سألت أحد المجانين مِن أين تأتون بالحكمة أحيانا فأجابني على الفور : حينما تتخلون عنها دوما. شجعني قوله على متابعتهم ودراسة أحوالهم بدل الأستهزاء بهم والسخرية منهم.
المجنون الأول :
تعرفت عليه صدفة عندما كنت أراه يشتري الصحف اليومية ويضعها على الرصيف ويقارن بين الأخبار السياسية والأقتصادية والرياضية. كان في الثلاثين من العمر ويرتدي دوما ـ دشداشة ـ قصيرة بلا جيوب تزينها ألوان قوس قزح. دنوت منه ذات صباح وقلت له : أنت شاب مثقف فلماذا تتظاهر بعكس ذلك وتظهر بهذا المظهر غير اللائق بعلمك ومعرفتك. تبسم وسألني عن تحصيلي العلمي فقلت له أنا طالب في الصف الثاني المتوسط. فقال لي سأحاول أن أتكلم معك بمستواك لأنك لم تصل بعد إلى المرحلة التي تؤهلك لفهم شيء بسيط عن أحوال المجتمع. أنا ايها الطالب أتعمد الظهور بهذا المظهر لأعبر عن إستنكاري للمجتمع الذي لايراعي حقوق المجانين ولايكف أبناؤه عن رميهم بالحجارة والكلمات النابية البذيئة بحجة أننا مجانين لانفهم مايقولون. أنظر إلى ثوبي ، أنظر جيدا إلى هذه اللوان ، إنها ألوان أعمالهم ، واحد يرمي عليّ قشور الموز وآخر يرمي عليّ عصير الرمان وثالث يبصق أمامي دون أيّ حياء ورابع يراني أطالع الصحف فيقول : الجنون فنون. وسادس يستهزأ بي قائلا : مجانين آخر زمانن.أفضل واحد رأيته هو الذي ينظر إليّ ولايقول شيئا.كل هذا يحدث وتطلب مني أن اظهر بغير هذا المظهر للمجتمع. إذهب أنت مجنون لاتعرف شيئا.
المجنون الثاني :
كان يجوب شوارع النجف مهرولا وهوينادي أمسكوه ، أمسكوه أمسكوه ،حتى تعذر عليّ أن استوقفه يوما وأسأله عن سبب هرولته الدائمة ومَن هذا الهارب الذي يحاول الامساك به. في يوم من ايام العطلة الصيقية واتذكر أني كنت عائدا من بيت احد الأقرباء في شارع المدينة وكان هذا الشارع خاليا من المارّة لبعده عن مركز المدينة ، صادفته مهرولا فطلبت منه أن يتوقف قليلا لأني أريد أن أسأله عن... لكنه قاطعني قائلا : إذا كان ولابد فعليك أن تهرول معي لأني لا احب المتقاعسين المتثاقلين المسوفين. قلت حسنا وبدأت أهرول معه فسألته عن سبب هرولته فقال لي : أنت سيء الخلق فلقد كلمتني دون أن تستأذن مني ولم تبتداني السلام وربما قلتَ مع نفسك هذا مجنون لايستحق الأحترام ولكني أسامحك شريطة أن تتعلم إحترام المجانين وأنهم من خلق الله أيها العاقل ثم واصل حديثه : أما الهرولة فإني أريد بها أيصال رسالة إلى أمثالك المتقاعسين الذين لم أرهم يوما يسرعون للأمساك به وهو يمر سريعا. قلت من هذا الذي يمر سريعا ولانمسك به. قال بصوت مرتفع : الوقت ، الوقت ،الوقتُ يامجنون.
المجنون الثالث :
كان رجلا كبير السن ويكثر من قول ( أتركوه يصير براسكم خير ). حاولت مرارا أن أستفهم منه عمن يتكلم ويطلب منا أن نتركه ولكنه كان يضحك مني ويقول : أتركه أولا وبعدها أقل لك من هو. يأست من حصول إجابة شافية منه. في أحد الأيام كنت متعبا بعض الشيء فمررت به ولم أسأله كالعادة. ناداني بأعلى صوته واشار أليّ بسبابته أن أقبل عليه فقلت له لن أجيبك أبدا طالما لم تخبرني عمن تتحدث فقال متأسفا: هذا يعني أنك لاتريد تركه وتتظاهر بعكسه. أترك التكبر تشعر بالسعادة والسرور ولاتصعر خدك للناس يامجنون. علمت أنه يريد أن يقول : لاينبغي التكبر حتى على المجانين.
نسأل الله العافية
محمد جعفر الكيشوان الموسوي
|