كنَّا قد تحدثنا فيما مضى –في الجزء الأول- عن النقاط المشتركة بين دستور العهد الملكي لسنة 1925–القانون الأساسي- ودستور 2005 الدائم، ثم تطرَّقنا إلى المحور الأول المتعلق بشكل الحكم وتوزيع الاختصاصات في الدستورين. وسنكمل الحديث عن ثلاثة محاور رئيسةٍ، يتعلق أولها بإرساء دعائم الدولة في الدستورين وثانيها بنظام الإدارة والفدرالية وثالثها باستقلالية القضاء.
المحور الثاني: إرساء دعائم الدولة :
القانون الأساسي 1925:
1-لقد أسهم هذا الدستور في تأسيس دولة العراق الحديثة بعد حقبة الاحتلال وسريان الانتداب.
2-أرسى مفهوم دولة المؤسسات والدولة القانونية.
3-ساعد في ترسيخ فكرة المواطنة والهوية العراقية الجامعة رغم هيمنة النخب السياسية التقليدية.
دستور 2005 :
1-لقد جاء هذا الدستور في أعقاب سقوط الحقبة الدكتاتورية والتأسيس للسيادة بعد الاحتلال.
2-أرسى دعائم الدولة الديمقراطية التعددية ودولة المؤسسات.
3-أرسى دعائم سيادة القانون وحقوق المواطنة وحكم الشعب.
4- ولأول مرةٍ في تأريخ الدولة العراقية أنشأ ما يُعرف حديثاً بـ(الهيئات المستقلة)،مثل المفوضية العليا المستقلة للانتخابات والمفوضية العليا لحقوق الإنسان وهيئة النزاهة.
المحور الثالث : الإدارة والفدرالية :
أولاً : القانون الأساسي 1925:
نظامٌ مركزيٌّ صارم :
1-لقد كان العراق في ظل هذا الدستور يُمثِّل دولةً بسيطةً ذات إدارةٍ مركزيةٍ.
2-كانت الصلاحيات الإدارية والمالية تتركز في العاصمة.
3- تمَّ تقسيم العراق إلى محافظاتٍ وأقضيةٍ ونواحٍ، لكن جميع القرارات المهمة كانت تتخذ من قبل الحكومة المركزية.فلم يكن هناك أيُّ اعترافٍ بالأقاليم أو بالحكم الذاتي للمحافظات، وكانت المحافظات تدار كوحداتٍ إداريةٍ تابعةٍ للعاصمة.
ثانياً : دستور 2005:
أ-نظامٌ اتحاديٌّ لا مركزي :
1-بمقتضى دستور 2005 أصبح العراق دولةً اتحاديةً تتوزع الاختصاصات فيها بين المركز والأقاليم والمحافظات.
2- أخذ الدستور بمبدأ اللامركزية الإدارية بشكلٍ متقدم،تتمتع المحافظات فيه بصلاحياتٍ إداريةٍ واسعةٍ، ومجلس المحافظة مستقلٌ.
ب-توزيع الاختصاصات :
وزَّع دستور 2005 الاختصاصات بين الحكومة الاتحادية –المركزية- وحكومات الأقاليم والمحافظات(المواد 110، 114، 115).وقد منح الأقاليم صلاحياتٍ تشريعيةً وتنفيذيةً وقضائيةً واسعةً بما في ذلك حق تعديل تطبيق القانون الاتحادي في حال التعارض مع قانون الإقليم (المادة 115،المادة 121).
ج-العاصمة والمحافظات:
تمتعت محافظة بغداد بوضعٍ خاص، كما منح الدستور المحافظات غير المنتظمة في إقليم صلاحياتٍ إداريةً وماليةً واسعةً -اللامركزية الإدارية-(المادة 122).
التحليل المقارن بين الدستورين بشأن الإدارة والفدرالية :
1-الطابع الاتحادي: يعدُّ إدخال النظام الاتحادي–الفدرالي- في دستور 2005 أحد أهم الاختلافات مع القانون الأساسي، حيث نقل صلاحياتٍ واسعةً إلى الأقاليم والمحافظات، وهو أمرٌ لم يكن موجودًا في ظل النظام المركزي لدستور 1925.
2-التحوُّل من المركزية إلى اللامركزية:كان التحوُّل من النظام المركزي الصارم في دستور 1925 إلى النظام اللامركزي في دستور 2005 هو الأبرز.هذا التحوُّل يعكس التغيير الجذري في الفلسفة السياسية للدولة في الانتقال من دولة المواطنة الفردية إلى دولة الاعتراف بالتعدديات الإقليمية والقومية والثقافية.
3-التحدي والفرصة : وإذْ سعى دستور 2005 إلى معالجة مشاكل التهميش والمركزية المفرطة، فإنه أوجد تحدياتٍ كبيرةً في تنظيم العلاقة بين المركز والأقاليم وتوزيع الثروات -ولاسيما النفط والغاز-.
المحور الخامس: استقلالية القضاء
أولاً : القانون الأساسي 1925:
نظرياً ،كان القضاء مستقلاً، وعمليًا،كان خاضعًا لتأثير السلطة التنفيذية –الملك-،الذي كان يملك صلاحية تعيين القضاة وعزلهم بناءً على اقتراح الوزير المسؤول (م26).
ثانياً : دستور 2005:
1-لقد كفل الدستور استقلال القضاء بشكلٍ واضحٍ وقويٍّ، سواءٌ على مستوى السلطة القضائية أو القضاة.
2-كفل الاستقلال التام لمجلس القضاء الأعلى وللمحكمة الاتحادية العليا.
3-أنشأ المحكمة الاتحادية العليا ومنحها صلاحياتٍ واسعةً في الرقابة على دستورية القوانين وتفسير الدستور وفضِّ النزاعات بين الحكومة الاتحادية والأقاليم.
التحليل المقارن بين الدستورين بشأن استقلالية القضاء :
1-بلا ريبٍ، يعدُّ دستور 2005 أكثر تقدماً وضمانًا لاستقلالية القضاء من الناحيتين النظرية والعملية،من خلال إنشاء هياكل وإجراءاتٍ محددةٍ لحماية هذه الاستقلالية.
2-لم يشهد العراق منذ تأسيس الدولة الحديثة استقلالاً للقضاء وللقضاة كما شهده في دستور 2005.فالسلطة القضائية والقضاة مستقلون لا سلطان عليهم لغير القانون، وهذا أمرٌ واقعٌ حقيقةً وليس حبراً على ورقٍ تُسطِّره أيادي الانقلابيِّين العسكر في دساتيرهم الدكتاتورية لغرض التسويق والتمويه.
وللحديث تتمَّةٌ في الجزء الثالث إن شاء الله للبحث في الحقوق والحريات في هذين الدستورين.
