كيف لهذا الحرف أن يصهل في أعالي النحيب؟
أهو الجرح ببلاغة شاعر، بهذيان جرحه النازف في كل طف؟
والتل الزينبي صار ظلا على وجه السماء يبصر الجناة وهم يتسلقون شموخ النخل البهي ويدرك مواقيت اليقظة في كل حين، ينهض الرمل في ذاكرته مثل فيض الحنين، ليس في الشعر أخرس، تلك نبوءة وجد لا يموت.
كيف لهذا الشاعر أن يسمو شاهدا وشهيد، كيف له أن يهدأ وكربلاء بين عينيه تلهب، تلهب ولا من ناصر ولا معين؟
أعتقد أن الشاعر الحسيني يحتاج إلى ألف ألف لغة كي يقول، كي لا يمس صوته الذبول، ليحمل وجع النصرة في كل حين، ثورة الشاعر كما أراها يقين يسعى ليعيد الطف واقعا، كي يستطيع أن ينصر في كل حرف من حروف الطف الحسين...
هل الشاعر الحسيني يتوتر أكثر من غيره؟ ولا أدري أتلك محنة أم يقظة السؤال؟
****
وفاء الطويل:
- أظن أنه معك حق، لأن غيره يكتب عن حدث مضى، أما هو فالحدث بالنسبة له لم ينته بعد، فكربلاء نبض ضميره، مع كل بيت يعيش واقعة الطف من جديد، يسمع قعقعة السيوف وأنين الأطفال، ونزيف الدم، ورائحةَ الرماد.
مفرداته نصول، وقوافيه خفقات صدر يضيق بالحزن.
يعيش الواقعة بكل حيثياتها كشاهد يستدعي التاريخ ليبكي الشهادة، فكيف لا يتوتر؟
ينكسر عنده الزمن، الماضي يطل من الحاضر، وكربلاء لا تغيب.
حين يكتب "يا حسين" يرتجف الحرف بين يديه وكأنه استيقظ على صرخة طفلة من الخيام.
حقيقة الشاعر الحسيني مبتلى بدور المجاهد بين يدي الحسين عليه السلام حتى آخر آجله، إن قبل حرفه نجا.
حرارة المأساة يحملها بصدره كما تحمل الطف جراحها، يطهر روحه من وجع لا يحتمل إلا بالبوح،
فتوتره لحظة التماس بين الكلمة والدم، بين الوزن والشهادة، بين القصيدة وقطع الرؤوس، هكذا هو يتنفس كربلاء التي تعيش فيه ويعيش فيها.
"شغفٌ في ذات الحسين"
شَـوقًا فَشَوقًا أَرْهَقَ النَّبَضَاتِ
وَأَنَا هُنَاكَ أَسِيرُ سَيرًا
أَحْسُبُ الخَطَوَاتِ
بَينَ التَّفَكُّرِ
وَارْتِقَابِ الإِذْنِ يَكْبُرُ فِي دَمِي
حُبٌّ يُوَطِّدُهُ يَقِينُ قَنَاعَتِي..
تَتَقَوَّسُ اللَّحَظَاتُ فِيَّ وَيَسْتَدِيرُ ثَبَاتِي
"جَونٌ" أنَا..
كَمْ أَعْشَقُ الذَّوَبَانَ فِي ذَاتِ الحُسَينِ
وَكَمْ شُغِفْتُ بِحُبِّهِ وَالحُبُّ لِي فَرْضٌ كَمَا الصَّلَوَاتِ
وَلَعِشْقُ جَونٍ لَا حُدُودَ لَهُ
وَدُونَ النَّزْفِ لَا لَا أَرْتَضِي
فَلْيَعْرِفِ الثَّقَلَانِ بَعْضَ صِفَاتِي
"نُوحٌ" وَحَدُّ السَّيفِ كَانَ سَفِينَتِي
وَالجَيشُ طُوفَانٌ بِشَطِّ فُرَاتِ
وَالنَّحْرُ تَنُّورٌ
وَمَنْ نَصَرَ الحُسَينَ بِنَفْسِهِ
قَبَضَتْ يَدَاهُ بِحَرْفِ حَبْلِ نَجَاةِ
شَـوقًا فَشَوقًا أَقْطَعُ
العُمْرَ ارْتِحَالًا لِلسَّمَا
وَأَنَا عَلَی ظَمَأٍ أُقَدِّمُ مُهْجَتِي
أَحْمِيهِ مِنْ بَأْسِ الطُّغَاةِ
الآنَ أَصْبَغُ ذَا السَّوَادَ بِنُورِهِ
جَـفَّ اصْطِبَارِي..
أَقُولُهَا عَلَنًا بِمِلْءِ فَمِي
عَلَى مَلَإٍ مِنَ الجَيشِ الغَفِيرِ
أُقَابِلُ الطَّعَنَاتِ
وَتَحَدَّثَتْ لُغَـةُ الفِدَاءِ
فَكَمَّـمَتْ بِفَرُوهَةٍ لُغَةَ العِدَاةِ
وَبَقِيتُ بُركَانًا أَثُورُ بِحُبِّهِ
لَا مَوتَ يَجْرُؤُ أَنْ يَقُضَّ حَيَاتِي
