الانتخابات… ومعضلة الطرشانة. 

 صديقي، اليوم عازمك على طرشانة !!

هذه العبارة تكررت في حياتي كثيراً، ولطالما كان الأصدقاء يظهرون محبتهم من خلال العزيمة على طرشانة، كأفضل ما يمكن تقديمه (للأعزاز)، ولكن أحداً منهم لم يكن يعلم بأنه يطلق على رأسي رصاصة الرحمة، أو رصاصة الطرشانة. 

وإذا سألتي عن ثاني شيء أكرهه في حياتي، بعد تملق السياسي العراقي للدول الأخرى، فهو بلا تردد (الطرشانة). 

أعلم أني ربما جرحت مشاعرك الطرشانية، وخدشت رمزاً من رموز المطبخ العراقي، مستغفراً معتذرا، ولكني أعتمد على ما تبقى من ديموقراطية وحرية تعبير في العراق، وأستمتع بقول ما عندي قبل أن نتحول إلى بلد يشبه أمريكا!


معضلتي من الطرشانة يا صديقي معضلة فلسفية، معضلة تتعلق بالحيرة الوجودية، والسؤال عن الآخر، عن وجود شيء في مكان لا ينبغي أن يكون فيه، وبجوار شيء لا ينتمي إليه. 


توضع الطرشانة أمامي فأطيل النظر إليها، ويظن الأصدقاء أن شهيتي فُتحت للأكل، بينما هي قريحتي فُتحت بالتساؤل، حتى أني لا أستطيع ترك ياء المخاطبة في حواري معها: 

ما أنتي يا توليفة اللغز ؟

هل أنتي فاكهة أم حلوى أم مرق؟ 

إن كنتي فاكهة فما دخولكي على التمن؟!

وإن كنتي حلوى فما يصنع عندكي معجون الطماطة؟!

وإن كنتي مرقاً فأي مبرر للدبس وأكواب السكر؟!

هل أنتي مع اللحم أم ضده؟! 

بأي عذرٍ جمعتي البصل المفروم مع الجوز واللوز؟!

وكيف التقى فيكي الملح والمشمش المجفف؟! 

أسئلة لا تنتهي، وعذاب نفسي لا يتوقف، عندما أشاهد شعبي العظيم يأكل هذه الكارثة دون أن يسأل!! ويحبها دون الشعور بأنها ضربٌ من الشعوذة والسحر !! فأين المهرب من الطرشانة ؟! وكأنها قدر محتوم للعراق والعراقيين!! 

وقد يقول قائل، إن كانت هذه خصومتك معها، فلا مكان لكما معاً في العراق، إما أن تغادر هي أو أنت، وهي بالتأكيد حبيبة الملايين، أما أنت فمن يهتم بك ؟! وهل مقالاتك أكثر حضوراً بين القراء، من حضور الطرشانة بين محبيها؟!!


فأقول: نعم، الحقيقة أن هذا زمنها، وكلما أصابني منها ضنك (الجالي) أعدت التفكير بحالي، وأكاد أقول: ربنا أخرجنا من هذا البلد المطرشن أهله، لولا موقف واحد كريم منها، أتذكره فتهدأ معدتي، فيكون للاستذكار مفعول الفوار. 

وهذا الموقف، خلاصته أنني في يوم من أيام التنقل في جبهات المواجهة (للدعم لا للقتال)، أيام ملحمة الفتوى الخالدة، بدأ الجوع يهددني أكثر من ADعش، وكاد الضغط ينزل إلى أعمق خندق في الجبهة، فما كان من سخرية القدر إلا أن وضع أمامي الطرشانة. 

وقد أحببتها ذاك اليوم بحبين، حب لأنها أنقذتني، وحب لأنها كانت مخلوطة بتراب أقدام أبطال الفتوى، فشكراً للطرشانة على هذا الموقف النبيل، رغم الخصومة بيننا، والتي لا أحسبها ستنتهي على وفاق. 

والانتخابات يا صديقي طبخة لا تختلف كثيراً عن الطرشانة، ولعلي جرحت ذائقتك بهذا التشبيه، لكنها الحقيقة!!

مثل الطرشانة، لا ترى الإسلاميين يحتضنون المكياج والفلر والبوتكس والنفخ … إلا في الانتخابات !!

ومثل الطرشانة، لا ترى كور القماش المسمى كذباً (عمامة) يجتمع مع الشخص العلماني … إلا في الانتخابات !!

ومثل الطرشانة، لا يقبل العگال العربي والشارب الطويل أن تجلس المرأة (المتمكيجة) في صدر المضيف وتخطب على رؤوس (الزلم) … إلا في الانتخابات !!

ومثل الطرشانة، لا ترى قائمة تمثل هيبة الدولة العريقة، ترشح التكتوكر والطاشين … إلا في الانتخابات. 

كل شيء في الانتخابات، يشبه الطرشانة … حتى في حقيقة أنها أحياناً المنقذ الوحيد لك … ولا سبيل غيرها إلا الاقتتال. 

نحن يا قوم في صحراء، ولا حل ولا بديل، ولا أفق ولا نفق، إلا أن تأكل الأكلة التي لا تشتهيها ولا تريدها، بالنسبة لي هي الطرشانة، وبالنسبة لك هي الانتخابات.

شيء واحد تختلف فيه الطرشانة… 

في تلك الصحراء لم أكن أملك ترف الاختيار، لكني على الأقل مشيت الطريق راغباً بتحمل المعاناة التي سألاقيها … ولاقيت الطرشانة. 

أما نحن والانتخابات -يا صديقي- فإن صحراء الخيارات المحدودة والطريق الوحيد المتبقي، نحن صنعناها بأيدينا وتكاسلنا وتخاذلنا، عندما تركنا كلمة الرجل البصير بزمانه، الذي قال #نظموا_صفوفكم ، ثم عاد متألماً من كسلنا بعد 4 سنوات ليقول #أمامهم_مسار_طويل 

لا حل أمامنا إلا بالانتخاب، فهو أمر محتوم، مثل الطرشانة.

الانتخابات.jpg