تجنيس الغرباء في العراق: أزمة هوية وطنية أم فوضى إنسانية مقنّعة؟

يشهد العراق في السنوات الأخيرة ظاهرة خطيرة آخذة في الاتساع، تتمثل في تجنيس الأجانب والغرباء بطرق غير مدروسة، بل وغير قانونية أحيانًا، تحت ذرائع إنسانية أو دينية أو اجتماعية... ؛ و هذه الظاهرة لم تعد مجرد حالات فردية، بل تحوّلت إلى ملفّ سياسي واجتماعي معقّد يمسّ الأمن الوطني، والنسيج الاجتماعي، والهوية العراقية ذاتها.

لقد أصبح مشهد دخول أعداد كبيرة من الزائرين  من دول فقيرة – كأفغانستان وباكستان وبنغلاديش وإيران والهند والدول الافريقية وغيرها – ؛  مألوفًا في مواسم الزيارات الدينية، خصوصًا في زيارة الأربعين، حيث يُسمح لهم بالدخول المؤقت، لكن بعضهم لا يغادر الأراضي العراقية بعدها، بل يستقر في المدن الدينية أو العشوائيات، ليمتهن التسول أو الأعمال غير المشروعة، كالسرقة أو الدعارة أو تجارة العملة والمخدرات.

وهنا يُطرح السؤال الصارخ: من المسؤول عن تفاقم هذه الظاهرة؟

المؤسسات الرسمية تبدو في حالة ارتباك وتشظٍّ إداري بين وزارات الداخلية والعدل والهجرة والبلديات، فيما تُفتح الأبواب أحيانًا بدافع سياسي أو مذهبي أو بدعوى "الضيافة الدينية"... ؛  لكن ما يحدث في الواقع هو تفريغٌ تدريجيٌ لمعنى المواطنة، فأن يولد طفل في باكستان  او افغانستان ثم يُقذف به في شوارع النجف أو كربلاء لا يعني أنه صار عراقيًا بالهوية أو الانتماء، بل يعني أن العراق يُستغل كأرض سائبة، بلا رقابة ولا نظام واضح للجنسية والإقامة.

الأخطر من ذلك أن بعض العلاقات العابرة بين غرباء ونساء عراقيات أصبحت طريقًا مختصرًا لنيل الجنسية، إذ يمكن لأي أجنبي أن يدخل المحكمة ويعقد زواجًا شكليًا دون أن يُسأل عن هويته أو خلفيته أو نواياه، ثم يحصل بسهولة على إقامة، فرخصة عمل، فالجنسية في نهاية المطاف!

فهل يُعقل أن تتحول الجنسية العراقية، التي دفع لأجلها الملايين دماءهم وأعمارهم، إلى ورقة تُمنح لأي غريب بلا تحقق ولا مراجعة؟

إن هذا الانفلات لا يهدد فقط النظام القانوني، بل يهدد النسيج الاجتماعي والثقافي للعراق... ؛ ولنا تجارب مريرة مع ابناء الفئة الهجينة والذين حصلوا على الجنسية العراقية خلال القرن المنصرم تؤكد تلك المخاطر ؛  فالتجنيس غير المنضبط يخلق تباينات ديموغرافية خطيرة، ويتيح تسلل جماعات مجهولة الأصل والانتماء، وربما تُستغل هذه الثغرات من قِبل أطراف إقليمية أو استخباراتية لتغيير التوازنات السكانية والسياسية في البلاد.

ولعل جوهر المشكلة لا يكمن في الأجانب أنفسهم، بل في العجز الإداري والفراغ القانوني الذي سمح بذلك... ؛  فالدولة التي لا تضع سياسات واضحة للهجرة والتجنيس والإقامة، تفتح الباب أمام فوضى بشرية، تُغرق المدن وتنهك البنية الاقتصادية والأمنية، وتُفقد المواطن إحساسه بالأمان والانتماء.

إن الحلّ لا يكون بالتحريض على الكراهية أو الإقصاء، بل بـإعادة بناء مفهوم المواطنة على أسس قانونية صارمة، ووضع ضوابط دقيقة للتجنيس، ومراجعة حالات الإقامة والزواج التي استُخدمت كوسيلة للالتفاف على القوانين.

فالعراق، الذي كان دومًا أرضًا للتنوع والضيافة، لا ينبغي أن يُختطف اسمه لشرعنة فوضى الهويات والولاءات.

في النهاية، يبقى السؤال معلقًا كجرس خطر:

هل نحن أمام تسامح إنساني خرج عن السيطرة، أم أمام غزو ناعم يُعيد رسم ملامح العراق الديموغرافية والثقافية؟

الإجابة مرهونة بقدرة الدولة على أن تقول: هذه أرض العراق، وهذه هويته، وليست للبيع أو المجاملة.

التجنيس -العراق.jpg