في كل موسم انتخابي يتجدّد السؤال المؤلم في الوجدان العراقي: هل نشارك أم نقاطع؟ وهل ثمة معنى لصوتٍ يُلقى في صندوقٍ يعرف مسبقًا طريقه إلى يدٍ واحدة؟ فالأحزاب ذاتها باقية، بل تزداد سوءًا بمرور الزمن، تتبدل الشعارات ولا تتبدل الوجوه، يتغير لون اليافطة ويبقى الفساد أصل الشجرة وساقها، كأن العراق محكوم بقدرٍ يدور في حلقة مفرغة من الألم والرجاء. إنّ المواطن العراقي حين يسير نحو صندوق الاقتراع لا يحمل ورقةً فحسب، بل يحمل ذاكرةً مثقلة بالخيبات، يرى وجوه الوعود الكاذبة وهي تطل عليه من كل لافتة، يسمع أصواتهم ذاتها التي صدّعته بالشعارات ثم سرقته بالقرارات، يراهم يتحدثون عن الإصلاح وهم أصل الخراب، وعن النزاهة وهم رموز النهب، وعن الوطنية وهم تجار الولاءات. ومع ذلك يبقى السؤال قائماً: هل المقاطعة خلاصٌ أم خيانة؟ هل المشاركة عبثٌ أم محاولة بائسة لإنقاذ الممكن من المستحيل؟
المقاطعة تُعبّر عن يأسٍ صادق لكنه لا يصنع بديلاً، والمشاركة محاولةُ إنعاشٍ في جسدٍ ميت لكنها تبقي نافذة الأمل مفتوحة، فالرفض وحده لا يصنع التغيير إن لم يتحول إلى وعيٍ منظم، والانتخاب وحده لا يثمر إن بقي محاطًا بالمال السياسي والسلاح والتهديد. إنها معادلة الوعي بين نارين: نار الرفض ونار الإذعان، وبينهما يسير الشعب على جمر الحقيقة يبحث عن بصيص وطن.
ومع كل انتخاباتٍ جديدة يلوح شبح التزوير كقدرٍ لا فكاك منه، إذ صار التلاعب بالأصوات جزءًا من الموروث السياسي لا من الخطأ العابر، يتقنونه كما يتقن الخطاط حروفه، يعرفون كيف يُبدّلون الأرقام ويُعيدون توزيعها حتى يصحو الشعب على نتائج يعرفها قبل أن تُعلن. المفوضية المستقلة ليست مستقلة، والرقابة صارت عنوانًا للديكور الديمقراطي، والمال السياسي يشتري ضمير الفقير كما يشتري أصوات الجائعين بثمن الخبز والبطانية والوعود الكاذبة.
وفي المقابل، هناك شعب بدأ يستيقظ من سباته، يدرك أن الكرامة لا تُوهب، وأنّ الصمت صار خيانةً باردة، ولذلك فإن احتمال اندلاع المظاهرات ليس خطرًا بل ضرورة. الشعب الذي خرج في تشرين لن يعود كما كان، لقد اكتشف قوّته، وجرّب صوت الشارع الذي يهزّ عروش الكذب. ولكن هذا الوعي الوليد محاصرٌ بين فكي القمع والتضليل، فالسلطة لا تعرف سوى لغة الخوف، تظن أن صوت الرصاص يطفئ فكرة، وأن الاعتقال يمحو حلمًا، لكنها لا تدرك أن الفكرة حين تُروى بالدم تصير أبدية.
وحين تُقمع المظاهرات، لا يخمد الغضب، بل يتحوّل إلى صمتٍ أكثر خطورة، إلى جرحٍ تحت الرماد ينتظر لحظة الانفجار. السلطة التي تخاف من شعبها لا شرعية لها، والكرسي الذي يحرسه الرصاص لا يستحق الاحترام، فالديمقراطية التي لا تحمي حق الناس في الغضب ليست سوى قناعٍ رديءٍ للاستبداد.
وفي خضم هذا المشهد المضطرب، تلوح ظلال التدخلات الأجنبية، كلٌّ يمدّ خيوطه في الجسد العراقي المرهق، هذا يريد نفوذًا وذاك يسعى لمصالحه، والعراق بينهما ساحة مفتوحة للصفقات. كلما ضعفت الثقة الداخلية، تمدّد الخارج في القرار، حتى صار الوطن مقسّمًا بين راياتٍ لا تشبهه. وما إن تهتزّ الساحة حتى تُطلّ الأصوات الداعية إلى الوصاية الدولية أو التدخل "لحماية الديمقراطية"، وكأننا لا نملك حق تقرير مصيرنا إلا بإذنٍ من الآخرين.
لكن الحقيقة التي لا يريدون الاعتراف بها أن العراق لا يحتاج وصيًا، بل يحتاج وعيًا. لا يحتاج من يكتب له مستقبله، بل من ينهض ليكتبه بنفسه. فكل إصلاحٍ لا يبدأ من الإنسان العراقي هو وهم، وكل ثورةٍ لا يحميها وعيٌ وطني تتحول إلى فوضى. الطريق شاق وطويل، لكنه يبدأ بخطوةٍ واحدة نحو الذات، بخطوةٍ تنبذ الطائفية، وتكسر جدار الخوف، وتعيد للوطن معناه.
لن يكون الخلاص في صناديق تُزوّر ولا في شوارع تُقمع، بل في عقلٍ يُنير وضميرٍ ينهض. حين يدرك العراقي أنه ليس تابعًا لحزبٍ ولا مذهبٍ ولا زعيم، بل لوطنٍ واحد اسمه العراق، حينها فقط تبدأ أول انتخاباتٍ حقيقية في تاريخ هذا البلد، انتخابات بين النور والظلمة، بين الوعي والوهم، بين من يريد وطناً حيّاً ومن يريد شعباً ميتاً.
إن العراق اليوم يقف على حافة الفجر، والفجر لا يأتي إلا بعد العتمة، لكن العتمة التي طال ليلها لن تقدر أن تحجب شمس الوعي حين تشرق من صدور الناس. سيبقى العراق رغم كل شيء، لأن الأوطان لا تموت حين يُقتل أبناؤها، بل حين يتوقفون عن الحلم، والعراقي ما زال يحلم، وما دام يحلم فهو حيّ، وما دام حيًّا فالوطن باقٍ.
