ظاهرة السَّرقة عند بعض الأطفال تمثِّل إشكاليَّةً نفسيَّةً واجتماعيّةً تتطلَّب فهمًا شاملًا للأسباب والدَّوافع التي تدفع الطِّفل إلى هذا السُّلوك. وهذه الظَّاهرة تنبع من مجموعة عوامل متداخلة تشمل البيئة الأسريَّة والنَّفسيَّة والاجتماعيَّة، ممَّا يؤثِّر على تشكيل شخصيَّة الطِّفل وطبعه؛ لهذا، من الضَّروري دراسة هذه العوامل بدقَّة لتوفير الحلول التَّربويَّة المناسبة التي تضمن بناء الطِّفل في بيئة سليمة تحترم حقوقه وحقوق الآخرين، وتساهم في بناء مجتمع متماسك ومتوازن.
المحور الأوَّل: تمهيدات لفهم السَّرقة لدى الأطفال.
لتحليل العوامل المؤديَّة إلى السَّرقة لدى الأطفال، من الضَّروري الوقوف أوَّلًا عند عدد من المعطيات التي تُساعد على تفسير الخلفيات النَّفسيَّة والاجتماعيَّة لهذا الموقف:
النُّقطة الأولى: يُصنَّف دافع التَّملُّك من الغرائز الجوهريَّة التي تتشكَّل في النَّفس الإنسانيَّة منذ المراحل المبكرة للنمو، ويُعبِّر عن الحاجة إلى السَّيطرة على الأشياء أو الاحتفاظ بها بوصفها وسيلةً للشُّعور بالأمان أو إثبات الذَّات. وإذا لم تُشبع هذه الغريزة بصورة تربويَّة متزنة تتيح للطِّفل امتلاك بعض الأشياء ضمن حدود الممكن والمعقول، فإنَّها قد تتخذ أشكالًا مضطربة؛ حيث يسعى الطِّفل إلى تحقيق هذا الإشباع بطُرق غير سوية، مثل الاستحواذ على ممتلكات الآخرين من دون وعي بعواقب الفعل. وتكمن خطورة هذا الإهمال في أنَّ الغريزة، حين تُكبت بلا توجيه، لا تضعف، وقد يشتدّ تأثيرها على الفرد، فتدفعه إلى تجاوز الضَّوابط الاجتماعيَّة والمبادئ المتَّفق عليها لتلبية حاجته المُلحَّة.
النُّقطة الثَّانية: المنزل بما يمثِّله من بيئة أولى حاضنة للطِّفل هو المجال الأوَّل الذي تتشكَّل فيه ملامح طبعه واتِّجاهاته. وفي هذا الإطار، يلعب المناخ الأسري، من خلال ممارساته اليوميَّة، دورًا حاسمًا في تشكيل علاقة الطِّفل بمفهوم التَّملُّك. فحين يسود في الأسرة مناخ من العدل والاحترام لممتلكات الآخرين، ويُراعى فيه إشباع حاجات الطِّفل الماديَّة والمعنويَّة ضمن حدود واضحة، فإنَّ غريزة التَّملك تُضبط وتُوجَّه بصورة سوية. وأمَّا إذا نشأ الطِّفل في بيئة تُمارَس فيها أشكال من التَّعدي على ممتلكات الآخرين، أو يُحرم فيها من أساسيات يشعر أنَّها متاحة لغيره، فقد تتشوَّه لديه مفاهيم الملكية والخصوصيَّة، ما يفتح الباب أمام ظهور تصرُّفات مثل السَّرقة، بوصفها محاولة تعويضيَّة أو احتجاجيَّة على واقع لا يشعر فيه بالإنصاف أو الانتماء.
النُّقطة الثَّالثة: الموقف المنحرف لا يُقاس بخطورته الآنية فحسب؛ بل بما قد يُفضي إليه من أنماط أكثر تعقيدًا وانحرافًا إذا تُرك بلا معالجة. فالتَّصرُّف في ممتلكات الآخرين من دون إذن، وإن ظهر بسيطًا أو عفويًّا في بداياته -كأن يستولي الطِّفل على غرض صغير- قد يمثِّل المؤشر الأوَّل لانزلاق أعمق، وقد يتطور بمرور الوقت إلى ممارسات إجراميَّة أكثر خطورة إذا لم يُتدارك مبكرًا. ومن الخطأ الجسيم التَّعامل مع هذه التَّصرفات بالتَّغاضي أو التَّبرير بدافع البراءة أو صِغر السِّن؛ إذ يتطلَّب الأمر استجابة أسريَّة عاجلة ومنظَّمة، تُبنى على الوعي بخطورة الفعل، وتستلزم دراسة أسبابه، واستشارة المتخصصين عند الحاجة، وتحليل العوامل النَّفسيَّة والاجتماعيَّة المحيطة بالطِّفل؛ والتَّدخل المبكر يحول دون تفاقم المشكلة، ويشارك في إعادة توجيه الطِّفل نحو مسارات سوية تدعم البناء النَّفسي السَّليم.
عاقبوا أمي
"يروى أنَّ أحدَ الأطفال سرقَ بيضةً من بيت جاره، وعندما جلبَها لأمّهِ فرحت، وقبَّلته، ولم تنصحْه بأنَّ عمله هذا خطأ، ويجب ألَّا يكرر، ويجب عليه إعادة البيضة لأصحابها؛ ممَّا شجَّعه للاستمرار على سرقةِ بيض دجاج الجيران، وبعد فترة ارتقى فسرقَ الدَّجاجات نفسها؛ والأمُ في كلِّ مرَّة تشجعهُ على فعل المزيد، ومع التَّقدم بالعمر أصبح شابًا عندها تحوَّل إلى لصٍ محترف، ويعيش على السَّرقةِ هو وأمُّهُ.
وفي آخر مرَّة ألقت الشّرطة القبضَ عليهِ، واعترفَ بكلِّ الجرائم التي ارتكبَها فحُكِم عليهِ بالإعدام، وفي يومِ وساعة تنفيذ حكم الإعدام الذي كان يُنفذُ علنًا أمامَ النَّاس؛ ليكونَ عبرةً ودرسًا للمجتمع وللمتفرجين؛ وكانت أمُّه بين المتفرجينَ تبكي، وتولول، وكانَ من عادة المشرفينَ على تنفيذ حكم الإعدام في ذلكَ الزَّمن أن يسألوا المحكومَ عليهِ عمَّا يشتهيهِ أو يتمنَّاه لآخر مرَّة في حياتهِ قبل أن يعدم، وكانت هذه الرَّغبات تختلف من محكوم وآخر؛ وعندما سألوه عن آخر رغبة، وأمنية يتمنَّاها قبل إعدامهِ؛ فتفاجئ المشرفونَ على الإعدام أنَّه يطلبُ معاقبةَ أمِّهِ.
وعندما سألوه لماذا تطلبُ هذا؟
أجابَهم: هي من أوصلني إلى الإعدام حينما شجَّعتني؛ ولو أنَّها عاقبتني عندما سرقت أوَّل بيضة؛ لما وقفت اليوم على منصَّة الإعدام" (1).
وهذه القصَّة تسلط الضَّوء على أحد أبرز أخطاء التَّربية: التَّقاعس عن تقويم الأسلوب الخاطئ في مراحله المبكرة، والتَّهاون في معالجة الانحرافات الصَّغيرة التي قد تتفاقم بمرور الزَّمن لتتحوَّل إلى عادات إجراميَّة. كما تؤكِّد على دور الأسرة، لا سيما الأم أو المربي الأوَّل، في غرس المبادئ السَّليمة، أو على النَّقيض، في تكريس الاعوجاج إذا غاب التَّوجيه والرَّدع المبكِّر.
النُّقطة الرَّابعة: يمثِّل الاستحواذ على أشياء الآخرين في مرحلة الطُّفولة مؤشرًا خطيرًا لا تقتصر آثاره على الطِّفل وحده؛ وإنَّما تمتد لتُهدد استقرار الأسرة وتماسك المجتمع بأسره؛ فمن جهة، يُفضي استمرار هذا المنهج إلى إضعاف البناء التَّربوي لدى الطِّفل، ويُرسِّخ لديه تصورًا مشوَّهًا حول مفاهيم الملكيَّة والحقِّ والواجب. ومن جهة أخرى، ينعكس هذا الخلل على الأسرة، التي تتحمَّل في نهاية المطاف تبعات الفشل في التَّنشئة، سواء على مستوى السُّمعة أو المسؤوليَّة القانونيَّة أو العبء النَّفسي. وأمَّا على المستوى المجتمعي، فإنَّ تكرار مثل هذه الظَّواهر يُنتج أجيالًا غير منضبطة، ويقوّض أسس الثِّقة والأمان الاجتماعي.
ومن هنا، فإنَّ معالجة هذه الظَّاهرة في مرحلة الطُّفولة يجب أن تُفهم على أنها استجابة وإجراء وقائي يهدف إلى حماية المستقبل الفردي والجماعي، من خلال اجتثاث الفساد في مهده قبل أن تتجذر آثاره في كيان الفرد وتنعكس على نسيج المجتمع بأكمله.
المحور الثَّاني: دوافع السَّرقة.
في مراحل الطفولة المبكِّرة تبدأ ملامح الميول بالظُّهور والتَّكوّن، مُشكِّلة الأساس الذي تنبني عليه شخصيَّة الطِّفل ومستقبله النَّفسي والاجتماعي. وتتأثَّر تأثيرًا كبيرًا بالعوامل النَّفسية والاجتماعيَّة المحيطة بالطِّفل. وفهم هذه الخلفيات يُمكِّننا من تفسير ظهور مسالك معيَّنة قبل أن تتأصل أو تتفاقم، ومن أبرز العوامل التي تؤول إلى السَّرقة لدى الأطفال يمكن تصنيفها على قسمين:
القسم الأوَّل: الدَّوافع الدَّاخليَّة (النَّفسيَّة والتَّربويَّة).
ويتضمَّن العوامل التي تنبع من داخل الفرد نفسه أو من بيئته التَّربويَّة المباشرة، وهي:
العامل الأوَّل: الحاجات غير المُلبَّاة.
الحرمان من الحاجات الضَّروريَّة أحد أبرز الدَّوافع النَّفسيَّة التي قد تدفع الطَّفل إلى أخذ ما لا يخصه، لا سيما إذا تكرَّس شعوره بالعجز عن تلبية تلك الحاجات من خلال قنوات مشروعة؛ فالطِّفل، بطبيعته يحتاج إلى ما يشبع فضوله ويمنحه الشُّعور بالفرح والانتماء، كالحصول على الألعاب أو الحلويات أو الأشياء التي يراها عند أقرانه.
وحين يعجز الوالدان عن تلبية هذه المتطلبات بدرجة معقولة -سواء نتيجة الإهمال أو الظُّروف الماديَّة أو ضعف التَّواصل- فإنَّ الطِّفل قد يبحث عن إشباعها خارج الإطار الأسري، ولو بوسائل خاطئة مثل أخذ ما لا يحق له.
ومن المهم التَّأكيد هنا أنَّ تلبية حاجات الطِّفل لا تعني الانصياع الكامل لرغباته أو الإفراط في تلبية مطالبه بلا ضوابط؛ وإنَّما المقصود هو الإشباع المتوازن الذي يراعي إمكانيات الأسرة من جهة، ويمنح الطِّفل شعورًا بالقيمة والأمان من جهة أخرى. كما أنَّ الفقر بمفرده لا يفسر الخروج عن الطَّريق القويم؛ إذ إنَّ الإهمال العاطفي والتَّربويّ في التَّعامل مع شعور الطِّفل بالحرمان يمهِّد الطَّريق لانزلاقه نحو هذه الرَّذيلة.
ولمعالجة الإهمال العاطفي والتَّربوي الذي قد ينتهي إلى شعور الطِّفل بالحرمان وانزلاقه نحو الضَّلال، لا بدَّ من توفير تواصل عاطفي مستمر، بحيث يشعر الطِّفل بالحبِّ والاهتمام والاحتواء من قبل الأسرة. ويكون ذلك من خلال الاستماع له بصدق، والتَّعبير عن التَّقدير، ومشاركته مشاعره وأفراحه وأحزانه، ليشبع حاجته النَّفسيَّة ويخفف من شعوره بالحرمان.
العامل الثَّاني: ضعف الثِّقة بالنَّفس.
ينبع دافع السَّرقة أحيانًا من مشاعر نفسيَّة عميقة مثل الشُّعور بالدُّونية أو نقص الثِّقة بالنَّفس، لا سيما عندما يقارن الطِّفل نفسه بأقرانه الذين يمتلكون ما يفتقده هو. وهذه المشاعر تولِّد لديه إحساسًا بالحرمان والغبن، ممَّا يدفعه إلى محاولة سدِّ هذا النَّقص عبر مواقف مثل السَّرقة، التي ينظر إليها بوصفها وسيلة لتعويض ما ينقصه أو للتَّقرب ممَّا يراه لدى الآخرين.
ومن هنا، تنبع أهميَّة دعم الطِّفل نفسيًّا واجتماعيًّا، وزيادة ثقته بنفسه، والتَّركيز على توفير بيئة مشجِّعة تحقق له الشُّعور بالقبول والإنجاز بعيدًا عن المقارنات التي تضر بصحته النَّفسيَّة.
العامل الثَّالث: الاضطرابات النَّفسيَّة.
قد تنبع دوافع السَّرقة لدى الطِّفل من اضطراباتٍ نفسيّةٍ يمرّ بها في مراحل معيَّنة من نشأته، فتغدو تلك الاضطرابات مرآةً لما يعتمل في أعماقه من توتّرٍ وقلقٍ واختلالٍ في توازنه العاطفي. وبالتَّالي قد ينساق الطِّفل -من حيث لا يشعر- إلى طبعٍ منحرفٍ، لا تمرُّدًا أو رغبةً في الأذى؛ بل صرخةً صامتة تعبِّر عن مشاعره المكبوتة، ومحاولةً فطريَّة لمداواة جراحٍ نفسيَّةٍ يعجز عن الإفصاح عنها بالكلام.
وهذا البُعد النَّفسي يتطلَّب تدخل متخصص من خلال التَّقييم والعلاج النَّفسي؛ لأنَّ السَّرقة قد تكون لدى الطِّفل عرضًا لمشكلة نفسيَّة أعمق تستوجب فهمًا دقيقًا وعناية مهنية، لا مجرَّد إدانة أو تناول سطحي لأسبابه الظَّاهرة. وعليه، فإنَّ التَّشخيص المبكِّر والتَّدخل المناسب أمران حاسمان لمنع تفاقم المشكلات وتحسين الحالة النَّفسيَّة للطِّفل.
العامل الرَّابع: الهروب من الأخطاء.
قد يلجأ بعض الأطفال إلى الاستحواذ غير المسموح به فرارًا من العقاب، أو بحثًا عن ملاذ يعوّضهم عن فقدان ما هو عزيز عليهم، فيسعون من خلالها إلى حماية أنفسهم من اللوم أو لتعويض ما فقدوه بطريقةٍ خاطئة. مثل أقلامهم أو مصروفهم الشَّخصي. وينبع هذا الاتِّجاه نحو الرَّذيلة أحيانًا من قسوة الوالدينِ، التي تظهر في العنف، والتَّهديد المستمر، والتَّشديد المفرط على الطِّفل، ممَّا يولد شعورًا بالخوف والضَّغط النَّفسي. وهذه الظُّروف تفضي إلى نشوء نمط غير طبيعي يختبئ الطِّفل وراءه، خوفًا من العقاب أو المواجهة، فيميل إلى ارتكاب الخطأ في الخفاء، ومنها الاستيلاء على ممتلكات الآخرين بغير حق.
إنَّ التَّربية القائمة على الضَّغط والتَّشديد لا تُثمر إلَّا عن جيل من الأطفال الذين يتعلمون التَّعامل مع المشكلات بطرق غير صحيحة، تحفزهم على الكذب وإخفاء أفعالهم بدلًا من الاعتراف بها وتحمل العواقب والنَّتائج. وبما أنَّ الأمر هكذا، يصبح من الضَّروري تبني أساليب تربويَّة قائمة على الحوار والتَّفهُّم، ترفع مستوى الثِّقة بين الطِّفل ووالديه، وتتيح له التَّعبير عن أخطائه من دون خوف من العقاب القاسي، ممَّا يفتح الباب أمام تصحيح واعٍ ومثمر.
العامل الخامس: غياب الوعي بمفهوم الملكية.
ضعف إدراك الطِّفل لمفهوم الملكية وحدود التَّملُّك أحد الدَّوافع الجوهريَّة التي قد تسبب الاعتداء على ممتلكات الآخرين في المراحل المبكرة من العمر؛ فالطِّفل بطبيعته لا يُولد مُدركًا للتَّمييز بين "ما هو له" و"ما يخصّ الآخرين"، ويكتسب هذا الفهم تدريجيًّا من خلال التَّوجيه التَّربوي والتَّجربة الاجتماعيَّة.
وعندما يغيب التَّوجيه الواضح أو تتراخى الأسرة في تعليم الطِّفل قاعدة "الحق في التَّملك"، فإنَّ إدراكه يظلُّ غائمًا، فيتصرَّف بناءً على الرَّغبة لا على وعي بالحدود. وهكذا، قد يأخذ أشياء من غيره من دون أن يُدرك أنَّها لا تخصه، لا بدافع الإيذاء أو الخداع؛ بل لعدم ترسخ مفهوم "الملكية الفرديَّة" وحرمة الاعتداء عليها في وعيه المعرفي والعملي.
ومن هذا المنطلق تأتي أهمية التَّربيَّة المعرفيَّة المبكِّرة التي تُعرِّف الطِّفل بحقوقه وحدودها، وتُرسِّخ لديه أنَّ لكلِّ فردٍ خصوصيته وملكيته التي يجب احترامها. وهذا الفهم يُبنى عبر مواقف حياتيَّة وتوجيهات مباشرة وممارسات أسريَّة مستمرة تُظهر احترام الكبار والصِّغار لممتلكات بعضهم البعض.
إنَّ غياب هذا الفهم يُدخل الطِّفل في حالة من التَّخبُّط، فيفقد القدرة على التَّمييز بين المشروع والممنوع، ما قد يُمهِّد لانقلاب هذا الخطأ إلى عادة مستترة تتسلل إلى أسلوبه كلَّما أراد شيئًا، من دون إدراك لأبعاد ما يفعل.
القسم الثَّاني: الدَّوافع الخارجيَّة (الاجتماعيَّة والأخلاقيَّة).
ويتضمَّن العوامل المرتبطة بالبيئة الاجتماعيَّة والتَّنشئة الأخلاقية؛ وهي:
العامل الأوَّل: القدوة السَّيئة.
منهج الوالدينِ من أقوى المؤثِّرات في تشكيل الاتِّجاهات والقيم لدى الطِّفل؛ إذ يُنظر إليهما في المراحل الأولى من النُّمو باعتبارهما النموذج الأعلى، والمرجع الأوَّل لفهم العالم وتفسير ما يدور فيه. وتشير بعض الرِّوايات التَّربوية إلى أنَّ الطِّفل في سنواته الأولى قد يرى في والديه صورة للقدرة المطلقة، حتَّى إنَّ بعض النُّصوص الشَّريفة تصف اعتقاد الطِّفل بوالديه بأنَّه يبلغ مرتبة الألوهيَّة في نظره، من حيث قدرتهما على الرِّزق والتَّدبير وتوفير الأمان؛ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ (عَلَيْهِ السَّلَامُ)، قَالَ: "قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ): أَحِبُّوا الصِّبْيَانَ وَارْحَمُوهُمْ، وَإِذَا وَعَدْتُمُوهُمْ شَيْئاً، فَفُوا لَهُمْ؛ فَإِنَّهُمْ لَايَرَوْنَ إِلَّا أَنَّكُمْ تَرْزُقُونَهُمْ" (2). وإذا كان الطِّفل يرى في والديه منبع العطاء ومصدر الأمان، فإنَّ أيّ انحرافٍ في تصرفاتهما يُحدث اضطرابًا في تصوّره عن مفاهيم الخير والشرِّ، والحقِّ والباطل.
وعليه، فإنَّ ممارسات الوالدين -سواء كانت صريحة أو ضمنيَّة- تُشكِّل مرآة لما هو مقبول أو مرفوض. فإذا اعتاد الطِّفل رؤية والده يأخذ ما لا يحق له، أو يسمع أمه تتهاون في الأمانات أو تشجّعه ضمنيًّا على التَّحايل والاستحواذ على أشياء الآخرين، فإنَّه يتشرَّب هذه المواقف بوصفها طبيعيَّة ومبرَّرة. فالقدوة السلبيَّة تُنتقل إلى الطِّفل ليس فقط بالتَّوجيه المباشر؛ وإنَّما عبر المعايشة اليوميَّة، مهما بدت بسيطة أو عابرة.
وتتجلَّى خطورة القدوة المنحرفة في تأثيرها العميق على البنية القيميَّة للطفل؛ إذ تؤدِّي إلى ترسيخ السلوكيات الخاطئة في وجدانه، وتضعف ثقته بالمعايير المرتبطة بالتَّمييز بين الخطأ والصَّواب والتي يُفترض أن تشكِّل إطار شخصيته، كما تُحدث اضطرابًا في منظومته الإدراكيَّة المتعلِّقة بمفاهيم العدالة والحقِّ. فالطِّفل الذي يشاهد من يُمثّل لديه السُّلطة الأعلى أو النموذج الأمثل مثل -والديه أو مربيه- يمارس الرَّذائل وخاصَّة الكذب أو السَّرقة أو الخيانة، يُعيد بناء مفهومه لتلك الأساليب على نحوٍ يبرِّر تلك الممارسات، معتبرًا إيَّاها تصرُّفات مشروعة أو مبرَّرة في سياقات معيَّنة.
ويُشير الحديث النَّبوي الشَّريف إلى خطورة هذا الطَّريق؛ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ (صلَّى الله عليه وآله) أنَّهُ نَظَرَ إلى بَعضِ الأطفالِ فَقالَ: وَيلٌ لِأَولادِ آخِرِ الزَّمانِ مِن آبائِهِم. فَقيلَ: يا رَسولَ اللَّهِ، مِن آبائِهِمُ المُشرِكينَ؟
فَقالَ: لا، مِن آبائِهِمُ المُؤمِنينَ؛ لا يُعَلِّمونَهُم شَيئًا مِنَ الفَرائِضِ، وإذا تَعلَّموا أولادُهُم مَنَعوهُم، ورَضوا عَنهُم بِعَرَضٍ يَسيرٍ مِنَ الدُّنيا، فَأنا مِنهُم بَرِيٌ، وهُم مِنِّي بُرآءٌ" (3).
ويُبرز هذا النَّص النَّبويُّ البُعد النَّفسيّ والاجتماعيّ في ظهور الميول السلبيَّة لدى الأبناء، مُحمِّلًا الآباء والمربين تبعات التَّقصير حين يُخفقون في أداء دورهم التَّوجيهي. فيتحوَّل غياب التربيَّة والتَّعليم السَّليم إلى عاملٍ يشوّه المنظومة الإدراكيَّة للطِّفل، ويضعف الضَّوابط التي تُنظِّم حركته في مراحل تكوينه القادمة.
العامل الثَّاني: غياب قيم الأمانة.
إنَّ الطفلَ الذي ينشأُ في بيئةٍ أسريةٍ تخلو من تعليمِ قيمِ الأمانةِ، يكونُ معرَّضًا بشكلٍ كبيرٍ لاكتسابِ الخيانةِ والتَّعدي خارجَ المنزلِ، سواءً في الشَّارعِ أو في المدرسةِ. وقد تؤثِّر الظُّروف الاجتماعيَّة الصَّعبة على توجهاته، فتنال من قدرته على اتِّخاذ قرارات منضبطة، أو تدفعُه إلى تبني منهج خاطئٍ بحجةِ التَّكيفِ مع واقعِه. ولهذا السَّبب، فإنَّ غرس القيم الإنسانيَّة منذ الصغر – كالأمانة والصِّدق والاحترام – ضروري لبناء شخصيَّة متَّزنة تلتزم بالقيم الإنسانيَّة، وتحمي المجتمع من مظاهر الخلل والانحلال.
وإذا رجعنا إلى النُّصوصِ الشَّريفةِ سنجد تأكيدًا عظيمًا على ضرورةِ غرسِ القِيَمِ في نفوسِ الأطفالِ منذُ نعومةِ أظفارِهم، حتَّى تُثمِرَ تلك القيمُ في مستقبلِ حياتِهم نهجًا مستقيمًا وإيمانًا راسخًا؛ قال الله (تبارك وتعالى): (وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْها لا نَسْئَلُكَ رِزْقاً نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعاقِبَةُ لِلتَّقْوى) (4). فالأمرُ الإلهيُّ هنا موجَّهٌ إلى الوالدِ بأن يربِّي أهلَه على العبادةِ منذ الصِّغرِ بالصَّبرِ والمداومةِ؛ لأنَّ الصَّلاةَ مفتاحُ القِيَمِ ومَدرَسةُ الطَّاعةِ للهِ (سبحانه).
وعن الإمامين الباقرِ والصَّادقِ (عليهما السلام) ورد توجيهٌ تربويٌّ بالغُ الدقَّةِ في مراحِلِ تعليمِ الطِّفلِ أصولَ الإيمانِ خطوةً بخطوةٍ، قالا: "إذا بَلَغ َالغُلامُ ثَلاثَ سِنينَ، يُقالُ لَهُ: قُل لا إلهَ إلَّا اللَّه سَبْعَ مَرّاتٍ. ثُمَّ يُترَكُ حَتَّى يَتِمَّ لَهُ ثَلاثُ سِنينَ وسَبعَةُ أشهُرٍ وعِشرونَ يَومًا، فَيُقالُ لَهُ: قُل: (مُحَمَّدٌ رَسولُ اللَّهِ) سَبعَ مَرّاتٍ. ويُترَكُ حَتّى يَتِمَّ لَهُ أربَعُ سِنينَ، ثُمَّ يُقالُ لَهُ قُل: سَبعَ مَرّاتٍ: (صَلَّى اللَّهُ عَلى مُحَمَّدٍ وآلِهِ). ثُمَّ يُترَكُ حَتَّى يَتِمَّ لَهُ خَمسُ سِنينَ، ثُمَّ يُقالُ لَهُ: أيُّهُما يَمينُكَ وأيَّهُما شِمالُكَ؟
فَإِذا عَرَفَ ذلِكَ حُوِّلَ وَجهُهُ إلى القِبلَةِ ويُقالُ لَهُ: أسجُد. ثُمَّ يُترَكُ حَتَّى يَتِمَّ لَهُ سَبعُ سِنينَ، فَإِذا تَمَّ لَهُ سَبعُ سِنينَ قيلَ لَهُ: اغسِل وَجهَكَ وكَفَّيكَ، فَإِذا غَسَلَهُما قيلَ لَهُ: صَلِّ. ثُمَّ يُترَكُ حَتَّى يَتِمَّ لَهُ تِسعُ سِنينَ، فَإِذا تَمَّت لَهُ عُلِّمَ الوُضوءَ، وضُرِبَ (5) عَلَيهِ، وامِرَ بِالصَّلاةِ، وضُرِبَ عَلَيها. فَإِذا تَعَلَّمَ الوُضوءَ وَالصَّلاةَ غَفَرَ اللَّهُ (عزَّ وجلَّ) لَهُ ولِوَالِدَيهِ إن شاءَ اللَّهُ" (6).
إنَّ هذا النَّصَّ المباركَ يرسمُ منهجًا تربويًّا متدرّجًا يُظهِرُ عمقَ نظرِ الإسلامِ في تربيةِ الطِّفلِ على الإيمانِ، ويُبيِّنُ أنَّ القيمَ تُزرَعُ برفقٍ وتُسقى بالقدوةِ والممارسةِ حتَّى تُصبحَ جزءًا من كيانِ الطِّفلِ وسجيّتِه.
العامل الثَّالث: أصدقاء السُّوء.
تأثير الأصدقاء أحد العوامل النَّفسيَّة والاجتماعيَّة المهمَّة التي قد تدفع الطِّفل إلى التَّوجّهات الخاطئة؛ فالصَّديق السَّيء يمثِّل قوَّة تأثير كبيرة على قرارات الطِّفل وتصرفاته؛ إذ يمكنه تشكيل أطباعه، ودفعه لتقليد أو الانجراف وراء تصرفات غير لائقة.
وقد وردت نصوص شريفة كثيرة تحثّ على اجتناب صديق السُّوء، لما له من أثرٍ بالغٍ في انحراف عن الصِّراط المستقيم؛ قال الله (تبارك وتعالى): (يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا* لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنسَانِ خَذُولًا) (7). مؤكِّدا إلى أن صحبة الأشرار قد تكون سببًا في الضَّلال بعد الهداية. كما ورد عن الإمام الصادق (عليه السلام) في موعظته لأحد أصحابه واسمه سفيان قوله: "من أرادَ عِزّاً بِلا سُلطانٍ وكَثرَةً بِلا إخوانٍ وهَيبَةً بِلا مالٍ فلْيَنتَقِلْ مِن ذُلِّ مَعاصي اللَّهِ إلى عِزِّ طاعَتِهِ.
ثُمّ أمسَكَ (عليه السلام) فقُلتُ: يا بنَ بِنتِ رسولِ اللَّهِ، زِدْني! فقالَ (عليه السلام): يا سُفيانُ، أدَّبَني أبي (عليه السلام) بثَلاثٍ ونَهاني عَن ثَلاثٍ: فأمّا اللَّواتي أدَّبَني بهِنَّ فإنَّهُ قالَ لي: يا بُنَيَّ، مَن يَصحَبْ صاحِبَ السَّوءِ لا يَسلَمْ، ومَن لا يُقَيِّدْ ألفاظَهُ يَندَمْ، ومَن يَدخُلْ مَداخِلَ السَّوءِ يُتَّهَمْ. قلتُ: يا بنَ بِنتِ رسولِ اللَّهِ، فما الثَّلاثُ اللَّواتي نَهاكَ عَنهُنَّ؟
قالَ (عليه السلام): نَهاني أن اصاحِبَ حاسِدَ نِعمَةٍ، وشامِتًا بمُصيبَةٍ، أو حامِلَ نَميمَةٍ" (8).
وتكشف هذه النُّصوص أنَّ البيئة الاجتماعيَّة التي ينشأ فيها الطِّفل عامل حاسم في تشكيل شخصيته؛ فالصَّديق في مرحلة الطُّفولة قد يصبح نموذجًا يقتدي به الطِّفل في بناء مفاهيمه عن الصَّواب والخطأ. وكما يُقال: "أرِني صديقك، أقول لك من تكون"، في إشارةٍ إلى أنَّ الصَّداقة مرآةٌ للذَّات ومؤشّرٌ على توجّهات الشَّخص.
وعليه، فإنَّ إحاطة الطِّفل بأصدقاء ذوي مسارات منفلتة، تزيد من احتمالية تأثُّره بتلك الأنماط، وقد تدفعه إلى ممارساتٍ خاطئة من دون وعيٍ بخطورة أفعاله. وبذلك يتبيَّن أنَّ دور الرفقة في صناعة الطِّفل لا يقلّ أهميَّة عن دور الأسرة، وأنَّه امتداد طبيعي للبيئة التَّربويَّة التي تصوغ شخصيته في مراحل بناءه المختلفة.
العامل الرَّابع: الدَّلال المفرط.
يتسبب الدَّلال المفرط للطِّفل في تنشئة تصور مشوه للحياة، حيث يربط الطِّفل حياته بالكامل بالحقِّ في الأخذ والامتلاك من دون إدراك متوازن لفكرة العطاء والتَّبادل. وهذا التَّمركز المفرط حول الذَّات يغرس لديه فكرة أنَّ الحياة تقتصر على الاستحواذ والتَّملك الشَّخصي، ممَّا يقلل من القدرة على التَّعاطف واحترام حقوق الآخرين.
فغياب الوعي بأنَّ الحياة تتضمن توازنًا بين الأخذ والعطاء ينتهي إلى نشوء شخصيَّة أنانية تميل إلى المطالبة المستمرة بالحقوق من دون مراعاة الواجبات، ممَّا يجعلها أكثر عرضة للرَّذائل، التي قد تُنظر إليها بوصفها وسيلة مشروعة لتلبية رغبات الذَّات من دون اعتبار لحقوق الآخرين.
ولهذا السَّبب، من الضَّروري دعم مفهوم التَّوازن بين الأخذ والعطاء منذ الصِّغر، وغرس قيم المشاركة والكرم في نفس الطِّفل، ليكون قادرًا على فهم الحياة بوصفها عمليَّة متبادلة تستند إلى احترام الذَّات والآخرين على حدٍّ سواء.
المحور الثَّالث: علاج السَّرقة.
تبدأ معالجة التَّصرّف غير السَّوي قبل أن يولد، بتربيةٍ وقائية تغرس في الطِّفل وازع الضَّمير واحترام الحقوق، فإذا زلَّت القدم ووقع الخطأ، كان العلاج الإصلاحي نورًا يعيد للقلب توازنه، وللنَّفس طهارتها، وللمجتمع أمنه وسلامه.
القسم الأوَّل: العلاج الوقائي (التَّحصين من السَّرقة قبل وقوعها).
ويهدف إلى بناء وعي أخلاقي سَليم في الطِّفل قبل ارتكاب ظاهرة السَّرقة، ويتضمَّن:
أوَّلًا: تعليم الطِّفل أصول الملكية واحترام حقوق الآخرين.
يمثِّل تعليم الطِّفل منذ الصِّغر مبادئ الملكية وضرورة احترام ممتلكات الآخرين حجر الزَّاوية في الوقاية من مخاطر الاستيلاء بغير حق؛ إذ يجب توضيح خطر التَّعدي على حقوق الآخرين وشرح أنَّ لكلِّ فرد حقًا مقدَّسًا في ممتلكاته، لا يجوز لأحد أن ينتهكها. ويمكن دعم هذا المفهوم عبر تقديم دروس عمليَّة في المنزل، مثل احترام ممتلكات الطِّفل وعدم العبث بها أو استخدامها من دون إذنه، ممَّا ينشئ لديه قناعة راسخة بأهميَّة احترام حقوق الآخرين وممتلكاتهم.
وقد تجلَّى هذا المفهوم في حياة النَّبي محمَّد (صلَّى الله عليه وآله) وهو في سن مبكرة؛ حيث كان يعبِّر عن شعوره بالظُّلم لوجوده في الظلِّ بينما يعمل إخوته تحت الشَّمس الحارقة. فقد روي: "لما صار-النَّبيُّ محمَّد (صلَّى الله عليه وآله) - ابن سبع سنين قال لأمِّه حليمة: يا أمي أين إخوتي؟
قالت: يا بني إنَّهم يرعونَ الغنم التي رزقنا الله إيَّاها ببركتك.
قال: يا أمَّاه ما أنصفتني.
قالت: كيف ذلك يا ولدي؟
قال: أكون أنا في الظلِّ وإخوتي في الشَّمس والحر الشَّديد، وأنا أشرب منها اللبن.
قالت: يا بني أخشى عليك من الحساد، وأخاف أن يطرقك طارق، فيطلبني بك جدك..." (9)
لقد كان الرَّسول الأكرم (صلَّى الله عليه وآله)، ومنذ أن كان في السَّابعة من عمره، يُظهر وعيًا مبكرًا بمبدأ الإنصاف، حتَّى إنَّه كان يتحاور حوله مع مُرضعته ضمن نطاق الأسرة الصَّغير. ومع تقدُّمه في السن، لم يبقَ هذا المفهوم حبيس حدود البيت، ووسَّعه ليشمل المجتمع المكي بأسره. وعندما بلغ أشدَّه، شارك (صلَّى الله عليه وآله) في تحالفٍ مع نخبةٍ من كبار رجالات العرب، عُرف بـ(حلف الفضول) (10)، والذي كان غايته نصرة المظلوم وتحقيق العدالة الاجتماعيَّة.
فكما تُزرع في الطِّفل بذور احترام الملكية والحقوق منذ الصِّغر، تُثمر مجتمعات عادلة تحترم حقوق الإنسان وتُنبذ الظُّلم. ومن هذا المنطلق، تظل أمانة الأهل والمربين كبيرة في غرس هذه القيم ليكبر الطِّفل على وعي عميق بما يجب أن يكون عليه إنسانًا مسؤولًا ومحترمًا لحقوق الآخرين، حاملًا شعلة العدالة في مجتمعه.
ثانيًا: تلبية حاجات الطِّفل الأساسيَّة بما يتناسب مع قدرته.
يمثِّل فهم وتلبية حاجات الطِّفل الضروريَّة ركيزة جوهريَّة لضمان نموه النَّفسي والجسدي السَّليم؛ ذلك أنَّ الطِّفل الذي يعاني من الجوع أو الحرمان يعجز عن كبح رغبته في تلبية هذه الحاجة، وقد يدفعه ذلك إلى ممارسات خارجة عن المألوف لتلبية نقصه. فالأطفال، كما هو الحال مع البالغين، يحتاجون إلى تلبية حاجاتهم بصورة مناسبة وفي الوقت المناسب، بما يضمن لهم شعورًا بالرَّاحة والاطمئنان. وإهمال هذه الحاجات يؤدِّي إلى تراكم التَّوتر والقلق داخل نفس الطِّفل، ممَّا ينعكس سلبًا على قدرته على التَّكيف مع المحيط الاجتماعي والأسري. لذا، من الضَّروري أن تُراعى قدرة الطِّفل على التَّعبير عن احتياجاته وأن يتم الاستجابة لها بحكمة وصبر، حتَّى يشعر بالأمان والاهتمام المستمر.
ثالثًا: إبعاد الطِّفل عن المؤثرات السلبيَّة واستثمار المواقف التربويَّة.
تشكِّل الوسائط الإعلاميَّة التي تمجِّد الجريمة أو تصور السَّارق بطلًا عوامل محفزة لانزلاق الطِّفل نحو الاستحواذ غير المسموح به. وعليه ينبغي حرص الأسرة والمربين على تقليص التَّعرض لهذه المؤثِّرات -بخفض مشاهدة البرامج والأفلام التي تبرِّر أو تروّج للعنف أو السَّرقة- ومن جهة أخرى استثمار المشاهد المتاحة كفرص تعليميَّة. ومثال ذلك: عند مشاهدة مشهد يمجِّد السَّارق مثلًا، لا يكفي المنع، وإنَّما ينبغي التَّعليق التَّربوي الهادف لشرح دناءة الفعل، والعواقب القانونيَّة والاجتماعيَّة له، وإبراز النَّتائج الهدَّامة على حياة الفرد. وبهذا المزيج من الحماية والإرشاد يتحصَّن الطِّفل من التَّأثيرات الخارجيَّة ويُقدَّم له إطار نقدي يميِّز بين التَّرفيه والأخلاق، ويصرفه عن تخيُّل السَّرقة سلوكًا مشروعًا أو مظهرًا من مظاهر الشَّجاعة والتَّميُّز.
رابعًا: حفظ الأموال عن مرأى الطِّفل وتهيئة بيئة آمنة للممتلكات.
وضع النُّقود أو الأشياء القيّمة في متناول أو أمام نظر الأطفال قد يهيّئ حالات اندفاعيَّة تؤدِّي إلى الاستيلاء غير المشروع عليها، خاصَّة عند الأطفال الصِّغار الذين يتحكَّم في حركتهم الدَّافع اللحظي أكثر من القدرة على السَّيطرة والتَّفكير بالعواقب؛ لذلك من الضَّروري إبعاد الأموال والمقتنيات الثَّمينة عن أنظارهم وإحكام حفظها في أماكن مغلقة أو خارجة عن متناول اليد، مع إتاحة مواقف تعليميَّة مبسطة تفسِّر سبب حفظها وضرورة احترام حقِّ الملكيَّة.
إلى جانب ذلك، الأفضل استثمار هذه الإجراءات لتعليم الطِّفل ضبط النَّفس والسَّيطرة على الرَّغبات، من خلال وضع قاعدة منزليَّة واضحة تمنعه من لمس الأموال من دون إذن، مع تقديم مكافأة عند التزامه بها. وهذا الأسلوب يُنمِّي وعي الطِّفل بمفهوم الملكية واحترام الحدود، ويقلل من احتمالية انجرافه نحو عادات منحرفة.
خامسًا: ترسيخ القدوة الصَّالحة.
تُعدُّ القدوة العمليَّة التي يقدِّمها الوالدان العامل الأهم في تثبيت قيم الأمانة واحترام حقوق الآخرين لدى الطِّفل؛ إذ يُدرك الطِّفل أنَّ التَّعامل التي يراه يوميًّا في محيطه الأسري يشكِّل المعيار الذي يُقتدى به، وأن الوالدينِ هما النموذجانِ الأوَّليانِ اللذانِ يؤثِّرانِ في تكوين شخصيته.
وإزاء ذلك، ينبغي على الوالدين أن يجسِّدا قيم النَّزاهة والصِّدق والاحترام في تعاملاتهما اليوميَّة داخل الأسرة وخارجها، لتتحوَّل هذه القيم إلى أسلوب حياةٍ ينعكس على الأبناء واقعيًّا يقتدون به. فالتربيَّة بالأفعال أبلغُ أثرًا من التربيَّة بالأقوال، ومن خلال هذا التَّفاعل العملي المستمر، يكتسب الطِّفل وعيًا أخلاقيًا راسخًا يجنِّبه ويُبعِده عن مظاهر التَّعدي وأخذ ما لا يخصه.
وقد أشار اللهُ (تبارك وتعالى) إلى هذا المبدأ حين مدح خُلُقَ أنبيائِه (عليهم السلام)، مُبرزًا أنَّ القدوةَ تبدأ من البيت قبل المجتمع، فقال (عزَّ من قائل): (وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَّبِيًّا * وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِندَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا) (11).
فهذا الثَّناء الإلهي على النَّبي إسماعيلَ (عليه السلام) لا يقتصر على نبوّته ورسالته، ويشمل دوره الأسريّ والتربويّ؛ إذ جعله اللهُ (تعالى) نموذجًا للقدوة التي تبدأ من داخل البيت، تُحيي العبادةَ في أهله، وتغرس فيهم روح الطَّاعة والإخلاص. وهكذا تظهر عظمة القائد حين يكون قدوةً في بيته قبل أن يكون قدوةً في أمَّته.
القسم الثَّاني: العلاج الإصلاحي (التَّعامل مع حالات السَّرقة بعد وقوعها).
ويهدف إلى معالجة الموقف غير السويّ، وإعادة بناء الثِّقة في الطِّفل بعد الخطأ، ويتضمَّن:
أوَّلًا: تجنب استخدام الصُّراخ والضَّرب وفضح الطِّفل أمام الآخرين.
من الأساليب غير المجدية في التَّعامل مع مثل هذه التَّصرفات، اللجوء إلى العقاب القاسي؛ مثل الصُّراخ، والضَّرب، وفضح الطِّفل السَّارق أمام أصدقائه، وقد تنتهي إلى تفاقم المشكلة بدلًا من الحدِّ منها؛ لأنَّ هذه الأساليب تتسبب في شعور الطِّفل بالخجل، والضِّيق، والاحتقار، ممَّا يزيد من تمسكه بالأسلوب السَّلبي بوصفه ردَّ فعل على التَّوتر والضَّغط النَّفسي.
وبدلًا من ذلك، يتطلَّب التَّعامل مع الطِّفل الذي يتجاوز الحدود في ممتلكات الآخرين منهجًا هادئًا ومتَّزنًا يرتكز على الحوار الهادئ، وفهم دوافع الطِّفل النَّفسيَّة والاجتماعيَّة، وتقديم الدَّعم الإيجابي له. وهذه الطَّريقة تزيد الثقة بين الطِّفل والمربي، وتشجعه على الاعتراف بأخطائه وتحمُّل العواقب، ممَّا يسهل عمليَّة التَّعديل بطريقة بناءة.
ثانيًا: تفنيد الاعتقاد بأنَّ السَّرقة دليل فشل الطِّفل أو مصيبة حتميَّة.
من الخطأ اعتبار السَّرقة التي يرتكبها الطِّفل بمثابة مصيبة لا تُحتمل أو دليلًا قاطعًا على فشله الشَّخصي أو الأسري. وعلى الرَّغم من خطورة هذا التَّصرُّف، إلَّا أنَّ فهم أسباب حدوثه يكشف غالبًا عن جذور متعلِّقة بالبيئة الأسريَّة، مثل إهمال تلبية حاجات الطِّفل الأساسية، أو عدم توفير الرِّعاية والاهتمام الكافي، أو حرمانه من مصروفه اليومي. وهنا يُفترض أن تُفهم على أنَّها مؤشِّر على خلل أو نقص في الدَّعم النَّفسي والاجتماعي الذي يتلقاه الطِّفل، لا باعتبارها عارًا أو نهاية الطَّريق.
ثالثًا: استعادة الثقة بعد وقوع السَّرقات.
استعادة الثِّقة بين الطِّفل وأسرته أمر لا غنى عنه بعد وقوع حادثة السَّرقة، فهي تمثِّل الأساس الذي يقوم عليه نجاح عملية الإصلاح والتَّوجيه. وفقدان الثِّقة بشكل كامل ينتهي إلى تفاقم المشكلة، ويزيد من عزلة الطِّفل وانسحابه، ما قد يدفعه إلى المزيد من الانحرافات. ولهذا نأمل أن يكون التَّعامل مع الطِّفل مبنيًّا على مبدأ الثِّقة المتجددة، حيث يُمنح فرصة للإصلاح والتَّعلم من الخطأ من دون إقصاء أو حكم مسبق. وهذا النهج يشجعه على تبني عادات سليمة، ويخلق بيئة داعمة تساعده على النُّضج النَّفسي والاجتماعي المثالي.
رابعًا: متابعة ومراقبة الطِّفل بحرص متوازن.
المتابعة والمراقبة من الرَّكائز المحوريَّة في توجيه الطِّفل نحو كلِّ خير، لا سيما لمنع انزلاقه نحو الرَّذائل والمعاصي. ومع ذلك، ينبغي أن تتم هذه المتابعة بشكل متوازن وذكي، بحيث لا تتحول إلى قيد يحد من حرية الطِّفل أو نشاطاته الطبيعيَّة، ولا تسبب له شعورًا بالضَّغط النَّفسي أو تنشئ لديه عقدًا نفسيَّة قد تضر.
فالهدف من المراقبة هو توفير بيئة آمنة وداعمة، تُشعر الطِّفل بالأمان والاهتمام من دون أن تفقده شعور الثقة والاحترام لذاته. وعليه، فإنَّ الحكمة في تفعيل هذا الدَّور التربوي تكمن في احترام خصوصية الطِّفل، وزيادة تواصله المفتوح مع الأسرة، ممَّا يتيح له التَّعبير عن مشاعره واحتياجاته بلا خوف أو قلق.
وفي خاتمة المطاف، تبقى السَّرقة عند الأطفال نداءً خافتًا يستغيث بطلب الحبِّ والتَّربيَّة والرِّعاية، لا التَّوبيخ والعقاب. وحين تُحاط الطُّفولة بدفء القيم، ويُغذَّى القلب بالقدوة الصَّالحة، ويُوجَّه التَّصرُّف بالحكمة والمتابعة الرَّحيمة، تزول دوافع الزَّلل من جذورها، ويكبر الطِّفل سليم الفطرة، نقيَّ الضَّمير، حاملًا في قلبه قيمة الأمانة، ومُجسِّدًا لقيم العدالة في حياته، ليغدو عنصرًا فعَّالًا في بناء مجتمع يسوده الأمان والاستقرار، ويزهر فيه الخير والإنصاف.
.........................................
الهوامش:
1. مشاكل الأطفال الأخلاقيَّة: ص47.
2. الكافي (دار الحديث): ج١١، ص449.
3. مستدرك الوسائل: ج15، ص164.
4. سورة طه/ الآية: 132 .
5. لا يجوز الضَّرب التَّأديبـي إلَّا بإذن الولي أو الحاكم الشَّرعي، ويجب أن يكون خفيفًا بحيث لا يبقى أثره، وإلَّا ففيه الدية، مقدار الدية موجود في كتاب "المسائل الإسلاميَّة" تحت عنوان "أحكام الديات". الموقع الرَّسمي لسماحة المرجع الدِّيني السيِّد صادق الحسيني الشيرازي (دام ظله) https://alshirazi.com/rflo/ajowbeh/arshif/tarbeyah.htm
6. من لا يحضره الفقيه: ج1، ص281.
7. سورة الفرقان/ الآيتان: 28-29.
8. تحف العقول: ص376 .
9. بحار الأنوار: ج١٥، ص376.
10. حلف الفضول وفيه تحالفت قبائل قريش على ألا يجدوا بمكة مظلومًا إلَّا نصروه وقاموا معه حتَّى ترد عنه مظلمته. (العصر الجاهلي: ص58 - 59).
11. سورة مريم/ الآيتان: 54-55.
