بسم الله الرحمن الرحيم
لسورة يونس الشريفة فضائل كثيرة , نذكر منها ما ورد في كتاب ثواب الاعمال , عن ابي عبدالله (ع) انه قال : من قرأ سورة يونس في كل شهرين او ثلاثة , لم يخف عليه ان يكون من الجاهلين, وكان يوم القيامة من المقربين .
الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ{1}
ابتدأت الاية الكريمة بالحروف المقطعة ( الر ) , او الحروف النورانية , التي لا يعلم سرها الا الله والراسخون في العلم , اورد السيد هاشم الحسيني البحراني في تفسير البرهان ج3 حديثا ( حدثنا سفيان بن سعيد القرشي قال قلت لجعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن ابي طالب صلوات الله عليهم ما معنى ( الر ) ؟ , قال (ع) : " الر " انا الله الرؤوف ) .
كل الكتب الالهية تتصف بالحكمة المتعالية , لكن البشرية لم تعرف كتابا ربانية اكثر حكمة من القرآن الكريم , لما فيه من الصفات والخصائص المنقطعة النظير في غيره من الكتب السماوية ( تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ ) .
أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِّنْهُمْ أَنْ أَنذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُواْ أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِندَ رَبِّهِمْ قَالَ الْكَافِرُونَ إِنَّ هَـذَا لَسَاحِرٌ مُّبِينٌ{2}
تشير الاية الكريمة الى ثلاثة مضامين رئيسية :
1- ( أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِّنْهُمْ أَنْ أَنذِرِ النَّاسَ ) : ما كان ينبغي ان يعجب الناس ( اهل مكة ) ان ينزل الله تعالى وحيه المقدس على رجل منهم ( النبي محمد"ص واله") , ( أَنْ أَنذِرِ النَّاسَ ) , يخوف الناس ويحذرهم من مغبة عصيانهم لله تعالى وركوبهم الاثام والمعاصي , وما ينتظرهم من عذاب بعد الموت وفي الحياة الاخرة , وهذه هي الوظيفة الاولى لنبي الكريم محمد (ص واله) .
2- ( وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُواْ أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِندَ رَبِّهِمْ ) : يشير النص المبارك الى الهدف ووظيفة الرسول الكريم محمد (ص واله) الثاني وهو البشارة , فيبشر (ص واله) المؤمنين بأن لهم عند الله تعالى ( قَدَمَ صِدْقٍ عِندَ رَبِّهِمْ ) , و ( قَدَمَ صِدْقٍ ) فيها اراء كثيرة ومختلفة , نذكر منها :
أ) اجرا حسنا .
ب) منزلة سامية .
ت) سابقة فضل .
ث) شفاعة النبي الكريم (ص واله) .
ج) ولاية امير المؤمنين علي بن ابي طالب . ( تفسير البرهان ج3 / السيد هاشم الحسيني البحراني ) .
3- ( قَالَ الْكَافِرُونَ إِنَّ هَـذَا لَسَاحِرٌ مُّبِينٌ ) : عندما يشاهد الكفار المعجزات الباهرات , والحجج الساطعة , ويعجزوا عن الرد عليها , فلا يجدوا سوى ان يقذفوا صاحبها بالتهم , فكانت ( إِنَّ هَـذَا لَسَاحِرٌ مُّبِينٌ ) , وهذا هو احد اساليب العاجزين .
إِنَّ رَبَّكُمُ اللّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الأَمْرَ مَا مِن شَفِيعٍ إِلاَّ مِن بَعْدِ إِذْنِهِ ذَلِكُمُ اللّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ{3}
نستقرأ الاية الكريمة في خمسة موارد :
1- ( إِنَّ رَبَّكُمُ اللّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ ) : النص المبارك يبين امرين :
أ) ( إِنَّ رَبَّكُمُ اللّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ) : لا يعلم على نحو التأكيد انها من ايام الدنيا ام من مواقيت عالم الملكوت , لكن حملها على انها من ايام الدنيا يتعرض للنقد , بعد معرفة ان اليوم يتكون من ليل ونهار ناتجين من دوران الكرة الارضية , مع وجود الشمس , ففي ذلك الحين لم تكن الارض ولا الشمس قد وجدتا بعد , فيوكل العلم بالايام الستة تلك الى الله تعالى والراسخون في العلم .
ب) ( ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ ) : الاستواء على العرش يحتمل اراء عدة , لا جزم فيها لكنها قابلة للنقاش , فيرجح انه جل وعلا استوى على العرش بما يليق به عز وجل .
2- ( يُدَبِّرُ الأَمْرَ ) : نص مبارك مختصر تضمن الكثير من المعاني , فمنها على سبيل المثال :
أ) تصريف حركات الكواكب والنجوم .
ب) تهيئة العوامل المناسبة لديمومة الحياة ( للحيوانات والنباتات ) .
ت) تصريف امور الخلق كديمومة النسل والارزاق ... الخ .
ث) ايجاد السبل الكفيلة بحماية الكون وحفظه من التلف والانهيار , واستمرار بقائه الى يوم القيامة .
3- ( مَا مِن شَفِيعٍ إِلاَّ مِن بَعْدِ إِذْنِهِ ) : يشير النص المبارك الى موضوع الشفاعة , ويؤكد انها لا تكون الا بعد اذنه سبحانه وتعالى لمن ارتضى من رسول او نبي او رجل صالح او عمل خير وغير ذلك .
4- ( ذَلِكُمُ اللّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ ) : بعد ان بينت النصوص المتقدمة انه جل وعلا خلق السموات والارض في ستة ايام , ثم استوى على العرش , يدبر ويصرف امور الخليقة , وبينت ان الشفاعة لا تقبل من ايا كان , بل فقط من ارتضاه جل وعلا , فيشير النص المبارك ( ذَلِكُمُ اللّهُ رَبُّكُمْ ) , الخالق المدبر , ويأمر بوجوب عبادته ( فَاعْبُدُوهُ ) , ولا تعبدوا شيئا غيره مما خلق سبحانه وتعالى .
5- ( أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ ) : يشير النص المبارك الى ثلاثة امور :
أ) الى الميثاق الذي اخذه الله تعالى على بني ادم في عالم الذر .
ب) من المعلوم ان كفار مكة كانوا يؤمنون بوجود الله تعالى , لكنهم يعبدون الاصنام لتقربهم اليه جل وعلا , فيذكرهم النص المبارك بالالتفات الى نبذ الاصنام وعبادته جل وعلا وحده .
ت) اشارة الى التذكر والتفكر في ما ذكرته الاية الكريمة في مقدمتها عن خلقه جل وعلا للسموات والارض , واستوائه على العرش , وتدبيره لامور الخلق .
إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً وَعْدَ اللّهِ حَقّاً إِنَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ بِالْقِسْطِ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ لَهُمْ شَرَابٌ مِّنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُواْ يَكْفُرُونَ{4}
تشير الاية الكريمة الى عدة مضامين منها ( إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً ) الجميع وبدون استثناء راجع اليه جل وعلا يوم القيامة , ( وَعْدَ اللّهِ حَقّاً ) , منه جل وعلا الوعد الحق , الذي لا ريب فيه ولا شك , ( إِنَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ) , يبدأ الخلق بالانشاء , ويعيده بالبعث , والغرض من ذلك ( لِيَجْزِيَ ) , وتنطوي على معنيين :
1- بمعنى الثواب للمؤمنين ( الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ بِالْقِسْطِ ) .
2- بمعنى العقاب للكافرين ( وَالَّذِينَ كَفَرُواْ لَهُمْ شَرَابٌ مِّنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُواْ يَكْفُرُونَ ) , فيشير النص المبارك الى ان لهم نوعين من العذاب :
أ) ( لَهُمْ شَرَابٌ مِّنْ حَمِيمٍ ) : ماء في منتهى غايات الحرارة .
ب) ( وَعَذَابٌ أَلِيمٌ ) : صنوف مؤلمة من العذاب , تعتمد على نوع الجرم والمعصية .
ثم يذكر النص سبب هذين الصنفين من العذاب ( بِمَا كَانُواْ يَكْفُرُونَ ) .
هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاء وَالْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللّهُ ذَلِكَ إِلاَّ بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ{5}
تبين الاية الكريمة عدة مضامين , نذكر منها اربع :
1- ( هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاء ) : ( ضِيَاء ) اسم جامع للنور والضوء , فيتكون النهار من ضياء الشمس , لينعكس ضيائها على وجه القمر ليرسل نوره على الارض ليلا .
2- ( وَالْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ ) : نور القمر مكتسب من عكس اشعة الشمس ( ضياءها ) , وليس هو قائما بحد ذاته , ( وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ ) , منازل القمر ثمانية وعشرون منزلة , ( لِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ ) , يعرف اول الشهر واخره من القمر , وبذا يعرف تمام كل سنة .
3- ( مَا خَلَقَ اللّهُ ذَلِكَ إِلاَّ بِالْحَقِّ ) : لم يخلق الله تعالى الخلق عبثا , حاشاه , بل كل شيء محسوب حسابه بحكمة بالغة , وتدبير حكيم .
4- ( يُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ) : يبين علامات قدرته جل وعلا لقوم يعلمون ويتدبرون ويتفكرون ويفقهون , اذهانهم مفتوحة , وقلوبهم واعية لها , فلا تغيب عنهم الحكمة منها .
إِنَّ فِي اخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا خَلَقَ اللّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَّقُونَ{6}
نستقرأ الاية الكريمة في ثلاثة موارد :
1- ( إِنَّ فِي اخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ ) : اختلاف الليل والنهار على ثلاثة منحنيات :
أ) تعاقبهما في البلد او المكان الواحد .
ب) اختلافهما في مكانين مختلفين , مكان يكون فيه نهار , والاخر ليل .
ت) زيادة النهار ونقصان الليل صيفا , ونقصان النهار وزيادة الليل شتاءا , وتساويهما في الربيع والخريف .
2- ( وَمَا خَلَقَ اللّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ ) : جميع ما خلق الله عز وجل من موجودات في سواء كانت في السموات او في الارض .
3- ( لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَّقُونَ ) : كل ذلك ( ما تقدم ) فيه ايات ( علامات ) يهتدي اليها المتقون , وذكر ( لِّقَوْمٍ يَتَّقُونَ ) يروى فيه الكثير من الاراء , لعل من ابرزها :
أ) انهم الاكثر انتفاعا بها من سواهم .
ب) ابرز سمة يتسم بها المتقي انه يخاف ويخشى الله تعالى , فكلما تفكر في خلقه عز وجل ازداد خشية , واكتسب ايمانا ويقينا اكثر .
إَنَّ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءنَا وَرَضُواْ بِالْحَياةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّواْ بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ{7}
نستقرأ الاية الكريمة في اربعة موارد :
1- ( إَنَّ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءنَا ) : لا يتوقعون ولا يؤمنون بالبعث يوم القيامة .
2- ( وَرَضُواْ بِالْحَياةِ الدُّنْيَا ) : بديلا عن الحياة الاخرة , لعدم ايمانهم بها , وانكارهم لها .
3- ( وَاطْمَأَنُّواْ بِهَا ) : سكنوا واستكانوا لها ولما فيها .
4- ( وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ ) : معرضون عنها , لا يتدبرون فيها .
أُوْلَـئِكَ مَأْوَاهُمُ النُّارُ بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ{8}
تضمنت الاية الكريمة عقابا لما جاء في سابقتها الكريمة , اما تأخير ذكر العقاب في اية منفردة , ففيه عدة اراء نذكر ابرزها :
1- ان الله تعالى بمنه ولطفه , بكرمه يؤخر العقاب حتى اخر اللحظات .
2- الحديث القدسي ( ان رحمتي سبقت غضبي ) . "البخاري" .
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ{9}
تبين الاية الكريمة ( إِِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ ) , ليس الايمان فقط بل العمل الصالح معه , ( يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ ) , يرشدهم الله تعالى بنور الايمان , ( تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ ) , نور الايمان يرشدهم الى المقر الاخير .
دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلاَمٌ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ{10}
تسلط الاية الكريمة الضوء على دعوات اهل الجنة وتحيتهم فيها :
1- ( دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ ) : التسبيح هي دعوى اهل الجنة ( تفسير البرهان ج3 / السيد هاشم الحسيني البحراني ) .
2- ( وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلاَمٌ ) : تحية اهل الجنة ( سلام ) من الله تعالى لهم ومن الملائكة وفيما بين بعضهم البعض .
3- ( وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ) : واخر دعوى اهل الجنة , الشكر والثناء لله رب العالمين , خالق الثقلين ( الانس والجن ) , وجميع المخلوقات الموجودات , المتفضل بالنعم , السابق بالخيرات . |