بسم الله الرحمن الرحيم
وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الآخِرَةُ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ{32}
تضمنت الاية الكريمة ثلاثة مواقف للتأمل :
1) ( وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ لَعِبٌ وَلَهْوٌ ) : النص المبارك يعرف الحياة الدنيا على انها ( إِلاَّ لَعِبٌ وَلَهْوٌ ) , لو تأملنا جيدا , لوجدناها كذلك .
2) ( وَلَلدَّارُ الآخِرَةُ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يَتَّقُونَ ) : يمدح النص المبارك الدار الاخرة , ويفضلها على الحياة الدنيا , لانها المصير الادوم بقاءا واستمرارا , عندها يكون الانسان مخيرا في عدة مجالات , له الحرية في اختيار احدها , نذكر منها :
أ) ان يعمر دنياه , ويخسر اخرته .
ب) ان يعمر دنياه , ويعمر اخرته في ما يرضي الله تعالى .
ت) ان يخرب دنياه , ويعمر اخرته .
ث) ان يخرب دنياه , ويخرب اخرته ايضا .
3) ( أَفَلاَ تَعْقِلُونَ ) : الانسان العاقل سيختار الاختيار الافضل , او ما يراه مناسبا .
قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللّهِ يَجْحَدُونَ{33}
تذكر الاية الكريمة , ان الرسول الكريم محمد ( ص واله) كان يحزن لتكذيب القوم له , فتطمئنه الاية الكريمة ( فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ ) , في قرارة انفسهم يعلمون صدقه (ص واله) , لكن اعلان ذلك يضر مصالحهم , ويساويهم بمن استعبدوهم وترفعوا عليهم , ويدعوهم الى التنازل والتنزل عن مكانتهم في المجتمع , ويجعلهم اشخاص عاديين , وغير ذلك , ( وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللّهِ يَجْحَدُونَ ) , الجحد بمعنى التكذيب , لكن له معنى اخر في الاية الكريمة , حيث ان هؤلاء لم يكونوا يكذبون بايات الله تعالى في قرارة انفسهم , لكنهم اخفوا صدقها وحقيقتها عن الملأ , واظهروا خلاف ذلك ! .
الملاحظ في الاية الكريمة , تأييده عز وجل لرسوله الكريم (ص واله) , بكشف ما اضمره المكذبين ( الظالمين ) .
وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ فَصَبَرُواْ عَلَى مَا كُذِّبُواْ وَأُوذُواْ حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلاَ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللّهِ وَلَقدْ جَاءكَ مِن نَّبَإِ الْمُرْسَلِينَ{34}
نستقرأ الاية الكريمة في عدة محاور :
1) ( وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ ) : تضمن النص المبارك شيئا من التسلية والتخفيف عنه (ص واله) .
2) ( فَصَبَرُواْ ) : ما كان من اؤلئك الرسل الا الصبر على امرين :
أ) ( عَلَى مَا كُذِّبُواْ ) : ما لاقوه من تكذيب القوم .
ب) ( وَأُوذُواْ ) : وصبروا ايضا على ما لاقوه من انواع الاذى .
3) ( حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا ) : حتى جاءت لحظة الانتصار الرباني لرسله , حسب مقتضيات حكمته جل وعلا .
4) ( وَلاَ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللّهِ ) : لا مغير لها على الاطلاق , ولكن ما هي ( كلمات الله ) ؟ , هل هو مصطلح لشيء معين ومحدد ؟ , من جانب اطلاق العموم , نلاحظ ان ( كلمات الله ) كانت لدى كافة الرسل , ومنهم الرسول الكريم محمد (ص واله) , فلابد ان تكون على مستوى معين من القداسة والاهمية , اما من ناحية الخصوص , تكون ( كلمات الله ) خاصة به (ص واله) دون الرسل والانبياء , فتكون عندها القداسة والاهمية اعظم واخطر ! .
5) ( وَلَقدْ جَاءكَ مِن نَّبَإِ الْمُرْسَلِينَ ) : لقد اطلع الرسول الكريم محمد (ص واله) على اخبار المرسلين (ع) , ولهذا الامر العديد من النواحي , نذكر منها :
أ) ذكر المرسلين وما جرى عليهم من احداث فيه شيئا من التسلية والتخفيف عنه (ص واله) .
ب) العظة والعبرة للمسلمين .
ت) تقوية وتعزيز الجانب الروحي والمعنوي للاسلام والمسلمين .
وَإِن كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَن تَبْتَغِيَ نَفَقاً فِي الأَرْضِ أَوْ سُلَّماً فِي السَّمَاء فَتَأْتِيَهُم بِآيَةٍ وَلَوْ شَاء اللّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ{35}
الاية الكريمة من الايات التي لا يجب ان يتأملها المتأمل البسيط , من خلال معلوماته المتواضعة , وارائه القاصرة , وافكاره المتذبذبة , بل ينبغي الرجوع فيها الى اصحاب الرأي والرأي السديد .
إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللّهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ{36}
تضمنت الاية الكريمة وصفا دقيقا وجميلا للمؤمنين والكافرين :
1) ( إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ ) : هم المؤمنون الذين يسمعون كلامه (ص واله) سمع اعتبار وتفهم , ادراك وتبصر , يدل على انهم احياء , عندها تكون النجاة والحياة في الايمان , عكس من سواهم ! .
2) ( وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللّهُ ) : الميت هنا من لا يسمع سماع مبصر ومدرك واع , مع مثول الحقائق امامه كالشمس في وضح النهار .
الملاحظ في الاية الكريمة , انها اختتمت بــ ( ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ ) , نطرح فيها اطروحتين :
1) انها اشارت الى كلتا الفئتين , الاحياء ( المؤمنون ) و الاموات ( الكافرون ) .
2) اشارة الى الاموات ( الكافرون ) فقط , كون المؤمن ( الحي ) مع الله تعالى متصلا به في كل حركاته وسكناته , اما يوم القيامة بالنسبة للمؤمن تمثل مرحلة انتقالية .
وَقَالُواْ لَوْلاَ نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِّن رَّبِّهِ قُلْ إِنَّ اللّهَ قَادِرٌ عَلَى أَن يُنَزِّلٍ آيَةً وَلَـكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ{37}
تروي الاية الكريمة قول المشركين لرسول الله (ص واله) ( هلا انزل الله اية من الايات الخارقة كناقة صالح (ع) وعصا موسى (ع) , ومائدة عيسى (ع) وغيرها تكون مبرهنة لصدق نبوته (ص واله) ) , فتخبر الاية الكريمة النبي محمد (ص واله) ان يخبرهم ( قُلْ إِنَّ اللّهَ قَادِرٌ عَلَى أَن يُنَزِّلٍ آيَةً ) , لكن المشكلة ( وَلَـكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ ) , نطرح اطروحتين للنص المبارك :
1) ( وَلَـكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ ) : ان تنزيل الايات يكون وفقا لمقتضى حكمته عز وجل .
2) ( وَلَـكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ ) : اذا انزلت اية وكفروا بها , ستكون سببا لهلاكهم , كما اهلك الذين كفروا بالايات السابقة ! .
وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُم مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ{38}
نستقرأ الاية الكريمة في عدة نقاط :
1) ( وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُم ) : للنص المبارك الكثير من الاطروحات , البعض منها نجده في اراء المفسرين , واخرى نجدها في العلوم الحديثة , فما على المتأمل الى ان يتابع ويبحث , ليكتشف المعاني السامية للنص المبارك ! .
2) ( مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ ) : لم يترك الله عز وجل شيئا الا وبينه , ووضع له ابعاد وحدود خاصة , و موازين وقوانين تحكمه .
3) ( ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ ) : يشير النص المبارك , الى ان يوم القيامة يشمل جميع الكائنات الحية , العاقلة كالانس والجن , والغير العاقلة كالدواب والطيور وغيرها .
وَالَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُمَاتِ مَن يَشَإِ اللّهُ يُضْلِلْهُ وَمَن يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ{39}
نستقرأ الاية الكريمة في ثلاثة مواقف :
1) ( وَالَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُمَاتِ ) : يشبه النص المبارك الذين كذبوا بآيات الله تعالى بأنهم ( صُمٌّ ) عن سماعها سماع قبول واتعاظ , ( وَبُكْمٌ ) لا يمكنهم النطق بالحق والحقيقة , ( فِي الظُّلُمَاتِ ) الكفر , لك ان تتخيل انسانا اصم وابكم في ظلمة دهماء , ماذا سيفعل ؟ , وستلاحظه كيف يتخبط ! .
2) ( مَن يَشَإِ اللّهُ يُضْلِلْهُ ) : في الواقع , ان جهنم نار مستعرة , موقدة ومتقدة , وتحتاج الى وقود , ليستمر لهيبها واتقادها , ولا يكون الوقود الا ممن اضله الله تعالى والحجارة كما اشارت الاية الكريمة { فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ وَلَن تَفْعَلُواْ فَاتَّقُواْ النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ }البقرة24
3) ( وَمَن يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ) : يلاحظ في النص المبارك عدة امور للتأمل , نذكر منها :
أ) ( وَمَن يَشَأْ يَجْعَلْهُ ) .
ب) ( عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ) : لحرف الجر ( على ) خصوصية في هذا المكان , ولو استخدمنا حرف الجر ( في ) لتغير المعنى .
ت) (عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ) : كلمتا ( صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ) غير معرفتين , ولو ادخلنا ( ال ) التعريف , لتغيرت معاني النص المبارك المنشودة .
قُلْ أَرَأَيْتُكُم إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللّهِ تَدْعُونَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ{40}
الاية الكريمة في مورد المثل قبل وقوع الاحداث , تخبره (ص واله) ان يقول للمشركين , اذا جائكم عذاب الله او قامت القيامة , هل ستدعون آلها غير الله عز وجل , ليدفع عنكم العذاب والاهوال , الفزع والهلع , الرعب والرهبة ؟ , ( إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ) , ان كنتم صادقين فيما تدعون لالهتكم التي تعبدونها من دون الله تعالى , وتنسبون لها جلب النفع ودفع الضر ! .
بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاء وَتَنسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ{41}
تخبر الاية الكريمة المشركين , انكم ستدعون الله تعالى في ذلك الموقف , وتـنسون ( من شدة الفزع ) اصنامكم والاوثان , وله عز وجل ان يكشف العذاب ويهدأ الروع عمن يشاء .
وَلَقَدْ أَرْسَلنَا إِلَى أُمَمٍ مِّن قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ{42}
تروي الاية الكريمة لرسول الله ( ص واله) , انه عز وجل قد ارسل رسله الى الامم السابقة , فكذبوا الرسل , فسلط الله عز وجل عليهم البأساء ( شدة الفقر والبلاء وضيق المعيشة ) , والضراء ( المرض والالم ) , لعلهم يبتهلون متذللين لله تعالى , وينيبوا اليه ! .