أمَّةٌ تُلامِسُ شَفا الضَّياع ... المرجعيّة الرشيدة حَبل النّجاة في الملمّات ودليل الخلاص في المُعضلات

حينَ تَغيب شمس الحكمة وتخبو بارقة النباهة وينطفئ سراج الوعي، تبدأ رحلة التّيه نحو جَدَب الجّهل، وَتظمأ الأرواح في فلاة الشهوات، وتغرق سفن العقل بفعل أعاصير التفاهة والرذيلة؛ تيهٌ تَقْسُوفيه القلوب وتتردى النفوس، وتنقلب الموازين، فيُؤْتَمن الخائن، ويُخوَّن الأمين ، ويُقدّم الجاهل ويُؤخر العالم، وتستبد الصغار بمراتب الأفهام، ويعتلي الوضيع عرش الحكمة.

هنالك يكون تصفيق الجاهل وهتافه أمضى وأشد فتكًا على الفكر من الخنجر المُبطّن. إنَّ أهل الوعي لا تفتك بهم السجون بل نعيق الجهّال حينما يعتلون سدّة العلم ويرتدون عباءة الحكمة، والمبتذلون حينما يرقصون عراة على مسرح الحياء ويرفعون العار والرذيلة شعارًا في ساحات الستر والطهارة. حلكة تجتاح القلوب فتميت الأرواح ويهيم الناس على وجوههم، أجسادًا لا قبلة لهم، تتقاذفهم رياح الفلوات وهم لا يشعرون؛ يضحكون ولا يبكون؛ يرون الرذيلة فضيلة؛ مزادٌ تباع فيه أوراق الفكر بثمن بخس على أرصفة الوهم لتُشعل بها نار الشهرة المبتذلة .

الأمم التي تَهمل بوصلتها، وتلقي بزمام أمورها إلى مَن لا حِكمَة تَعصمهم ولا خِبرة ترشدهم، سيُنصب لهم عرش من ياقوت أسمه التفاهة، وسَتُرفرف فوق قصورهم رايات السفاهة، وسيعتلي الصغار عروش الكبار، وتُنحر القِيَم بسكين الحُمق، ويموت الوعي ولا بواكي له، ويُدفن الفكر في مقبرة الفقراء ولا زائر له.

حينما تُبحر سفينة الخلاص وسط عباب الحَيرة دو رُبّان، فإن النجاة تكاد تكون معدومة، وأن الحاجة إلى القائد تكون مطلبًا لا بديل عنه؛ ربّانٌ يشقّ أمواج الطَمَع بزُهده وفكره، لا يطلب الدنيا وإن طَلَبته، ولا تستميله المنافع ولا تكبّله المطامع، قائد من نور الله، يرى بنور الله، ويأخذ بأيدي الحيارى إلى جادّة النجاة.

قائد خبرناه يوم ضاقت الأرض بما رحبت، فَنَهَضَ للمواجهة وفرّ الآخرون، وصدع بفتوى الجهاد المُقدّس وخرُس المرجفون. كلمات نَطَقَت بها المرجعية أيقظت بها الأمة من غفوتها، فَخَلَعوا ثياب الخنوع وتسربلوا بأردية الجهاد. منذ ذلك اليوم، بات لزامًا على الأحرار أن لا يترددوا في قول الحق، ولا يفرّطوا بأنعم الله، ولا يخشوا أحدًا في تقديم ولاء العهد لمن جعلهم الله أنوارًا تستضيئ بهم الحيارى في دهاليز الجهل المظلمة.

إن طاعة القائد الحق نصف النجاة، وبالولاء يتم الخلاص، فالقائد بحكمته ليس فردًا، بل أُمّة، به تستعيد وعيها، وتُبصر طريقها، وتبني مستقبلها، وتخرج من ضجيج الجهل والتفاهة إلى صفاء الوعي والمهابة.   

صمتُ المرجعيّةُ الرشيدة صرخة مدوية لإعلاء الحق والكشف عن الحقيقة؛ لم تغب يومًا عن الأمة، ولم تتخلّ عن المسؤولية، لأنّها في جوهرها الأعمدة الخفيّة، ومرايا العدل وصور الصدق وتجليات الوفاء، فهي إذن ضمير لا يخون، وعين لا تنام، تسهر من أجل بناء الإنسان، لكي يعيش حرًا كريمًا.

إنّ القيادة الربانيّة، تسير بوعيها وبصيرتها على هدى من الله؛ تستنير بنور الحق لتقطع به ليل الجهل؛ إنها غيث السماء الذي يسقي الأرض التي أنهكها القحط. هم الأدلاء إلى الله. فأين الضياع والتيّه إذن حينما تتمسك الأمّة بقيادتها، وأين التشضي والتشرذم حينما يكون الجميع على قلب واحد وكلمة واحدة وخلف قائد واحد.

إن جهل الناس وغفلتهم وارتمائهم في أحضان المفسدين وإعراضهم عن الحكماء والواعين هو أسّ البلاء، وهو جوهر المحنة؛ فحينما نعير أسماعنا للجهال وقلوبنا للسرّاق، نكون قد ابتعدنا بإرادتنا عن جادة الحق وانسلخنا بمحض إرادتنا عن آدميتنا وانزلقنا بأقدامنا نحو مستنقع التّيه والضّياع. ولو أنّ أرواحنا انحازت نحو رايةِ القائد العدل، لما مزّقت خيامنا الرياح العاتية، ولا نَهبَت ثرواتنا الفئة الباغية، ولا تتحكّم فينا العقول الخاوية.

إنَّ القائد والمرشد الروحي هو ضياء للعقول التي أتعبها جهل التفاهة، وهو البوصلة في دهاليز الحيرة وعتمة الخواء في زمن الانحراف والضياع. القائد الرباني هو الشراع الذي يمنح السفينة ثباتها ويحدد وجهتها، وهو القول الفصل بين الحق والباطل، بين الحكمة والجهل، بين التفاهة والمهابة.

يا أحرار العراق، أَمْعِنُوا النّظر وتذكّروا وتدبّروا، واقرؤا الماضي بعين البصيرة، ستجدون أن نجاتكم وخلاص أجيالكم ليس بتبديل الوجوه بل ببناء الضمائر، فالحضارات لا تنهض بالحجارة بل بقائد عادل، مخلص، شجاع، وأمَّة واعية، حَمَلَت راية الحق والتفّت حوله وَسَمَعت وأطاعت عن وعي وبصيرة، وإنْ لم تفعل فأبشروا بالخراب مستحكمًا والفساد متجذرًا والجهل حاكمًا.

أنْ تكونَ مُطيعًا لقائدك لا يَعني أنْ تتخلّى عَن عقلك ووعيك، ولا أن تسير خلفه على عمى فتتبع الهوى، بل أن تحذو حذوه وأنت تحمل معه الضمير، تسير خلفه على هدى سَيرَ المُبصر لا سَيرَ الأسير؛ إنها حالة الالتحام والانصهار بين إرادة الأفراد وحكمة القائد.

لذلك على الأمة أن تفكّر قبل تهرول، وأن تختار بين الوعي وبين الانحطاط وبين النور والظلام؛ بين من يدفع بهم نحو مستنقع الرذيلة ويجعل منهم سُلّمًا لبلوغ أهوائه ورغباته وبين من يسير بهم ويهديهم سُبل النجاة. وكلّ سبيل لا يؤول إلى الله سينمحي، وكل فكر مظلّ سيختفي، ويذهب أدراج الرياح في ظلمات العدم.

قال الله تعالى: ﴿ أَفَمَن يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ أَمَّن لَّا يَهِدِّي إِلَّا أَن يُهْدَىٰ ۖ فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ ﴾.

المرجعية.jpg

 

 

صَدَقَ اللهُ العليّ العظيم