لم تكن الشهادة الجامعية يومًا غاية في ذاتها، بل هي أداة لبلوغ أسمى مراتب الفهم ، والنضج الفكري ، والمهارة العلمية. فهي تمثل المرحلة النهائية لمسار اكاديمي يبني على أسس علمية منهجية ، يمر خلالها الطالب بجملة من التجارب المعرفية والمهارية تؤهله لتحليل الواقع وتقديم حلول لمشاكله.
يقبل الطالب في التعليم الجامعي اعتمادًا على شهادة الثانوية العامة أو ما يعادلها ، ويمنح الدرجة الجامعية بعد استيفائه المنهج العلمي المقرر ، واكتسابه ادوات التفكير المنهجي ، وقدرته على توظيف المعرفة في معالجة الظواهر المختلفة ضمن تخصصه. وبناءً على ذلك فإن حاملي الشهادات الجامعية يتميزون من حيث المبدأ عن نظرائهم ممن لم يلتحقوا بالجامعة ، بما يمتلكون من خبرات ومهارات ، وعلاقات إجتماعية، وفرص لتطوير قدراتهم المهنية.
فخلال سنوات الدراسة لا يقتصر التحصيل على الجانب العلمي فقط بل يشمل مجموعة واسعة من الأنشطة الجامعية التي تسهم في صقل شخصية الطالب وتوسيع أفق خبرته، وبناء علاقات فعالة مع زملائه وأساتذته.كما تتيح الشهادة الجامعية لحاملها فرصة متابعة الدراسات العليا للحصول على شهادة الماجستير والدكتوراه ، الأمر الذي ينعكس إيجابًا على مستقبله المهني والاجتماعي.
عرفت الجامعات العراقية، ولا سيما في العقود التي سبقت تسعينات القرن الماضي، بريادتها الأكاديمية ومكانتها المرموقة على الصعيدين الإقليمي والدولي. فحسب تقارير منظمة الأمم المتحدة للتربية والتعليم والثقافة ( اليونسكو) ، كانت الجامعات العراقية تتصدر مؤسسات التعليم العالي في المنطقة من حيث جودة البحث العلمي ، وتوفير المختبرات وتطوير البنية التكنولوجية ، إلى جانب الدعم الحكومي الكبير للطلبة.
إلا أن العراق شهد في العقود الأخيرة
تضخمًا اكاديميًا هائلًا ، أفرز مفارقة حادة؛ إذ شهد ازدياد في عدد حملة الشهادات العليا، يقابله تراجع ملحوظ في مستوى الكفاءة، وانفصال بين المعرفة والسلوك، وضعف في الأثر الإصلاحي للمخرجات الأكاديمية. فقد أدى التوسع العشوائي في التعليم العالي لاسيما عبر الجامعات الخاصة وكليات التعليم المفتوح إلى تراجع معايير الجودة، وأصبح الحصول على الشهادة في بعض الحالات لا يتطلب جهدًا معرفيًا كبيرًا، بل قد يرتبط بوسائل أخرى لا تمت إلى الكفاءة بصلة.
ويُضاف إلى ذلك غلبة الطابع النظري على المناهج، مقابل ضعف الجانب التطبيقي، مما أفرز أجيالًا من الخريجين غير المؤهلين لسوق العمل، وتكرست بذلك حالة من الانفصال بين المعرفة والواقع. هذا التراجع أدى إلى فقدان الثقة بين المجتمع والنخبة الأكاديمية، خاصة مع بروز فئات تحمل ألقابًا علمية دون أن تمتلك الرؤية النقدية أو أدوات الفهم والإصلاح. فقد اختزلت الشهادة إلى ورقة عبور نحو الوظيفة، لا إلى برهان راسخ على التكوين العلمي والفكري.
إن الشهادة التي لا تثمر علمًا، ولا تنتج وعيًا، هي شهادة بلا روح. فهي كغصن مكسور لا ظل له ولا ثمر، وكزهرة من ورق لا عطر لها ولا حياة. وليست العقول الناضجة من تتفاخر بالألقاب، بل من تحول تلك الألقاب إلى بذور تنبت في أرض الواقع علمًا نافعًا، وإصلاحًا مجتمعيًا، وسلوكًا حضاريًا.
واخيرًا ، أقول إن التضخم في عدد الحاصلين على شهادات أكاديمية لا يعني غياب الجامعات الرصينة في العراق ولا ينكر وجود كفاءات علمية مشرفة أسهمت في مختلف الميادين. غير أن النهوض الحقيقي بواقع التعليم الجامعي لا يتحقق إلا حين نتعامل مع الشهادة الأكاديمية على أنها مشروع معرفي متكامل ، لا وثيقة شكلية للتفاخر الاجتماعي. والإصلاح يبدأ من تجديد بنية الفكر التربوي وتحرير المناهج من أسر التلقين ، واعتماد التطبيق العملي ، وتعزيز مكانة الاستاذ الجامعي ليكون قدوة وموجهًا، والاحتكام إلى معيار الكفاءة لا إلى الألقاب فقط. وإذا اقترنت هذه المساعي بإشاعة ثقافة التعلم المستمر ، فإن الجامعات العراقية ستستعيد دورها التاريخي ، وتغدو من جديد مصانع للعقول الواعية ، ومنارة للنهضة ، لا مجرد معابر نحو الوظيفة.
