كيف نظر الامام إبن حنبل الى الخلافة السياسية؟

 
في صبيحة الأربعاء من يوم الثالث عشر من آب أغسطس من عام 1980م، كان الضغط النفسي والشد العصبي على أوجه، فقد كنت على موعد حاسم للخروج من مسقط رأسي كربلاء المقدسة كخروج موسى من مصر خائفاً يترقب، وحيث هاجر الكليم إلى مدين كانت هجرتي إلى دمشق، وبعد شهر من التنقل الخفي بين بغداد وكربلاء في أحد عشر منزلاً بعيداً عن أعين رجال الأمن الذين كانوا يلاحقونني بتهمة العمل السياسي المعارض، كان ضمن الخطة المرسومة للخروج عبر حافلة نقل ركاب تنطلق من كربلاء إلى دمشق هو أن ألتحق بالحافلة من مدينة المسيب جنوب العاصمة بغداد، وكنت في صبيحة ذلك اليوم الحاسم بانتظار أن يأتي عليَّ الحاج قاسم الدباغ الأسدي بدراجة نارية يأخذني إلى مدينة المسيب بعيداً عن الطريق العام ونقاط التفتيش، في ليلة ذلك اليوم لم أنم وكلما اقتربت ساعة الحسم كان القلق يزداد لأن الخروج ليس رسمياً ولا أملك جواز سفر ولا تصريح سفر وأنا مطلوب لدائرة الأمن.
 وقبل أن يأتي الدباغ ليأخذني إلى حيث المصير المجهول زاد اقترابي من رب الخلائق واستخرته بالقرآن وقلت في نفسي إن جاءت الخيرة حسنة فأمضي إلى حيث لا أعلم بما يؤول إليه السفر الخفي، وإلا أبقى اتنقل هنا وهناك داخل سجن الوطن حتى يقضي الله أمراً كان مفعولا، ولما هدأ روعي وفتحت القرآن جاء قوله تعالى في الآية 89 من سورة يونس: (قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا وَلا تَتَّبِعَانِ سَبِيلَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ)، عندها نزلت الآية على قلبي نزول الماء البارد على صدر الصادي في يوم قائظ، فموسى وهارون عليهما السلام اثنان والخزرجي والدباغ اثنان، فجاءت الخيرة كأنها خارطة طريق لمن غامت عليه الأمور وهي كذلك حتى يحط قراره في مقصده الآمن.
ساعات تمضي وأنا جالس في المقاعد الخلفية للحافلة بين زائرين قادمين من دول الخليج اتخذوا العراق محطة لزيارة سوريا وما فيها من مراقد لأهل البيت عليهم السلام، وحيث حانت ساعة تناول الطعام وقف سائق الحافلة الفقيد الحاج مهدي الشاصي عند أشكاك متناثرة على الطريق تبيع الطعام والمشروبات، نزل الجميع وافترشوا الأرض على قارعة الطريق أكثرهم كان قد جلب معه طعامه والبعض الآخر اشترى من حيث نزلنا، وبقيت وحدى أمشي على مهل وأنا أتصفح صحراء الرمادي وما يمكن أن يحصل لي عند معبر الرطبة الذي يربط العراق بسوريا، في هذه الأثناء نادى عليَّ سائق حافلتنا وسألني عن عدم جلوسي معهم لتناول الطعام، فقلت والخجل يلفني وقد استعرت وجنتاي احمراراً: في الواقع لا أملك ثمن الطعام، ففتح فاه متعجباً ودعاني لمشاركته الطعام، فجلست على الأرض وأكلت مما كان يأكل، وألقى علي في الأثناء بعض الكلمات زيادة في جلب الطمأنينة.
في الواقع هانت علي نفسي أني لا أملك ثمن وجبة طعام، في حين كان ينتظر سائق حافلتنا أن أسلمه عند الوصول في حي السيدة زينب بريف دمشق (80) ديناراً هو ثمن تهريبي من العراق، وهو ثمن يعادل في ذلك اليوم متوسط راتب موظف حكومي لشهرين، وهانت علي أكثر لأن أحد أرحامي القريب مني قرب الخنصر من الوسطى ضرب على صدره يداً بتحمل ثمن تهريبي وفوقها سيقدم لي ألف دينار خالصة حتى أتولى أمري في دار الغربة والهجرة، لكنه في اللحظات الأخيرة تخلى عن وعده وتنكب، فلا رأيت الثمانين ديناراً ولا الألف دينار ودخلت فجر اليوم التالي سوريا بعد معاناة وحبس أنفاس وفي جيبي أقل من دينار لم استطع به توفير وجبة طعام!
تداعت في ذهني هذه الذكرى المعجونة بماء الأمل وعلقم الألم، وأنا أتصفح الجزء الثاني من كتاب "الأمالي في الجمع الغوالي" للفقيه آية الله الشيخ محمد صادق الكرباسي الصادر حديثا (2025م) في بيروت عن بيت العلم للنابهين في 328 صفحة من القطع الوزيري، وفيه يتحدث المؤلف عن الهجرة النبوية الشريفة.
 
وتتواصل الجُمَع الغوالي
لدى كل مجتمع بشري أعراف وعادات يستحسنها الذوق الشفيف بعضاً أو كلاً، فمن ذلك اجتماع أبناء الأسرة الواحدة في بيت الأب أو الجد كل يوم جمعة لدى المسلمين أو حسب يوم العطلة الأسبوعية لدى المجتمعات الأخرى، وهذا اللقاء وفيه يلتقي الأبناء والأحفاد بالوالدين أو بهما وبالجد والجدة يشد من لحمة الأسرة وهو موعد جميل لبث الهموم والغموم ومشاغل الحياة ومتاعبها والعمل ما أمكن بالمشورة والمساعدة على رفعها معاً، فهو لقاء محبة وعمل معاً.
وكتاب "الأمالي في الجمع الغوالي" هو صورة أخرى من صور بيت الوالد أو بيت الجد، ولكن بين المؤلف وجمع من الذين يرتادون مجلسه يوم الجمعة من جاليات إسلامية مختلفة حطت رحالها في لندن يستأنسون بحديثه المتنوع، وحيث يكون الحديث في لقاء الجمعة مقتضباً، ففي الكتاب تفاصيل تجمع بين التاريخ والحاضر، وما بين الجمعة إلى الجمعة من وقائع الأيام في غابر الأزمان لها تأثيرها المستدام على واقعنا المعاش.
وحيث أملى المؤلف في الجزء الأول من أحاديثه أربعة أسابيع بإضافة أسبوع البداية، من مجموعة 52 أسبوعاً حسب التقوم الهجري، فإن أماليه في الجزء الثاني استوعبت وقائع خمسة أسابيع أخرى وهي على النحو التالي:
* الأسبوع الخامس: في "أسس الحرب الداخلية .. صفين نموذجاً" وكان الحديث مفصلاً بمناسبة ذكرى معركة صفين سنة 37 للهجرة.
* الأسبوع السادس: في "هل الإمام الحسن عليه السلام مزواج مطلاق؟"، وحديث شيق في ردِّ التهمة الأموية بمناسبة ذكرى رحيل سيد شباب أهل الجنة الحسن المجتبى عليه السلام في 7 صفر عام 50 للهجرة.
* الأسبوع السابع: في "الأربعين ومردِّ الرأس الشريف"، وحديث تاريخي استدلالي حول إعادة رأس الإمام الحسين عليه السلام من دمشق إلى كربلاء في العشرين من صفر عام 61هـ أي بعد مرور أربعين يوماً من استشهاده في العاشر من محرم الحرام.
* الأسبوع الثامن: في "وصايا الرسول"، وذلك في ذكرى رحيله صلى الله عليه وآله وسلم في 28 صفر عام 11 للهجرة.
* الأسبوع التاسع: في "الهجرة النبوية"، وحديث مفصل عن ذكرى هجرة الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلَّم من مكة المكرمة إلى المدينة المنورة في 12 ربيع الأول من السنة الأولى للهجرة.
لقد تصدَّر الكتاب بمقدمة تعريفية بقلم الأديب اللبناني الأستاذ عبد الحسن راشد دهيني تحت عنوان "مقدمة الناشر"، وتقديم بقلم الدكتور زهير عبد الستار أولياء بك المولود في مدينة كربلاء المقدسة بالعراق تحت عنوان "حديث الجُمعات النافع".
وإذا كان الأديب دهيني قد أفادنا في المقدمة عن خصوصية يوم الجمعة وفضله: (لأن في اللقاء توادد وتحابب واجتماع للقلوب وتفقد لأحوال الإخوان والأصدقاء أولاً، واستفادة من ما يطرح فيه من أفكار ومعلومات ثانيا، ناهيك عن الأجر والثواب والمحصَّلين من قراءة الأدعية والأذكار ثالثا) في هذا اليوم الذي جعله الله للمسلمين عيدا، فإن الدكتور أولياء بك قال في تقديمه ومن وحي التجربة والمعايشة بوصفه من رواد مجلس الفقيه الكرباسي في المركز الحسيني للدراسات بلندن صباح كل جمعة: (إن الأمالي في واقها تغطي مواضيع في جميع مناحي العلوم والحوادث اليومية، من قبيل المثال لا الحصر، تفسير القرآن وعلوم الحديث والتاريخ والشريعة والقانون والسياسة والشعر والأدب والعلوم الطبيعية والعلوم الاجتماعية وغيرها).
 
من الحديث المتجدد
ما زال البعض ونحن في منتصف القرن الخامس عشر الهجري يخوض في موضوعات التاريخ والاجتماع والعقيدة والفقه وعلم الكلام والحديث والرجال وغيرها، ولهم في كل منتدى واجتماع جمعة غالية أو يوم مقدس، وبين خوض وخوض خوضٌ فيه منفعة معرفية وأخرى عقدية، وثالثة لا تغني ولا تسمن، ورابعة بين وبين، وخامسة وسادسة وهلمَّ جرا، وهكذا تجري الأمور، والمؤلف في الأسبوع الخامس من أماليه وهو يحدثنا عن معركة صفين وقد امتنع والي دمشق معاوية بن أبي سفيان الأموي عن الامتثال لبيعة المسلمين للإمام علي والانقلاب على ما أجمع عليه الصحابة في المدينة المنورة، يتناول مسألة الخلافة السياسية وما يتعلق بها ويتعرض الى المعارضة والصراع الداخلي.
ولاشك أن حديث الخلافة والعهد الراشدي قائم متجدد، فالواقع السياسي يحصر الخلافة الراشدة في أبي بكر وعمر وعثمان وعلي والحسن، والمحبون لعلي يرونه الأول نصاً وإن جاء تسلسه رابعاً زمناً، وبين محب ومبغض أراد البعض ان يجعل من الخلافة السياسية قبان الولاء والبراء، ولكن الواقع أكبر مما يذهب اليه المحبون وعميت عليه قلوب المبغضين، وهنا يحدثنا التاريخ الإسلامي أنه في القرن الثالث الهجري احتدم النقاش في بغداد عاصمة الدولة العباسية في مجلس الإمام أحمد بن حنبل (164- 241هــ) بين مجموعة من أهل بغداد من مذاهب مختلفة عن عموم الخلافة الإسلامية وخصوص خلافة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام، ويفيدنا ابن الجوزي في كتابه: المنتظم في تاريخ الملوك والأمم: 5/61 عن عبد الله بن حنبل نجل الإمام إبن حنبل: كنت بين يدي أبي جالساً ذات يوم فجاءت طائفة من الكرخية فذكروا خلافة أبي بكر وخلافة عمر وخلافة عثمان فأكثروا وذكروا خلافة علي بن أبي طالب فزادوا وأطالوا، فرفع أبي رأسه إليهم فقال: "يا هؤلاء قد أكثرتم القول في علي والخلافة، إنَّ الخلافة لا تزيِّنُ عليًّا بل عليٌّ يزيِّنُها". ويضيف إبن الجوزي: وكان الإمام أحمد يقول: ما لأحد من الصحابة من الفضائل بالأسانيد الصحاح ما لعلي رضي الله عنه، وقال: من لم يثبت الإمامة لعلي فهو أضل من حمار أهله.
وسُئل الإمام ابن حنبل كما يفيدنا إبن الجوزي: هل خلافة علي ثابتة؟ فقال: سبحان الله يقيم على الحدود ويقطع ويأخذ الصدقة ويقسمها بلا حق وجب له، أعوذ بالله من هذه المقالة، نعم هو خليفة رضيه أصحابُ رسول الله، وصلّوا خلفه، وغزوا معه، وجاهدوا، وحجوا، وكانوا يد الله.
ويواصل المؤلف في الأسبوع السادس حديثه بعد بيان وقائع الأسبوع عن: الإمام الحسن عليه السلام في نقاط، وزواج الإمام الحسن (ع)، وزوجات الإمام المجتبى (ع).
وفي الأسبوع السابع يتقصى: التحقيق في رجوع أهل البيت إلى كربلاء.
وفي الأسبوع الثامن يبحث في نقاط عن: سيرة الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلَّم، مرض النبي (ص) ووصاياه، الاجتماع بالمهاجرين والأنصار، حزن علي، زيارات فردية، أربع قبل الرحيل، ثلاث قبل الرحيل، يومان قبل الرحيل، يوم قبل الرحيل، والليلة الأخيرة.
وفي الأسبوع الأخير من الأمالي يحدثنا الكرباسي عن: الهجرة واللجوء، والهجرة النبوية.
وحيث جمع المؤلف في أماليه بين النثر والشعر، فإنه وعلى غرار الجزء الأول صدَّر الثاني بتخميسة يقول فيها:
مِن جمعة نجري إلى أخرى بِجِدْ
نلقي بها تأريخنا فيما سَبَقْ
ندلي بما فيه جديداً مُتَّسَقْ
تحليلُ امرٍ واقعٍ فيما سَمَقْ
حلاًّ له فيما إذا حلاًّ نَجِدْ
ويختتم كل أسبوع بقصيدة من سنخ ما فصَّل فيه أو أوجزه، يفتح كل بيت بابه على ما جرى في التاريخ القديم، والحديث وفق وقائع الأيام والسنين.
فمن ثنايا حرب صفين و"الصراع الداخلي" هو عنوان قصيدة الأسبوع الخامس يقول في المطلع:
أُصيبت أمة الإسلام في حربِ ... أرادوها لنقض الدين في الصُّلبِ
ومن ثنايا "الحرب الإعلامية" وهو عنوان قصيدة الأسبوع السادس، جاء في المطلع:
سارَ سبط المصطفى في تهمة لم تَقَعْ ... إنه أزكى من الذي قد لَمَعْ
ومن سارية "انتفاضة الرأس" الشريف للإمام الحسين عليه السلام وهو عنوان قصيدة الأسبوع السابع، يقول المؤلف:
ما ردَّةُ الرأس إلا دعوةٌ للبرى ... من ظالمٍ قد طغى في حُكمهِ في الورى
ومن منزل الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم حيث "الثُّلْمَة الكبرى" برحيله إلى الرفيق الأعلى والتنازع عنده وتجاهل وصيته، يقول المؤلف في الأسبوع الثامن في المطلع:
رحيلُ المصطفى ثُلْمَةٌ كُبرى بدَتْ يا ... بُناة الدين في ذي الدُّنى في البرايا
ومن طريق الهجرة النبوية يحدثنا المؤلف عن "انقلاب الصورة" وهو عنوان الأسبوع التاسع والأخير من ثاني الامالي، قائلا:
مِن اليُتْمِ الذي فيه العناءُ ... إلى سُلطانِ عزٍّ، ذا سناءُ
ولاشك أنَّ في حنجرة الكرباسي ومحبرته بعد الجُمَع العشر، الكثير من الأمالي الغوالي سنقرأها بإذن الله تباعاً في الأجزاء القادمة.

الامالي في الجمع الغولي ج2.jpg