لم يكن للنبي (ص) ان يستخدم اسلوبا واحدا للدعوة بل تدرج في استخدام مجموعة من الاساليب التي تجعله بامتياز مؤهلا لصناعة امة متماسكة رغم ما كانت تكتنف هذه المهمة من صعوبات يمكن لاي باحث منصف ان يدركها في اثناء دراسته لواقع الجزيرة العربية في فترة البعثة المعقد والممزق والمصطف على رؤوس المسامير واقع تحكمه البداوة بنزقها وعصبيتها وانتحارها اليومي في اتون الخرافة والنزعات المتضاربة نحو النفوذ في واقع شحيح الموارد , لن اتكلم طبعا عن التسديد الالهي والصبر الفوق بشري والمواصفات الايجابية الاخرى بحكم النبوة وانما اتناول تصرف النبي بصفته رجل دولة ,ذلك القائد الذي رغم فجيعته المتعددة الالوان المتمثلة بالتكذيب والترهيب والاهانة المتعمدة التي ووجه بها من قبل اهل مكة ومحاولة قتله غيلة فالاكراه على الهجرة والعيش في المنفى سنينا طويلة فقتل احبائه من اهل بيته واصحابه وتاليب القبائل بل وحتى من هادنهم من اهل الكتاب من اليهود ضده وتجييش الجيوش لحربه وحياكة المؤامرة تلو المؤامرة لقتله او تصفيته باي شكل ورصد الاموال والرجال للتضييق عليه حتى في ملاذاته البعيدة في بلاد الحبشة او عند بلاد غسان مع ماجندوه اعلاميا مستعينين بكل شاعر مفوه وجارية خليعة للطعن به وشتمه والانتقاص منه ,رغم كل ذلك مما لاتطيقه النفس البشرية نجد ذلك الانسان و القائد ولا اقول النبي لان النبوة جاءت تحصيل حاصل لهذه المواصفات التي بموجبها شاءت ارادة السماء ابتعاثه واصطفائه دونا عن سائر الخلق , نجده في يوم فتح مكة يدخل المدينة بروح اخرى ابعد ماتكون عن التشفي والثار ولابد لنا ان نضع موقف النبي هذا في سياقه التاريخي في تلك الحقب التي شهدت اكثر الفضائع على اساس من قانون القوة والغلبة حيث لايكون مصير الامم المفتوحة الا الابادة والتدمير , موقف النبي (ص) يوم فتح مكة تجاه اهلها بعد ان نكثت قريش ببنود صلح الحديبية وقتلت حلفاءه , وسياسة التسامح التي واجه بها العتاة القتلة والسفاحين المكذبين له والمحرضين عليه تتطلب منا حقا امعان النظر وانصاف سيرة النبي وتنقيتها من كل الاساءات التي يبتدعها الاعداء مستندين على ارث ملوث ومشكوك فيه من الروايات الموضوعة التي تحط من قدره ولا تبتبغي الا تشويه الصورة الناصعة للاسلام ونبيه (ص), نجده وهو يدخل مكة بجيش لم تجد له العرب مثيلا في القوة والعدد فكان ماجعل الرعب يدب في نفوس اعدائه الذين اذوه وان ترتعد فرائصهم حتى لم يجد بعضهم الا ان يلجا عند امراة يطلب منها الامان كما فعل ذلك نفر من قريش ممن لم يشملهم عفو النبي الشامل لانهم جاوزوا كل الحدود المعقولة للعداء المسموح بها وفق قيم المروءة اذ لم يدخروا سببا لايذائه وهاهم يلجاون الى بيت ام هانئ اخت الامام علي وهم (يذرقون كما تذرق الحبارى خوفا من سيف علي ) وما ان توسطت لهم ام هانئ عند النبي حتى عفى عنهم وقال (ص) اجرنا من اجارت ام هانئ , ورغم تاريخ العداوة الطويل جدا الا ان النبي لم يهدر دم سوى اربعة الى ثمانية رجال وست نساء سرعان ماعاد وعفى عن اغلبهم لاحقا , واعلن العفو العام عن مجتمع مكة بالكامل وخاطبهم وهم مجتمعون قرب الحرم لايدرون مالذي يمكن ان ينالهم من مصير مرعب (ماظنكم اني فاعل بكم ..فاجابوه ..اخ كريم وابن اخ كريم ..فاجابهم اذهبوا فانتم الطلقاء , وكل ذلك تعبير عن حقيقة دعوته السلمية و لتصفية اثار المواجهة الدامية ضم الذين لم يقبلوا الدخول في الاسلام بجيشه بصفة (المؤلفة قلوبهم) رغم ان اغلبهم سبق له ان قاتله لفترة طويلة الا انه ترك لهم فرصة الالتحاق بركب التغيير والعمل من اجل المجتمع الصالح , مما تقدم نجد ان مفهوم مايعرف اليوم بالعدالة الانتقالية كان حاضرا بشدة في سياسات النبي (ص) تجاه اعدائه حيث فسح المجال لفترة قصيرة للقصاص ممن ارتكبوا جرائم وعفا عمن يمكن العفو عنهم ليتفرغ بعد ذلك بالكامل لبناء دولة تشمل الجميع وفق قيم واخلاقيات الاسلام العظيم.
|