على روح الوردي، وحقيقة لوعُرضت الكتب التي كُتبت عن علي الوردي أمامه لاختار هذا الكتاب وجعله (مقدمة ابن عيسى الخاقاني)لسبب بسيط:لأول مرة اقرأ كيف تتحول المحبة الى فعل وليس ردة فعل.
ليس من السهولة الدخول الى حلبة علي الوردي دون أن تصيبك الدهشة، اوحتى الخروج بنفسك وأنت تفقد جزءا من لغتك وتتأثر بلغته الصافية،لكنني أتيقن أن علي الوردي جاء في زمن ليس له علاقة به لا من قريب ولا من...بعير، وربما كان الوردي بحد ذاته عبئا كبيرا على سياسيي(ذاك الوكت)و(عربنجية هذا الوكت!)، وهنا تكمن خطورة توضيح الصورة الحقيقية للوردي بكل بياضها وسوادها، لاسيما ان البعض جعل من الوردي مادة دسمة لصنع الاكلات الاسطورية برأسه!، في زمن تعلّم اولاده السكوت منذ زمن الفعل الماضي الى الفعل المضارع المستمر، لهذا كان لمحمد بن الشيخ عيسى الخاقاني حسنة الشرح والتعديل بعد أن كثرت بحق استاذه واستاذ الجيل الأحاديث الموضوعة عنه.
الوردي قنبلة موقوتة وانتحاري من نوع فريد أراد أن ينتحر ليعلّم الناس أن يرفعوا أصواتهم في زمن ندرت فيه فصيلة الوردي البشرية الناطقة،وكأنه كان يستجدي بمواقفه الجريئة حكومة البعث أن تمنحه شرف الشهادة، لكنها أبت ألا أن تتركه يتكلّم وألجمت الرواة بخوفهم على كل شيء يحيط بهم، كان مقتنعا بقدره انه باب واسعة لدخول التاريخ كما اثبتها الخاقاني نفسه.
من أجل انصاف الدكتور علي الوردي في حياته او بعد موته،ربما كان له أمل أن يجد رواة حقيقيين يفهمون الوردي كما فهم هو الشخصية العراقية من منظاره الخاص، واتيقن ان الوردي حصل على مبتغاه اخيرا بكتاب الخاقاني عنه لانه آمن ان العهد الديمقراطي لايستوجب عليه الذهاب يوميا الى مديرية الامن العامة للتوقيع على حضوره يوميا.
من يريد أن يتعرف على الوردي،الثائر،والانسان الذي وضع نفسه هدفا لتلقّي سهام النقد والتجريح وربما التخوين، عليه ان يقرأ كتاب محمد الخاقاني ومئة عام من عزلة الوردي الذي وضع نقاطه العيسوية على حروف علي الوردي فكان بخورها يملأ الكتاب بموضوعية (شريطة ان لايفهم الخاقاني حسب قاعدة الدكتور المرحوم حسين على محفوظ في انني اعني أبيات ابي تمام الشهيرة:
(وإِذا أَرادَ الله نَشْرَ فَضيلةٍ طُويَتْ أَتاحَ لها لسانَ حَسُودِ
لولا اشْتِعالُ النار فيما جاوَرَتْ ما كانَ يُعْرَفُ طِيبُ عَرفِ العود).
الوردي الذي صرخ بوجه حكومة البعث(ان الاخلاق نتيجة من نتائج الظروف الاجتماعية، فالغربيون لم تتحسن اخلاقهم، الا بعد ان تحسنت ظروفهم الحضارية والاقتصادية) بحاجة الى تطبيق ارائه الموضوعية حتى لو اختلفنا معه في جزئية لاتخفي عبقريته العراقية لاسيما وان اسمه ارتبط بالشخصية العراقية وليست الشخصية النيجيرية كما فهمها السياسيون في ذلك الوقت والعربنجية في هذا الوقت!!.