كربلاء، مدينة لا تنام على هامش الذكرى، بل توقظ الفجر كل يوم بحنينها إلى الطرقات الأولى، إلى تلك السلاسل التي لم تكن مجرد معدن، بل كانت صلاة تُرفع من أكتاف الموالين نحو علياء الحسين.
في قلب هذه المدينة، وسط الأزقة التي تغتسل برائحة المواكب، نبضت مهنة كانت يومًا لسانًا للصوت العاشورائي… مهنة لا تصنع الحديد فقط، بل تنقشه حبًّا. إنها مهنة الزناجيل الحسينية، التي أمسك مفاتيحها رجال من طراز خاص، أمثال الحاج عباس كريم عماش، الذي تنقّل بين الحديد والجمر، ليجعل من كل حلقة حكاية، ومن كل مقبض وثيقة ولاء.
الزنجيل العراقي، حينذاك، كان يُصنع بنار البرادة، ويُلحَم بصدق النار لا بمكائن التغليف، حتى أن الزناجيل العراقية صارت مطلوبة في مدن مثل تبريز، والبحرين، والقطيف، والحساء. لكنها، رغم التصدير، لم تغادر روحها الحسينية، بل عاشت كربلائيةً بامتياز، تُولد من جهدٍ يومي يمتد من ضوء النهار حتى أطراف الليل، وكل حبة من حباتها تُصاغ بالنيّة قبل أن تُصاغ بالنار.
لم تكن المهنة تجارة محضة، رغم أنها كانت مصدر رزق لعوائل كثيرة، بل كانت عنوانًا لبركة حسينية نادرة، تتجلى حين يُمنح الزنجيل للمواكب بميزان (المن)، وقد يُهدى أكثر من منّين مجانًا، لأن الربح الحقيقي كان يُقاس بمدى خدمة الشعيرة لا بعدد الدنانير.
المقابض اختلفت، لكنها كلها كانت تقبض على اسم الحسين… منها الخشبي، ومنها المغطى بالبراص أو الفضة أو الورشو، وكل موكب يتفنن في هندسة مظهره، حتى أصبحت المقابض رمزًا للمنافسة الولائية، وصارت الزناجيل تُفرَش على الأرض كما تُفرش الورود، ينتظرها رجال المواكب لتسري في أيديهم رعشة الانتماء.
وقد كانت لتلك المهنة مكانة اجتماعية معتبرة، حتى أن المجتمع الكربلائي لقب العاملين بها بـ”أهل الموكب”، وفتح لهم أبواب البيوت والمحافظات، من الكوت إلى البصرة، دعوات ولائية لا تُرد، يقابلها الصانع بالحرفة والمحبة.
ورغم أن المهنة قد تراجعت اليوم، وسُحب السيم من الأسواق، وتوقفت الورش عن طرق الحديد، إلا أن الزناجيل ما زالت تتدلّى في ذاكرة كربلاء، مثل تعويذة لا تُنسى… تذكّرنا أن في كل حلقة منها هناك صلاة مؤجلة، ودمعة مؤجلة، وصوت لا يموت.
الزنجيل، كما يعرفه من صنعه، لم يكن مجرد سلسلة… بل ذاكرة تُشهر حبّها، كلما مرّت المواكب، وكلما بكت كربلاء بصوت الجراح.
