البحث عن الرؤيا عبر مساحات التكثيف يشدّ الانتباه الى السمة المضمونية المعبّرة عن الوعي التدويني، ومعرفة نقاط التأثير القادرة على تجاوز الذات. وقد امتازت افتتاحيات صدى الروضتين بخصوصية التعامل الشعري سعياً لامتلاك الحضور وروح التجريب داخل بوتقة الشعوري المثير، فعرفت الجرأة في افتتاحية (الجرأة) صولة حق تحطم جدران الخنوع، كي لا يُزوّر الصبح بليل بهيم.. والجرأة أحياناً صمت. أو نجده في موضوع (الذاكرة) يمثلها كاتب الافتتاحية بعود ثقاب يحرق وينير.. زوادة تقوى ومتكأ للصبر، وما أجملها حين تصير ضمير.. ومثل هذا الاشتغال يعتبر محاولة للإيحاء بالكينونة الإنسانية، والسعي لامتلاك قدرة التعبير بوسائل فنية معرفية تقدّم القيم الروحية والثقافية المتجددة بوساطة متنوعة عبّر عنها في تواقيع السنة السادسة لصدى الروضتين، إذ يرى الميدان ورقة، والسيف يراع، والرجز في حومتها ضمير.
والتركيز على مفردة الضمير تعبّر عن مديات الغنى الروحي لوجود القدر المعبر عند هيئة التحرير، فمديرها (رضوان السلامي) يقول: نبحث عن صيغ تلائم المرحلة، وسكرتيرها (أحمد صادق) يفكر في موضوعة الانفتاح ومنافذ أخرى، وهيئة التحرير تبحث عن التغيير والحقيقة وجدية العطاء، والمدقق والكاتب (هاشم الصفار) يفكر باحتواء العالم، دلالة على توفر الوحدة الروحية للكوادر الإعلامية والتدوين النصي وصولاً الى واقع فني؛ لكون المقال الافتتاحي يُعرف بأنه صوت الصحيفة واللسان المعبر عنها، ولكونها لا تقف عند حدود الخبري وتفسير الأحداث الآنية اليومية، بل تذهب الى البحث الفكري والوجداني، ونشر فكر أهل البيت (عليهم السلام) بأساليب حداثية بصيرة، ساعية لكسر النمطية المعهودة بتقديم الافتتاحيات الطويلة الشارحة والمفسرة لكل تعليق وحدث يومي، مستفيدة من الحيّز الكبير لقداسة المحتوى المؤسس لها، فهي تبحث عن مرتكزات الرؤية الانسانية، وعن الانسجام الإيماني، وعن سلامة الكون.
فقد عبّرت في افتتاحية (الجهاد) عن نزف يستنطق الجراح، فيوصي بالابتعاد عن التبجح والمنّ والفظاظة والتكبر، ولغة التعويض والتبعيض وتجاهل جهد الآخرين. ويعبر عن (الكلمة) بأنها نداوة عهد ونكهة وعد، ويطالب بإبعاد فتنة الريبة، ويحذر المقال متلقيه من سأم الانتظار المبارك؛ فأغلب المقالات النقدية ترى أن الافتتاحية معبرة عن سياسة الصحيفة، وافتتاحيات صدى الروضتين تريد أن تمدّ العلاقة بين المتلقي والمقدس كمنهج يمثل جهة التأسيس، بما أنها تصدر من العتبة العباسية المقدسة - قسم الشؤون الفكرية والثقافية - شعبة الإعلام، يعني أنها أصبحت معبّرة عن روح الالتزام لتكون هي القدوة الحسنة.
لذلك نجد الكثير من المفردات المكررة للتوكيد وللتماثل، مثلاً: طالما تكررت مفردة السلام، في حين أسس البنية المضمونية والفكرية لمحتوى الزيارة كتضمين مصدري معبر: (سلاماً إلى أبي الأحرار، سلاماً الى كفيل الصبر، سلاماً الى سليل البهاء، سلاماً الى الناهضين من أئمتنا للخير والمحبة، السلام مبدأ لا كلمات، السلام أمانة).
ولهذا نجد افتتاحيات صدى الروضتين موجهة ترشد وتطالب وتنهي وتنفي؛ كي لا يقبع النكوص (لا يمكن لمسلم أن يغدر أو يطعن أو حتى يخون)، ولا يمكن لمسلم أن يطعن أو حتى يخدش بغيبة أو نميمة وأاااااأو خداع.. نصائح أخلاقية تربّي وتعلّم وتمتلك هوية الفعل الموجه: (السلام تربية وسلوك قويم) (مكتوب على جبهة السلام: السلام فقط للأحرار). نصوص مضمونية تقدم بصور بلاغية مجازية تسعى لتكون قريبة عن منهل التلقي، فنجدها تكرر سمة (السلام)، لتمر عبر قناة الاستفهام: (من قال بالسلام وحده يُبنى السلام)، فالقوة - مثلما ترى الافتتاحية - هي الوحيدة القادرة على زرع ثقافة السلام.
ومع الارتكاز على بُنى لغوية كتنوع الوقفات الدلالية، لتوفير معادلات تتوازن مع الأحاسيس الإنسانية، لخلق تنامي فكري يصنعُ حراكاً، ليصبح المتلقي مشاركاً في صناعة الافتتاحية؛ كونه الجزء الفاعل فيها، وهو الحدث الأهم من التفاصيل اليومية. الأغلب يرى أن اللغة التقليدية نظير مواز لفكرية المحتوى دون أن يدرك الجمود الذي سقطت به معظم افتتاحيات الصحف الكبيرة، إثر تغيير بنية الحياة، حيث ازدادت الفجوة بين النصّ والمتلقي، ولذلك قدمت صدى الروضتين افتتاحياتها على شكل ومضات سريعة، تواقيع ذهنية منوعة أو نصوص قصيرة جداً، مثل: افتتاحية (القيد) منه السلبي كقيد الظلم والجهل والظلام، ومنه الإيجابي الخلاق، كقيد الفعل المنطقي الأخلاقي، لنصل الى الذروة بأن أشرسَ القيود هي التي يصنعها الإنسان، ومنها نطلّ على المقصد المعنوي: السمو، والبذل الخلاق، لينهل من جود قباب الخير، تزاوج بين الصورة المباشرة والسمو الشعري ليعطي بساطة تكوين بمستوى الجذب لغرض استيعاب الرؤية، فطبيعة البنية والصور الاستعارية فيها من السعة والتنوع، سعياً للولوج الى العمق النصي، ولمعالجة قضايا إنسانية معاينة روحية تنظر الى (الجمال) فنجده كموضوع يبحث في معناه الداخلي، لتصبح الثقافة جمالاً، واللباقة والصدق والأخلاق كلها تصبح بؤراً جمالية.. يركز على استحسان ما لا تراه العين ويعده جميلاً، لكنه يحذر من محاولات تشويه المعنى الجمالي بواسطة ربطه بالمظهري، فالجمال هو الحقيقة والحق، ويقظة النور، وزهو القباب، ويعني الجمال كله.
ويبحث في موضوعة الجمال في (الفردوس) الذي يعني السعة في المورد عند بعض الناس، وهو مكان السعادة المعقود، فردوس علوي وأرضي يجمعُ مراقد الأئمة ليصل الى أن حمل الخدمة من البنية المقدسة هو سعي مثابر بالولاء، فبثت الافتتاحيات بأدوات اجرائية مختصرة، أخضعت لبعض البنى المنهجية، الى تحوير يتواءم في تقديم التحليل المنوع، الومضة السريعة التي هي عبارة عن مقبّلات فكرية، ليلج بها عوالم القراءة، وتدخل تلك المقاربات وفقاً لمعالجة الظواهر الاجتماعية ومعاينتها وفق خصوصية هذا المنشور.
ومنها ظاهرة (الزعل)، الموضوع يدرس الفارق بين الزعل والغضب، ويرى أن هناك في المجتمع تفشت ظاهرة الزعل بشكل مذهل؛ كونه غالباً ما يكون أكبر من المشكلة نفسها، والبحث في مكوناتها، فالحقد والحسد والمرض وضعف توازن التشخيص.
وناقشت الافتتاحية ظاهرة (التجاوزات) التي هي ظلم لا يليق إلا بضعاف النفوس، ليصل الى اشتغال قصدي يستخلص الطلب كذروة من ذروات الفعل التدويني: (دعونا نبني العراق عزيزاً دون تجاوز يسيء الى المواطن قبل الوطن).
وتمثل الظاهرة الاجتماعية أهمية قصوى بالنسبة لأي إعلام ملتزم، وفي افتتاحيات الصدى يؤخذ حيزاً مهما للتعبير عن الظاهرة برؤيا تعريفية، وعدم التعمق بها كمشكلة اجتماعية، وإنما للاتكاء عليها لتوليد مضامين أكثر تأثيراً؛ لكونها لا تمثل دراسة متكاملة لنطالب هذه الافتتاحيات بالتكامل الموضوعي. بعض منها خُصِّص للبحث في الظواهر بمعناها الكلي، وبعض المواضيع صارت تعبر عن العديد من الظواهر مجتمعة، وكلها تخضع لإجراءات البناء الموضوعي، استعراض لعدة ظواهر تصل الى نتيجة موحدة، مثل: تعبيره عن ظاهرة الأخطاء في افتتاحية (الأخطاء) بأنها تجاعيد (أياد تزرعُ العثرات)، ويعبّر عنها الموضوع بأنها كالعظام لا فرق بين عظم غني أو فقير.
وكذلك تابعناها في عنوان (الوشاية)، إذ عرّفها الكاتب بـ(الوله الشيطاني الملامح والسمات، لا يحتاجها أهل الغيرة والوثبة والنزاهة والضمير... مساعي خطى صبورة، وجهاد عمل لا يموت). كما سعى الى محاورة بعض المؤوّلات أو الرموز أو الدلالات الاجتماعية في اطار معطيات المؤثر العام، مثل افتتاحية (اللقلق)، والمعروف أن هذا الحيوان امتلك الكثير من الدلالات في العرف الاجتماعي، إذ صيّره هوية للمنبوذين من ماسحي الأكتاف، والغاية القصدية لمفهوم التدوين هو إيجاد حصانة وجدانية للمتلقي، وتجلت تلك الدلالات لاقترانه بدلالات النهي: (لا تعاشر لقلقاً يا ولدي، كي لا يبني على رأسك عشه ويقوم).
البحث في دراسة علاقات الأجزاء التي هي الأقسام المكونة لمهام النص والبحث في مفهوم أي افتتاحية، يعني البحث عن جزء من مشروع تكاملي بتعريفات متنوعة لعنونة عامة واحدة، فنجد في الصدى وحدات جزئية مفتتح (الرأي): الذي عبرت عنه الافتتاحية بأنه ضمير يؤثث لفعل خير، وسواه دسٌّ يوقعُ الخطى في أمثال المعاني. الرأي سلام وما سواه فاختناقات عجز وحسد عقيم. الرأي حلم يقرّب بعض الخصائص الاجتماعية، ويتناول الكثير من تلك النظم الظاهراتية أو الاشتغالات التأويلية، ليعزز لنا كمّاً من الافتتاحيات العلاقاتية، كما في افتتاحية (الضمائر المستترة): نوايا ذهنية تبني العالم، لها مرابع السبيل.. ثم يعرّفها بسلالم يصعد عليها الصاعدون وينزل منها الهابطون، وهي في المنجزات ضمير.
جاءت الافتتاحيات من قراءة الظواهر الاجتماعية والفكرية والتقاطات فكرية قد ترتكز على اسم أو مصطلح أو فكرة، ولا يعني كتابة نقد الظاهرة بقدر عرضها برؤى مقنعة كآليات إجرائية تقرّب المفهوم الدلالي لوجود العنونة، ثم نجدها داخل إحدى الظواهر العامة، مثل: ظاهرة (الإسراف)، لتقدم موعظتها عبر مجموعة من النواهي: (لا تسرف في المال، الملبس، الطعام، في الماء، الكهرباء وفي الكلام، لا تسرف في عمرك يوماً فتضيع).
والفعل التدويني القصدي هو الحث على إملاء كلّ فراغ بعمل جدي، وهذه المثالية تحتاج الى مؤثرات القاعدة المعرفية، ومعاينة كلّ ظاهرة أو موقف وفق التجربة ليرسم ملامح مقاربة مبدعة ترتكز على جمالية التلقي، كما في افتتاحية (التصحّر)، إذ تمّ تعريف التصحّر: تدهور الأرض، الجفاف.. لنصل الى معنى رشاد قصدي هو: (لابد من مقاومته بالصبر والصلاة) ويحث على إدامة الايثار.
بعض مقومات القصيدة الحداثية عندما تُمزج مع السردية المضغوطة، تكون عدة مكونات منها: الاستعارية، والكنائية، وبناء الصورة رغم أسلوبية العرض المباشر، فنجده ينوّع التعريفات في افتتاحية (اليأس)، فهو يعرّف اليأس بقاهر ومقهور، وفعل ضياع معتم الرؤيا، شعور تضعضع عبر تراكمات يزرعها التهجين، وبنفس الطريقة يعالج قضية أُخَر في افتتاحية أخرى، هي (التوبيخ): إذ يعرفها كاتب الافتتاحية بالعتاب التقويمي، ويسميه روح الجهل إن سلك مسلك التجريح، والفعل القصدي يدلّ على روح المشاورة البنّاءة والتصابر.
نجد هناك سعياً حقيقياً لدراسة الظاهرة داخلياً، واستخدام العديد من الوسائل ذات القدرة على إضاءة آليات التعبير القائمة على الإدراك، وبعض الظواهر هي مكابدات نفسية، مثل ظاهرة (الهلع) التي شخصتها الافتتاحية بأنها: افتقاد التوازن الإنساني، زحزحة الثبات عبر الكثير من المسبّبات: كالفقر، والمرض، والقلق، والصراعات النفسية.. إذ يرى الكاتب أن المعالجة الأفضل للقضاء على الهلع هي الإيمان وزرع الثقة والتمسك بمحبة أهل البيت (عليهم السلام)، أو تبحث في آثار (الهزال) وتنوعاته. فهو يقدم التشخيصات بمفهومات مكثفة سريعة الجرس متنوعة يشكل منها محاور متعددة، فهو يعرّفه بالضعف، المرض، فهي كمفردة تدلّ على الجدب، والهزال مكمن كل مرض، ومنه الاقتصادي الذي تسبّبه سلطة المال والربا والحرام، وهناك هزال معرفي يوصل الى الجهل، وهزال فكري يضيع الهوية، وهزال إيماني يفقد الإنسانَ دينه ورحمة ربّه الواسع الرحمة، والمعالجة تتلخص في التمسك بالدين وبمحبة أهل بيت النبي (ص) بوعي وإدراك ففيه العافية والنجاة.
ومن الممكن معاينة التشابه الموجود في طريقة تناول الظاهرة رغم اختلاف البنى والمفاهيم من ظاهرة الى أخرى، ومع وجود تشابه أيضاً في المعالجة؛ في افتتاحية (التجنّي) كانت المعالجة هي تقوية أواصر الانتماء الولائي لنصرة أهل البيت (عليهم السلام). وفي افتتاحية (الفراغ) انصرفت المعالجة الى ضرورة استثمار الفراغ وتحويله من فراغ ضار الى وقت مستثمر نافع. وفي افتتاحية (الأوامر) يرى أن تباين هذه الظاهرة حين تُوجه لخدمة الزائر بما تليق بمكانة الحسين (عليه السلام). ولذلك تجده في افتتاحيتي (اللمّازون، والتمرد) يتجه نحو مسعى قصدي يرومُ إصلاحاً بوهج اليقين، فهو يبتكر أحياناً بعض الممارسات التي تشكل شأناً من شؤون تلك الظاهرة، وقدّم بعض النماذج النصيّة لتلك الافتتاحيات احتفاء واعياً للأثر الروحي المعتمد كمرجعية نصية او تضمينية، فمنها ما يمثل فعلاً أو رمزاً من رموز السعي، ومنها ما يقدم من الإيجابي، لتتوسع مناطق الاشتغال فيصبح لدينا أكثر من وظيفة إجرائية أو نشر الفكرة التي تحث على النصرة، وتسليط الضوء على حيثيات النصّ المرجعي التاريخي، ولترفع شعار نصرة مباركة.
نجد الكاتب في افتتاحية (الشعارات) قد قدّم لنا العديد من الثيمات التأريخية ليقدم التشخيصات، فهو يأخذ مثلاً شعار الخوارج (لا حكم إلا لله)، ليرفض ذلك ويعود لتفاهة ابن سعد وخوائه، قتلَ الحسين (ع) وصلى في نفس الموقع الذي ذبح فيه ابن بنت رسول الله (ص)، وأتباعه الى اليوم يقولون: نحن نحب الحسين (ع)، ولكنهم لا يتورعون عن تفجير مواكب عزاء الحسين (ع)، تلك المواكب التي أقيمت لمواساة نبي الله (ص).
وتشكل قيمة أخذ المرجعي في هذه الافتتاحيات ثقلاً بيّناً قادراً على تهيئة المشهد التأريخي، ولمماثلة وموائمة القصد المؤثث لتركيبة الافتتاحية، كعنوان ومتن، فنجده مثلاً في افتتاحية (الرضا عن النفس خيانة)، نجد أن تلك الافتتاحيات تكرر لنا دائماً مفردة العدل كمرتكز من المرتكزات المهمة التي تعمل بها. وقدّم أيضاً في بعض اشتغالاته شخصيات تاريخية يرتكز عليها ليدعم المسرى النصي. ونجده قدم في هذه الافتتاحية شخصية إيجابية لها فاعلية التاريخ والحاضرة في وجدان التلقي: (على جانب الفرات، نام غصن مقطوع الكفين، تكتظ به الجراح، سهم في العين، عمد في الرأس، ويسأل: أكفيت؟ فأي رضا بعد هذا السؤال؟). منطوق الاستشهاد التأريخي غير خاضع لأمور التوثيق أو للتوسعة المعرفية، وإنما يخضعُ لاستحضار مدرك للقيمة الشعورية، واستحضار التأريخي هنا كوسيلة اجرائية لا تقف عند حدود الإيجابي، وإنما يرتبط بالمفهوم الدلالي المعبّر عن حالة أو ظاهرة أو فعل، فنجده اشتغل افتتاحية (حرملة) ليحمل في اختيار هذا العنوان الموضوع كلّه، ويبدأ برسم ملامح هذه الشخصية ليصوّر للعالم عودة حرملة ثانية ليعيش بيننا: ماذا سيحدث؟ تخيّل مشروعاً يؤدّي الى سؤال وهو بحاجة الى إجابة محددة، الافتتاحية تقدّمه كنموذج من نماذج الشرّ، وتنطلق من هذا التقديم الى المعالجة، فنجده يستهين بعودته: حتى لو عاد فماذا سيفعل؟ وهو ما عاد يشكل وزناً أمام بركة اهل البيت (عليهم السلام)، في عالم وعى معنى وجود هذه البركة، فأهل البيت (عليهم السلام) أكبر من سطوته.. ومثل هذا التشخيص يثير العزيمة في كل وجدان، ويحفز الإنسان لفعل الخير، وهذا أسمى ما يمكن أن تقدمه الكتابة من نجاح.
ومع قيمة الاستحضار، نجده يتعامل مع الدلالة التأريخية باشتغالات شعرية لها استحكامات الجذب الفكري والشعوري، فنراه في افتتاحية (الفلتة) التي رصدت هذه المفردة وعاملتها كظاهرة تاريخية لها انعكاساتها التي فرضت الكثير من الأحاسيس وشكلت وقائع مدجّنة، إذ يرى أن (السقائف) لا تلد إلا مثل هذه الفلتة البلهاء، وأخذ يتوسع بتعريفاتها التي حاول المؤرخون أن يضعوا تفسيراتهم الإسقاطية، فهناك من فسّرها بالفجأة، وابن اثير فسّرها باتخاذ القرار، وابن منظور ألبسها ثوب البراءة والعفوية... بينما يراها الكاتب تداخلاً بقصدين في مخيلة واحدة، فالخشية أن تُقاد المصائر بالفلتة، حتى تصبح البصائر فلتة أيضاً..! ويظهر الفعل القصدي الذي يحث على التمسك بالإرث المؤمن، لتكنس ظلال مِئذنة هفوات كلّ فلتة.
وراحت الافتتاحية في أغلب مساعيها ترتكز على فقرات من الوجع التأريخي، ومنه ما يشكل حدثاً أو يتناول شخصية تأريخية، ومنها ما يلجُ الى عوالم تشخيص يطلقها إمام معصوم، ليكوّن لدينا استشهاداً يتوسع من خلاله الى رؤى مضمونية لها طابع المعاصرة، الشاغلة للهمّ الإنساني وهمومه اليومية، مثل: (الضحك) والتي تشكل التماسات حياتية مهمة، كالحالات النفسية: الضحك، والبكاء.. فـ(الضحك) - في إحدى الافتتاحيات - شكّل إحساساً يطيب خاطر الروح، ويزيل الهمّ والتعب، ويستعرض أنواعه وإشكاليات روحية، لكي يضيء علامات النصّ تراه يلجأ الى الموروث المعصوم، ليستقي تشخيصاً لأمير المؤمنين (عليه السلام) عن الضحك: (خيرُه ما كان تبسّماً)، ويدخل منه الى محتواه المضموني بأن لابد من معاملته كإحساس لا تجاوز فيه.
وهكذا نجد أن أغلب الافتتاحيات تتكئ على مضامين تأريخية تعكس الدلالات المتوائمة مع القصدي، لا يعني استحضارها فقط لاستثارة شعورية، وإنما لتعميق مضموني في موضوعة (الأسى): فهو يراه إحساساً يحملُ البهجة في عنفوان الألم، ومنه ولدت بصيرة ابن عفيف، وجنون عابس، وحكمة حبيب، وكرامات ضريح تثير بهجة القرون، هوية نصرة دائمة الحضور.. فتشعر بأن لغة الافتتاحيات تبحث في أكثر من محور، مثلاً: هي تسعى لخلق ترابطات انتماء وهوية، وجمع الكثير من التساؤلات، والدخول إلى عمق فكري، واستقرار شعوري، ونضج فني، ويقدمُ أحياناً مشهداً من المشاهد المقدسة.
افتتاحية (البشارة): قصة الكساء المعروفة والتي نزل فيها جبرئيل (عليه السلام)، ليؤكد للعالمين أن الله ما خلق الأكوان إلا لمحبة هؤلاء الخمسة (عليهم السلام)، فصاح حينها فرحاً بالبشارة مولانا أبو الحسن (عليه السلام): (فزنا وفاز شيعتنا وربّ الكعبة).
وتمتلك بعض العناوين حدة المضمون لتتمازج مع رؤى تكشف عن عمق الموضوع في افتتاحية (الكراسي)، إذ اشتغل على مبدأ التضاد، فحكم الري كان غواية ابن سعد، وبالمقابل فأن أصغر شهيد في الطف وضع الكراسي تحت قدميه، وتحاول تلك الافتتاحيات البحث عن القدوة المعبّرة لينطق العقل من خلالها، الكلمة المستقاة بشعور واقعي يظهرها عليه تلك القدوة لتضيف انعكاساتها دروساً تلامسُ بعض سلبيات الواقع، وتحفز في الناس روح اليقظة، في تجربة كتابية تسمو بالنتائج المضمونية، ففي (النصائح) يقدّم الكاتب القدوة الحسنة (إمامان إن قاما وإن قعدا، اصطنعا الخلاف بينهما ليعلما شيخاً عجوزاً صحيح الوضوء). وهذا المروي منجز مؤثر وصورة تعبيرية، توظف الدلالة وتعالج خشونة وجدية النصائح التي تصل حدّ التجريح أحياناً.
والملاحظ أن الخصائص الأسلوبية تحوّلت لطول التجربة الى تقنيات تكاد تكون ثابتة في ملامحها السردية رغم تنوع الاشكال التدوينية؛ وعناوين الافتتاحيات هي عناوين رموز وأحداث ومواضيع مثل افتتاحية (الانصاف): اتكأت الافتتاحية على قول للإمام علي (عليه السلام): يا بني اجعل نفسَك ميزاناً فيما بينك وبين غيرك. وفي افتتاحية (ماء القلب) يقول الإمام الحسين (ع): (ما بكت عين إلا وراءها قلب).
وتؤكد افتتاحيات صدى الروضتين على هذه المرجعية المباركة وصيغة أهل بيت العصمة والنور، ويقدّم اشتغالات على تضمين او استحضار روحي، ومن هذا المنهل الروحي تشعّ روافد التماثل الأسمى، كما في افتتاحية (السجون)، إذ يعرّفها بصناعة الغياب القسري، ثم يلج المعترك الوجداني ليماثل الواقع الذي عاشه إمامنا الكاظم (ع) مع روح الملائمة الموجودة بين الرمز والموضوع، وخلق حالة تأملية لتصل الى مسند مهم، إذ استطاع أن يحوّل السجون الى سجود ومحراب يقين.
وفي افتتاحية (الجسور) يرى أن كاظم الغيظ (ع) ما زال ينتظر، ليصلي بأتباعه هناك، وجسر الأئمة يرجز بالجراحات، الجسور لغة الشجاعة.. ومثل هذه المرجعية اليقينية تمثل التدفق الواعي الى عوالم الوضوح والى قوة الجذب الشعوري اليقيني، فيستثمر في افتتاحية (الترويض) حكمة قالها الإمام علي (ع): (إنما هي نفسي أروّضها بالتقوى، لتأتي آمنة يوم الخوف الأكبر). نجد أن هذه الافتتاحية تحث على إثراء الحضور الإنساني. وفي افتتاحية (النخلة) يستثمر الكاتب انعكاسات تشخيص رسالي للنبي (ص) (النخلة عمّتنا) يراها كالإنسان، كالوطن.. إذا تعرّض القلب لصدمة هلكت، وإذا قُطع منها الرأس تموت..
ويرى بعض النقاد أن الافتتاحية كفن هي صعبة الانقياد، لابد أن تعبّر عن الهمّ العام وعن واقع الحياة، بتركيب ثقافي يفهم ويستوعب الموروث وخاصة الروحي منه، والبحث عن الجديد الذي يرتبط بمفهوم المؤثر. والحوار مع لقمان الحكيم في افتتاحية (الحكمة) كان حواراً يصوغُ الكاتب منه درساً مهماً من دروس الحياة :
:- سيدي لقمان... بعض كلام الناس لا يرتقي لمستوى الضمير.
:- لا بأس عليكم، خذوا ما ينفع منه واتركوا الباقي للريح.
ويعد التراث مصدراً للاستشهادات الدلالية، لما يحويه من قيم إنسانية مؤثرة جماهيرياً، إذ يعيش في فكر ووجدان الناس، فهناك التضمينات المتجذرة في المكمن النفسي. وعند قراءة افتاحية (الكتب) سنجد جملة تقول: (لأن العالم رأيناه يخون، ونسينا أن العالم هو الإنسان.. حكمة إمام معصوم (نعيب زماننا والعيب فينا.. وما لزماننا عيب سوانا)؛ فعملية توظيف هذا الموروث داخل السياقات التدوينية مسألة في غاية الأهمية، وخاصة في الافتتاحيات التي تبحث أساساً عن تفاعل المتلقي معها، علماً أن في الموروث مادة جاهزة للإفادة، وهذا ما نجده في قصة الرجل الساعاتي الذي كُلِّف بتشغيل الساعة، وأوصى أهله إذا مات أن يُدفن قرب الساعة، فوضعت الافتتاحية هذا الموقف عبر افتتاحية (الخالد): لا أريد أن أعرف كم عاش، لكن المهم أن أعرف كيف تحدى الموت فعاش.. ويعود في الخاتمة: أيها الساعاتي الكبير، خذني إليك كي أتعلم كيف أعيش.
ويعرّف الموروث التراثي بأنه مجموعة التقاليد والعادات والتجارب والعلوم.. ويذهب بعضهم إلى أنه اعتراف بوجود إنساني في استخدام معطيات من هذا الموروث الذي كان له علاقة واسعة بالمكان، ولذلك ركزت افتتاحية (المكان) عليه: حين يصبح هوية يتنفس بها الإنسان، فالمكان المقدس يقدر على الانفلات من المحددات الزمانية، ليصبح هو كل مكان، وهذه المنائر الشامخة هي المكان، ولابد أن نحافظ على روحية المكان بالنوايا السليمة.. وكل هذه التضمينات والاقتباسات والاتكاءات غايتها تعميق التجربة الشعورية لإرهاف الادوات التعبيرية من أجل إرساء (الهوية)، وترسيخ علاقة بنى الدال والمدلول وبين وعي الذات؛ كون الأحاسيس والقيم والسلوك هويات إنسانية سعت لأجل خلق التفاعل الوعي اليقيني.
ومن خلال افتتاحية (التوقيع)، سنجد أن التوافق الفكري مع الموروث الثقافي قد يأتي عبر لمحة خاطفة، إذ ورد فيها: (أجمل توثيق هو الوجدان، أوثق الصكوك الشفاعة يهبها الواهب الإمام عهد أمان). وعند مكاشفة هذا المضمر، نجد أنها من الموروث الشفاهي المنقول، وتحوي قصة أعرابي مازحه جماعته ليعطوه تبريراً لتأخرهم عن زيارة حضرة الامام علي (ع)، فأخبروه أن زحاماً كبيراً على ضريح الإمام، لكونه يُوزع على الناس بطاقات تزكية تُبعد عنهم نار جهنم، فاندهش الأعرابي وصرخ: سيدي كيف تنساني ومثلك لا ينسى محبيه، ودخل الحضرة المباركة وإذا بإصبعين مباركين يظهران من بين حلقات الضريح ليهديه الإمام هوية أمان.
وللتعبير عن انعكاسات قرآنية في الكثير من الافتتاحيات الساعية إلى بث روح القيم بأسلوبية توليد اللامقروء النصّي الى مقروء فكري، نأخذ على سبيل المثال (الانصات)، والإنصات غير الاستماع حسب التشخيصات القرآنية، وهي من أرقى قيم السلوك الحضاري. وفي افتتاحية (الخشوع): شعور فكري مؤمن وهو وعي متمكن رغبة روحية للوصول الى جوهر الهدف. و(الاعتذار): سمة من سمات الوعي، الإيمان.. وفي (التوازن) نجد أن صراعات الوعي قوة التوازن هو الرجوع الى الله في أمورنا، وذلك للحث على الاعتماد على الله سبحانه وتعالى، والعمل لوجهه تعالى. كما اعتبرت افتتاحية (العافية) أن جوهر العافية هو حسن الظن بالله كما في (بشارة) سيد الأوصياء (ع): (والله فزنا وفاز شيعتنا).
ومثل هذه الاستشهادات والتضمينات تمنحنا الإباء والعزة ورفض الضيم، وأيضاً بعض الرؤى المستعارة من روايات وقصص إنسانية، ففي افتتاحية (ضريبة النجاح) هناك تناص ارتكازي خفي من رواية (صيادون في شارع ضيق) للكاتب الفلسطيني جبرا إبراهيم جبرا:
:- ما الذي أعجبك في هذا السوق الكبير (سوق الصفارين)؟
قال:- أدهشني ذلك الرجل الكبير السن، وسط هذا الضجيج هو يعمل وحده بصمت.
وهناك تناص شكلي يعتمد على الصورة، وهو من الأنواع الابتكارية التي لم يسبق احد (الصدى) بهذه المقاربة التشبيهية، فهو يُقارب بين علامة الاستفهام، وبين شكل الأذن. ولا ندّعي أن الافتتاحيات ابتكرت نمطاً مفاهيمياً جديداً، لكنها ساهمت في بث نوع تركيبي يتراوح بين سردية الشعر وشعرية السرد وتكثيف الشعرية، وتنصلات الرواية وتنصلات اللقطة السينمائية، اشتغال وحراك مفتوح، ولهذه الاشتغالات مزايا فنية تخرج من النمطية، وهي قادرة على خلق مضامين متنوعة ورؤى فكرية واسعة. وقد حاولنا في هذه الانطباعية إعطاء رؤيا شمولية تقدّم هذه الافتتاحيات بما تراه من رؤى متنوعة تظهر عبر تلك العناوين نوعيات المقصد الاشتغالي، مثل (الملاذ) تحث على اليقظة. و(الرماح) لتحث الإنسان أن لا يكون يوماً رمحاً يطعنون به الآخرين. و(المعين) حث على الإخلاص. وفي (الرق) النتيجة لا رق مع الوعي، مع الايمان.
وترى افتتاحية (الابداع) أن جنون عابس كان إبداعاً. (التفرعن) لابد من ادراك عام ضمان لتجاوز مرض التفرعن. و(الرثاء الحي) تحرض على العمل الدؤوب. وفي افتتاحية (الوثبة) يرى الكاتب أن خدّام هذه المراقد أولى بالوثبة دائماً وأبداً. وفي (القلب) ليعامله عبر الاعراب اللغوي الخاص: القلب مرفوع بالذكر والصلوات، ومفتوح بالحمد والرضا.. ويصل الى أن الوجد المحمدي هو خير الثمر في افتتاحية (البراعم) والخدم والوجع والواعية والعمر والغضب وغيرها من الافتتاحيات كلها تطالب بالسعي المثابر، وبث الوعي، وتحث على العمل الجاد . |