لم يكن بمقدور مدرسة أهل البيت (ع ) أن تستمر في خطها الأصيل بعد غيبة الإمام المهدي، لولا الإعداد المسبق الذي هيأ مستلزماته الأئمة من خلال إعداد الكوادر العلمية الكفوءة، التي اضطلعت فيما بعد بمسؤولية ملء الفراغ القيادي للأئمة بعد الغيبة، واستكمال أدوارهم ضمن الخط العام الذي ثبّتوا معالمه في الحياة الإسلامية عامة ، والشيعية خاصة. وهو ما تبلور فيما بعد بالكيان المرجعي، حيث وقفت المرجعية الدينية على قمة الهرم الشيعي، كوجود شرعي قيادي، يتمتع بتأييد وطاعة جماهير الشيعة بشكل لا نجد له نظيراً عند غيرهم من المسلمين، وهي الظاهرة التي أثارت إهتمام وقلق الحكام على مرّ الحقب التاريخية، وصولاً الى مرحلتنا المعاصرة.
إنّ قوة الرابطة بين مراجع الدين الشيعة وبين جماهيرهم، وفّرت للكيان الشيعي قوة دعم ضخمة، ساهمت في معظم الحالات في إنجاح القرار المرجعي وتحويله إلى موقف ثابت على الأرض، لأنه يتقوّم من خلال العلاقة الوثيقة بين المرجع وأبناء الاُمة ، وهي علاقة لا يمكن للشيعي ـ وفقاً لعقيدته وإلتزامه بها ـ أن يتمرد عليها أو يخرج من إطارها أو يتخلف عن قرراتها الدينية.
وقد كانت معطيات هذه العلاقة متبادلة بين المرجع والاُمة. فلقد وفّرت لكل منهما عناصر قوة مستمدة من الآخر، وفي الوقت نفسه مكملة له، فالولاء الشيعي لموقع المرجعية ، مكّن المرجع من التصدي في الحالات المطلوبة لاتخاذ موقفه الشرعي التاريخي إزاء الأحداث والمواقف التي شهدتها الساحة الإسلامية بمستوياتها المختلفة، كما أنّ التصدي المرجعي كان يمثل طموح الشيعة وتطلّعاتهم، ويعبر عن رغباتهم المشروعة في ما يتصل بحياتهم السياسية والاجتماعية.
وهكذا استطاع الشيعة في الكثير من الظروف الحرجة والحساسة التي عاشتها الاُمة الإسلامية أن يتخذوا الموقف الحاسم ، ويمارسوا الفعل السياسي بصورته القاطعة، فكانوا هم صنّاع الحدث الأساسّيين ، وموجّهي الحركة التاريخية في مقابل الطرف المناهض للإسلام. ولم تخضع صناعة الموقف الذي يرتبط بمصير الأمة وبمصلحة الاسلام، لمعادلات ذاتية مغلقة، وحسابات مادية محدودة، إنما كان ينطلق من رؤية مبدأية تأخذ مصلحة الاسلام أولا واخيرا.
فعلى إمتداد التاريخ الطويل لم تتنازل المرجعية الشيعية سياسيا على حساب المبدأ الاسلامي، مهما كانت العروض أو التهديدات. فالمرجع الشيعي لم يدخل المساومة السياسية على حساب الاسلام.
لقد نظر الحكام الى المرجعية الشيعية، نظرة سياسية بالدرجة الأساسية، وتعاملوا معها على أنها الموقع المستعصي الذي لا يمكن فرض موقف عليه، والذي يختزن في داخله معارضة عميقة لنظام الحكم لا سيما عندما يكون ظالماً للأمة.
إنّ هذه الحقيقة التي يتميز بها الوجود الشيعي جعلت الدوائر المعادية للإسلام تفكر في إضعاف الترابط بين المرجعية والاُمة ، وإيجاد حاجز بينهما يجعل المرجعية تتحجم في نطاقها الخاص، ويدفع بجماهير الشيعة إلى المسارات البعيدة عنها والتي تجعل الرابطة بين المرجعية والأمة، لا تخرج عن كونها ممارسة تقليدية شكلية، خالية من محتواها العقيدي.
لقد كانت الهجمة ضد دور المرجعية ومكانتها، تتجه مباشرة من السلطات الحاكمة الى مواقع المرجعية، لكن التغير الكبير الذي حصل في العراق بعد سقوط نظام صدام، وبروز دور جديد للمرجعية اتاحته أجواء الحرية، أثار مخاوف الدوائر الطائفية الإقليمية، وجعلها تسعى الى إضعاف المرجعية عبر منهجية جديدة، تمثلت في صناعة مرجعيات وهمية، وذلك لتعويم مكانتها، وهي ظاهرة تستدعي الموقف المعلن من قبل المثقفين والعلماء قبل ان تتسع وتمتد، فالتاريخ يشهد بأن المعضلات الكبيرة تبدأ بخطوات بسيطة تبدو متناثرة، لكنها تتجمع مع الوقت وتتحول الى واقع في الساحة.
إن تجربة العراق (وغيره) وضعت أمام العين الفاحصة أهمية الدور المرجعي، وقدرته على الحسم في المفاصل الحساسة، وعليه فمن مصلحة الشيعة أن يحفظوا مكانة المرجعية ودورها، فلو لا الوجود المرجعي لانهار الوجود الشيعي بأضعف ضربة. |