في صبيحة هذا اليوم حيث أرتفعت الشمس وأنا في خضم العمل، أشرقت روحي إشراقاً بهياً، غريباً، وخلتني أسير نحو عتبة الموت، وبدا لي الموت خلاصاً رائعاً، تجلت في أعماقي كوة كالنافذة، رحت أحملق من خلالها نحو العالم الرائع، نحو الموطن الحقيقي ما بعد الموت! وبدت لي الدنيا جديدة رائعة.
ما أسعدني إذا أموت! لا بد أنني أظل أشعر بما يدور حولي بعد موتي أيضاً، ها أنني من تحت ألواح التابوت أرى الناس يتبعونني وينتحبون، وهم يتأسفون ويتأففون، وما أدراهم أن سفرتي رائعة وسعيدة لا يدرون كم يلذ لي هذا الرحيل!
ظلت هذه اللحظات السعيدة تحف بي مدة ساعات، لم أذق في حياتي لذة كهذه، أنتشيت حتى الثمالة، ولأول مرة تبدو لي السماء جميلة جداً بل وأجمل ما رأيت في حياتي، السماء قطعة زرقاء، صافية، نقية، نقاء الروح الخالدة التي كشفت لي هذا الطريق الوضاء.
ما أعذب الموت! ما أسعدني حين يحملني الناس إلى موطني الأول والحقيقي والخالد، ورأيتني أحن، حنيناً حاراً طاغياً، وأضحى حنيني يتعاظم، ويبدو لي أن حنيني حقيقي إلى موطني الحقيقي فأشتد شعوري بالغربة في العالم، والناس حولي يروحون ويغدون، ويواصلون حياتهم الضحلة، بدوا لي جميعهم كأشباح تتحرك، عجبا! أما زلت أعامل العالم من خلال هؤلاء الناس؟!
لو تركوني لحظة أزداد نشوة في عالمي الجديد! لو طالت هذه الساعات اللذيذة من الوجد! لا.. لا.. لا تغربي عني أيتها الشمس الجديدة.
وحنيني يتعاظم إلى الوطن، أريد أن أهجر عالم الغربة، وروحي المتمردة الثائرة تستعجل الرحيل، وأشتد إلحاحها حين لاحت لها أفاق عالمها الحقيقي الخالد، وحين تذوقت قطرات من نبع الخلاص النهائي، بدا لي أنني قدمت فعلاً، عجبا! كم تبدو الدنيا حلوة زاهية، الأن بعد الموت!
خذني إليك أيها الموت الرحيم، ما دام أن خلاصي الأبدي يكمن فيك، ودع الناس تتجمد الدموع في مأقيهم أو تتلوى العذبات في أعماقهم، فما ذنبهم إذا كان الضباب يغشي أبصارهم؟!
أهدي لكل محبي المفكر والأديب المرحوم فلك الدين كاكائي هذه المقالة التي كتبها بقلمه قبل أكثر من أربعين عاماً على صفحات جريدة التآخي حينما كان والدي الشهيد رئيسا لتحريرها ما بين عامي 1967 – 1968 ، كان هذا الأديب المبدع يطرز جريدة التآخي بمقالاته المبدعة، وزاوية خاصة بعنوان ( حلاجيات ).
فقدت الأوساط السياسية والإعلامية واحداً من أبرز الرموز السياسية والإعلامية والفكرية والثقافية التي أغنت المجتمع الكردي بصورة خاصة والعراقي والعربي بصورة عامة بالأبداع الفكري والثقافي الفذ من خلال قلمه المبدع المكافح في سبيل الإنسانية.
تلقيت بألم وحزن نبأ رحيل المناضل والأديب والكاتب الاستاذ فلك الدين كاكائي ( رحمه الله )، وكنت قد عرفت شخصيته من خلال أرشيف والدي عبر مقالاته المبدعة المنشورة على صفحات جريدة التآخي.
كان المناضل المرحوم أبن مدينة كركوك إنسانا وفياً ومخلصاً وصادقاً لرسالته ونضاله وأصدقائه، وأديباً مبدعاً وسياسياً بارزاً، تنامى لديه الشعور القومي ودخل النضال السياسي وهو في عنفوان شبابه، فصار عضواً في الحزب الديمقراطي عام 1961 وهو لم يتجاوز العشرين من عمره، أستمر الأستاذ الكاكائي في الكتاباته منذ صدور جريدة التآخي عام 1967 وقبلها وإلى آخر نبض في حياته، فأبدع في كل مقالاته ومؤلفاته العديدة، وأشد ما كن يميز كتاباته هي القضايا الإنسانية وبأسلوب نثري رائع، فكان يفسر أحلام الكادحيين ويبرز معاناتهم، ومن أشهر مؤلفاتهِ: العلويون، موطن النور، احتفالاً بالوجود، حلاجيات، البيت الزجاجي للشرق الأوسط، وانقلاب روحي، وغيرها العديد من المؤلفات.
أقدم أحر التعازي والمواساة لعائلة المرحوم المناضل الأستاذ فلك الدين كاكائي
وأسال الله أن يتغمده برحمته ويلهم عائلته الصبر والسلوان ( إن لله وإن إليه راجعون ). |