منذ أن راحت أبصارنا تلامس إشعاعات توهجها جانبا أو ركنا من أركان الإعلام الحقيقي المتزن الرصين راحت عيوننا تشخص بدقة لترى أناسًا أهلتهم ثقافاتهم واكتسابهم للمعارف ونيلهم مراتب علمية جعلتهم مؤهلين لإدارة دفة الإعلام ونشر الثقافة وتخريج عناصر إعلامية حقيقية.
وراح الرواد ينيرون العقول من خلال طروحاتهم المسموعة والمرئية والمقروءة وخرجوا أجيالا غاية في الثقافة . وكان لهم الدور الكبير في استنهاض روح العلم والفن والأدب وكل ما يستشرق به العقل الجمعي
وقد تخصص بعض الأفراد في بث هذا الاستشراق وأصبحوا فيما بعد روادا للثقافة وتخصصوا بهذا الجانب وأثبتوا المهنية والحرفية بدقة متناهية وجعلوا الإعلام يبث توهجا في تعزيز الثقافة المجتمعية وترسيخ مفاهيم الحضارة ومحاكاة الحضارات الأخرى وتعزيز التراث المجتمعي وتوثيق مراحله وترسيخ ما يتضمن من قيم ومبادئ تتوهج به وتمهد لإنماء التقدم والتطور وبلوغ الارتقاء وقد غَيَّر مسارات كثيرة نحو الأصلح والأصوب .
لم يكن الإعلام مجرد ممارسة عمل روتيني إستهلاكي شكلي ينتهج الرتابة السلبية إنما أدى دورا محوريا في تنمية الوعي المجتمعي وساهم بفاعلية في تأسيس منظومة أخلاقية أنتجتها عملية تلاقح الأفكار وتبلورها والسعي لفهم وتفهم الثقافات والمعارف ولعله أنفرد بمدياته وإفرازاته وراحت الثقافات تعتمد اعتمادا شبه تام على محددات الإعلام ومجرياته .
وفي موارد معينة أو ظروف مختلفة كان بعض الإعلاميين إن لم نقل معظمهم يكاد يقرن عمله الإعلامي بالتورع أو يميل إلى جانب من جوانب التقوى مع الإحاطة التامة بالمهنية والحرفية ليحقق المصداقية والنزاهة بالعمل.
لم يعد يتنافس على احتلال الصدارة ونيل الشهرة أو مكسب أو تحقيق مآرب محددة أو ميول وانحياز مكسبي
مشروعية المنافسة الشريفة والتميز بإظهار الحقائق وتبيانها كاد يؤدي إلى غلق المسارات أمام المتوهمين المشحونين بالعُجُب والغرور والراغبين التنافس على تحقيق مكاسب وأحراز مراحل ونيل مراتب بأية وسيلة كانت مما يوحي بأن الغرور أخذ منهم مأخذا.
تخصص العمل الإعلامي آنذاك بالعمق والألق والأناقة واللياقة واللباقة لم يعد مختصرا على منهجية معينة كالمراسل الخبري الذي اعتاد أن يلف الشوارع يأمل أن يقتنص ما يساعد على اكتساب شهرة أو ما يسمى اليوم بـ (الطشة) أو يقتصر على تقديم البرامج الحوارية التقليدية والتي ضاقت بها الرحب الواسعة في هذا الزمن واتسمت بالمظهرية الشكلية والسطحية. في مقدمة هذه البرامج تلك التي أريد لها تستظل بمظلة الإتجاه المعاكس وكرست إدارة حوارها على الأضداد .وما هي إلا برامج كادت تلبس الإعلام ثوبا خلقًا
ومما يلفت النظر إن معظم هذه البرامج صارت تسند مهمة تقديمها إلى النساء اللواتي صرن يحملن لقب إعلامية وضجت بهن قنوات فضائية كثيرة ومتعددة وراحت تتنافس في إظهارهن ومنهن من هي حديثة عهد على أبسط أبجديات الثقافة والإعلام وصرن يتنقلن من قناة إلى أخرى لتحقيق أهداف وغايات أبرزها شخصية متخذات من بعض المواقع موطنا للترويج الإعلاني والدعائي الشخصي ليس إلا .
فمنهن من تملى عليها إملاءات لتكون مجرد مقدمة أُعدت لها أسئلة عليها أن تتلوها بمحاورة من تستضيفه من الشخصيات المنتقاة وما عليها إلا أن تشاكس وتناهض وتعارض وترفض ما لا يتناسب مع توجه القناة أو مع رأيها أو مزاجها ولعلها بذلك تنتزع اعترافا وإقرارا من المتلقين على أنها إعلامية جيدة.
بينما واقع التصرف يوشي بأن المسافة بينها وبين عمق العمل الإعلامي مسافة شاسعة وتظهر أحيانا أن ليس لها اية صلة بالإعلامية ولا تتسم بالإستقلالية بل تُظهر بأنها طرف آخر وغالبا ما تتقمص دور الخصم والقاضي والمحامي والند للند من أجل تمرير ما تريد أو ما أريد لها أن تمرر .
وهذه الظاهرة فاق تعدادها وازدادت أضعافا على ما كان ينطوي عليه الواقع الاعلامي في العهود الأخرى.
والحقيقة التي باتت تلفت الأنظار أن نسبة الإعلاميات في الأزمان السابقة لا تتجاوز 5% أو هي محدودة غاية المحدودية مقارنة بعدد الرجال المتخصصين والمشاركين ولعل هذه النسبة تختلف بين مكان وآخر ومنطقة وأخرى أو ظرف وآخر إنما هي نسبة ضئيلة وربما كادت تكون معدومة في بعض الأماكن
أما في هذه المرحلة فإن ثمة ظاهرة تلفت النظر يوحي باطن سرها بأن عدد الإعلاميات المحتشدات في القنوات الفضائية والإذاعات والعاملات في بعض المواقع التي تحمل تسمية إعلام فإن عددهن من بعد عام 2003 فاق عدد الإعلاميات منذ تأسيس الدولة العراقية حتى عام 2003 . ومن المؤكد أن ثمة أسبابا ودوافعَ وتداعيات لهذا التزايد مما يؤدي إلى إلحاق الضرر بسمعة الإعلام ونزاهته وتمسكه بالمنظومة الأخلاقية العملية.
إن ما يسمعه ويشاهده الناس يشير إلى أن الكثير من هؤلاء العاملات في الوسط الإعلامي بحاجة إلى تبلور فكري واكتساب خبرة واستحصال كفاءة وصقل للمواهب والمهارات كي لا يكون الأمر عبارة عن ممارسة هواية مع إنعدام الخبرة وأن لا يرتكز ويتمحور الأمر على الإعتماد على جوانب أخرى.
ولعل غياب الإهتمام والرعاية بمحورية التخصص والتغافل عن الارتكاز عليها وعدم الركون إلى جودة المحتوى أدى ذلك إلى ظهور حقيقة أحدث مفهومها تحولا ظاهرا وبارزا في مجالات الإعلام وأربك الواقع الإعلامي وأضعف نسبة تحسين الإنتاج والإبداع والبراعة وضعضع هيكلية الإعلام وأدى في أحيان معينة إلى التقصير في أداء وظيفة الإعلام .
مما يدعو لأن يعاد النظر في الكثير من المفاصل والحيثيات وتتعاضد الجهود لإعادة النضارة والنصاعة لصورة الإبداع الإعلامي والمنجز الراقي الذي يستحق التسمية.
