العراق بين عهدين مائة عامٍ على صدور الدستور العراقي -مقاربةٌ دستوريةٌ-
١- ليس يخفى أنَّ المقاربة الدستورية بين القانون الأساسي لسنة ١٩٢٥ ودستور سنة ٢٠٠٥ الدائم تكشف عن تحوُّلٍ جذريٍّ في الفلسفة والسياق والتطبيق. ففي الوقت الذي مثَّل فيه دستور ١٩٢٥ وثيقةً تأسيسيةً حديثةً لتأسيس دولةٍ عراقيةٍ حديثةٍ موحدةٍ في ظل نظامٍ ملكيٍّ مركزيٍّ، فإنه كان متأثراً بشكلٍ كبيرٍ بالدستور العثماني-القانون الأساسي العثماني لسنة ١٨٧٦-من جهةٍ، بل لعلَّه نُسِج على نهجه على نحو العموم، ومن جهةٍ أخرى تأثر بالمساعي البريطانية الحثيثة -والمؤثرة- التي كانت ترمي لتوسيع صلاحيات الملك على حساب بقية السلطات ؛ وبناءً على ذلك صِيغَ الدستور ليكون إطاراً مرناً يسمح بهيمنة الملك في ظل النظام الملكي المركزي ويوفر حمايةً شكليةً للحقوق واستقلالاً نظرياً للقضاء.
أما دستور ٢٠٠٥ فقد جاء ليعكس رغبةً في بناء نظامٍ ديمقراطيٍّ اتحاديٍّ لا مركزي بعد عقودٍ من الحكم الدكتاتوري.ولكونه جاء بعد سقوط الحقبة الدكتاتورية المظلمة ؛فقد مثَّل ردَّة فعلٍ عليها ؛ الأمر الذي أفضى بدوره إلى السعي نحو اللامركزية والفدرالية ومنْح المزيد من الصلاحيات للأقاليم والمحافظات.
٢- إنَّ كلاًّ من دستوري ١٩٢٥ و٢٠٠٥ قد أسَّسا لعهدٍ ديمقراطيٍ جديد، فالدستور الأول –القانون الأساسي لسنة ١٩٢٥-قد أرسى دعائم العهد الملكي في بداية تأسيس الدولة الحديثة، والدستور الأخير لسنة ٢٠٠٥ أرسى دعائم العهد الديمقراطي التعددي في حقبة ما بعد سقوط الدكتاتورية ولاسترداد السيادة.
ولعلَّ المفارقة التأريخية ها هنا أنَّ كلاًّ من هذين الدستورين وعلى الرغم من كونهما الدستورين الديمقراطيين الوحيدين في تأريخ العراق فإنهما قد وُضعا في زمن الاحتلال، فالأول سُنَّ في زمن الاحتلال والانتداب والثاني في زمن الاحتلال أيضاً بعد قرابة نصف قرنٍ من الحكم العسكري الدكتاتوري.
بيد أن هذا الأمر أثبت من ناحيةٍ أخرى أنَّ الدساتير الحقيقية هي التي تُعبِّر عن مصالح الشعب وتطلعات الأمة، وليس أمراً مُهماً أن تُوضع في زمن الاستقلال أو الاحتلال، فإنَّ من المعروف أنَّ دساتير العراق الصادرة بعد إسقاط دستور ١٩٢٥ قد وُضعت جميعها في زمن الاستقلال والشعارات القومية (وأمة عربية واحدة..)، لكنها كانت دساتير تُرسِّخ حكم الدكتاتورية وطغيان الحاكم ومجلس قيادته الانقلابي وتسحق المواطن وتنتهك حقوقه وحرياته.ثم إنَّ صياغة الدساتير في زمن نقص السيادة والاحتلال إنما تكون في الغالب لغرض التخلص من براثن ذلك الاحتلال والتأسيس للسيادة، وهذا ما جرى في دساتير الدول العربية التي نالت استقلالها من الاحتلال، وهو ما جرى أيضاً في دستوري العراق الديمقراطيين الأول -١٩٢٥- والأخير -٢٠٠٥-.
٣- إنَّ كلاًّ من دستوري١٩٢٥و٢٠٠٥ دائمان وصادران عن سلطةٍ شرعيةٍ، بخلاف بقية دساتير العراق فهي مؤقتةٌ وصادرةٌ عن سلطات الانقلاب.
٤- لقد تميَّز دستور ٢٠٠٥ بتوسعٍ كبيرٍ في مجال الحقوق والحريات وتعزيز استقلالية القضاء.ومع ذلك، فإنَّ التحديات التي واجهها في تحقيق التوازن بين المركز والإقليم وترسيخ الهوية الوطنية فوق الهويات الفرعية كانت أكبر وأكثر تعقيدًا من تلك التي واجهها سلفه.
٥- إنَّ هذه المقاربة تدلَّ بصورةٍ جليةٍ على أنَّ كلَّ دستورٍ هو ابن مرحلته التأريخية وانعكاسًا لها ونتاجًا للظروف السياسية والاجتماعية التي وُلد فيها وتمثيلاً لرغبات عصره وتحدياته.وبكلمةٍ موجزةٍ يمكن القول إنَّ تجربة هذين الدستورين كانت انعكاساً للتطور الدستوري في العراق من الدستور "الإطار" إلى الدستور "الضامن".
انتهى بعونه تعالى وتوفيقه..
١ تشرين الثاني ٢٠٢٥
بغداد
