(1)
"أن لا يُنسى الحسين"
عند دخولي دار أبي، شعرت لوهلة أني كنتُ مسافرة طويلًا…
وها قد عدت.
توقفتُ عند العتبة،
وشيءٌ في داخلي صاح:
"ادخلي يا زينب… قد عاد كل شيء كما كان".
أغمضتُ عيني،
فرأيتُ أبي عليًّا عليه السلام جالسًا في صدر المجلس،
تحفّه الهيبة والنور…
عن يمينه الحسن، وعلى يساره الحسين،
وخلفهم العباس، واقفًا كما عهدته،
يده على سيفه، وكأنّه ما زال يحرسنا.
وجلست تحتهم أرواح عون وجعفر وعثمان،
بسماتهم تُضيء المكان، وكأنّ الوجع لم يكن.
رأيتُ أبي يبتسم لي…
فتح ذراعيه…
ركضتُ نحوه،
وألقيتُ برأسي على صدره،
علّني أهرب من كل شيء…
من صليل السيوف، من بكاء اليتامى،
من قيود الكوفة،
من عيون الشامتين،
من صوت الحسين حين قال:
"يا أُختاه… لا تنسيني في نافلة الليل".
هناك، في حضن أبي، تلاشت الأصوات،
تلاشت كربلاء، وتبقّى النبض فقط…
نبض الحسين.
فقال أبي:
"يا زينب… لكِ عشر أمنيات، اختاري منها ما شئتِ."
فأغمضتُ عيني من جديد…
وتمنيتُ الأمنية الأولى:
🌹 أن لا يُنسى الحسين
أن يبقى اسمه نورًا لا ينطفئ…
أن تبقى كربلاء في قلب كل مؤمن،
وفي ضمير كل حرّ،
أن لا تكون دماؤه صرخة في صحراء،
بل منهجًا، وثورة، وصلاة.
تمنيتُ… أن يبكيه الناس لا لمجرّد البكاء،
بل ليُحيوا هدفه.
أن يمشوا إليه لا بالأقدام فقط،
بل بالوعي، بالإصلاح، بالحب، بالحق.
تمنيتُ… أن لا يُصبح عاشوراء يومًا في التقويم،
بل طريقًا، يُربّي، ويُطهّر، ويُبصرنا بأننا أبناء كربلاء.
***
(2)
"أن لا يُطمس الحق"
قال أبي:
وما هي أمنيتكِ الثانية يا زينب؟
رفعتُ رأسي إليه، والدمعة على وجهي لم تجفّ،
وقلتُ:
تمنيتُ… أن لا يُطمس الحقّ أبدًا،
وأن يبقى وجهي وأنا أمام يزيد شاهدًا على أن بنت علي لم تُكسر.
تمنيتُ… أن تبقى كلمتي "ما رأيتُ إلا جميلًا" نارًا في قلب الظالم،
وضياءً في درب المظلوم.
تمنيتُ… أن لا تُؤخذ المواقف بظاهرها،
فمن رآني مكبّلة بالحديد لم يدرك أنني كنتُ أمسك بخيوط النور.
تمنيتُ… أن يفهم الناس أن وقوفي في مجلس الطغيان،
كان انتصارًا للحسين، لا إذلالًا لزينب.
كان صوتًا لا يُقهر،
وحضورًا لا يُنسى،
وكانت نظرتي إليه، لا نظرة خوف،
بل نظرة مَن تحملت كل شيء كي تقول:
"الحقّ باقٍ… وأنتم الذاهبون."
تمنيتُ… أن يُصبح كل محبٍّ لنا،
واقفًا موقف زينب،
صامدًا، لا تهزّه العروش، ولا يُرعبه الجبابرة.
أن لا يسكت على باطل،
ولا يتنازل عن مبدأ،
ولا يخجل من قول الحقيقة،
ولو كان في قلب قصر يزيد.
***
(3)
"أن يُفضح الباطل مهما علا"
مدّ أبي يده ومسح على رأسي...
ذلك اللمس وحده أعاد إلى قلبي شيئًا من الحياة.
كأن كل ما مرّ، من صراخ ومن نار ومن قيد…
ذاب بلحظة، تحت كفّ علي.
قال لي بصوته المهيب:
"بُنيّتي… أكملي أمنياتكِ، فنحن جميعًا نُصغي إليكِ."
ارتجف قلبي…
لم أعد أطيق صمتًا، ولا بكاءً بلا صوت.
خرجت منّي كلماتٍ كاللهيب:
أتمنّى... أن يُفضح الباطل مهما علا،
أن لا يبقى لظالمي وأعدائي من ذكر،
أن لا تُمحى دماء الحسين من الكتب،
بينما تُسطّر ألقاب المجرمين بالذهب.
نظرتُ إلى وجوه إخوتي من حولي…
العين دمعة، والقلب جمرة.
ثم نظرتُ إلى أبي،
فرأيته يرفع بصره نحو الحسين ويقول:
"هو أمرٌ من علِيٍّ علَويّ،
لن يبقى لهم في الأرض اسمٌ يُكرّم،
وسوف يخرج القائم من ذريتك، يا حسين،
فيأخذ بالثأر، ويمحو ذكرهم من بين الناس."
كانت كلماته بردًا وسلامًا…
أثلجت قلبي،
وارتاحت أرواح إخوتي.
وفي لحظة، أحسست أن كربلاء بدأت تكتب سطور النصر،
ولو بعد حين.
***
(4)
أن لا يُهان حجاب أمي فاطمة...
تنهدتُ بحرقة وأنا أسترجع هذه الأمنية،
كأنها وُلدت من رماد قلبي...
قلتُ بصوتٍ يرتجف:
ــ أبي...
أتمنّى أن لا يُهان حجاب أمي فاطمة،
وأن يُصان،
وأن يصبح اللباس الرسمي لكل نساء الأرض...
أتمنى أن تُحفظ كرامة كل النساء،
وألّا تشهد واحدة منهنّ ما شهدته أنا من ألم وذل.
خرجت شهقة من أخي العباس،
كأنها شقّت قلبه وخرجت،
نظر له أبي، وهزّ رأسه بحزنٍ عميق.
بينما انهمرت الدموع من عيون إخوتي،
بكيت...
ثم التفتُّ إليهم، واعتذرت:
ــ سامحوني، لقد ذكّرتكم بما جرى...
لكن أبي قال بثقةٍ لا تشوبها دمعة:
ــ سيحدث ذلك يا بنيّتي...
سيأتي اليوم الذي يُرفع فيه الحجاب عزيزًا،
وتُكرم فيه فاطمة على رؤوس الأشهاد...
سيكون ذلك في زمن المهدي المنتظر،
وسترين بعينك يا ابنتي،
كيف يكون حجاب فاطمة تاجًا على رؤوس نساء العالم.
وضعتُ رأسي على حجره من جديد،
وقلت بدمعةٍ مطمئنة:
ــ إن شاء الله...
***
(5)
في أصعب الظروف...
أمعنتُ النظر نحو أخي العباس،
واقفًا كأنه رمح لا تقدر عليه الريح...
ثابتُ الجذع، شديدُ السند.
سألته والدهشة في قلبي:
ــ كم تحبّ أخاك الحسين يا عباس؟
لم يتحرك جسده،
فقط أدار عينه ناحيته...
ثم دمعت عيناه.
رفع سيفه، وأشار به نحو السماء،
وقال وعيناه لا تفارقان الحسين:
ـ والذي رفع السموات السبع طباقًا،
لا شيء في الدنيا يستطيع أن يقيس حبّي لسيدي الحسين!
قلت بسرعة، وكأنني أحاول أن أوضح سؤالي:
ــ أسأل عن حبّك لأخيك الحسين،
لا لسيدك الحسين!
أنزل سيفه، وأعاده إلى غمده،
وقال بصوت يملأه اليقين:
ــ سيدي... وأخي... ونور عيني... هو الحسين.
ابتسمتُ، ثم التفتُّ إلى أبي وقلت:
ــ أبي، إن أمنيتي الخامسة هي:
أن يُربّى الجيل القادم على الولاء،
أن يحبّ الأخُ أخاه كما أحبّ العباسُ الحسين،
وأن يخاف عليه، كما خاف الحسينُ على العباس...
تنهد أبي وقال:
ــ لا يوجد حبّ كحب العباس لأخيه يا بنيّتي،
ولكن... سيكون ذلك أيضًا إن شاء الله في زمن المهدي المنتظر،
حين يُبعث الولاء من جديد،
ويُكتب الإخلاص في سطور الزمن القادم.
***
(6)
لم يكن القتل عبثيًا...
عمّ الصمتُ للحظات،
لكن تصاعدت الأنفاس حين ذُكر اسم الحسين…
وكأن الهواء ثقيلٌ بدمٍ لم يجف بعد.
قلتُ لأبي، وصوتي متهدّج بالشجن:
ــ أبي... هل تعرف ما هي أمنيتي السادسة؟
ابتسم لي بصوته، الذي يسكنني كلّما ضعت:
ــ وما هي أمنيتكِ، بنيّتي؟
تنفّستُ عمقًا، ثم قلت:
ــ أن يعرف الناس ثمن الدماء الزكية التي أُهدرت على أرض كربلاء،
أن يعلموا أن القتل لم يكن عبثًا،
بل لبناء الوعي، وإحياء الضمير.
أن يدركوا عِلّةَ استشهاد إخوتي وأبنائهم وأصحابهم...
أن يدركوا أن الله شاء لهم القتل،
كي يتجدّد في كل زمان ثائرٌ كأخي الحسين،
ومقاتلٌ كأخي العباس،
وبواسل كأبنائي وأبناء إخوتي والصحابة.
ربّتَ أبي على يدي،
وقال بعينٍ دامعة وصوتٍ ملؤه يقين:
ــ لقد قلتِها أنتِ في قصر يزيد...
"فوالله لن تمحوا ذكرنا،"
ولن يُمحى،
بل سيتجدّد في كل زمان…
لأن دم الحسين لا يموت.
***
(7)
أن نُبكي الحسين بوعي... لا بعادة
وضعتُ خدّي على يد أبي المباركة،
وأغمضتُ عينيّ...
كأنني غِبتُ في سُباتٍ طويل،
أبعدني عن ضجيج القوافل التي حملتنا على جراحنا،
وعن أصوات الطبول التي دقّت على أنين أرواحنا.
همس أبي بصوته الحاني:
ــ هيا يا زهرتي... أخبريني، ما هي أمنيّتك السابعة؟
فأنا وإخوتك ننتظرها بشوق.
فتحتُ عيني ببطء، وقلتُ بعد لحظة صمتٍ تأمّلي:
ــ أتدري يا أبي؟
رغم كل الحزن الذي يسكنني على إخوتي،
لكنني لم أجعل هذا الحزن قيدًا،
بل جعلتُه طريقًا يوصل رسالة الله…
لهذا، أمنيتي السابعة يا أبي:
أن لا يكون البكاء على الحسين عادة،
بل وعيًا...
أن لا يكون الحزن نهاية، بل بداية حياة.
أن نُبكيه بقلوبٍ تفهم، لا تكتفي بالترديد.
أن يكون الحزن على الحسين سببًا للنهوض،
قوة تدفعنا لنحيا الحياة التي منحنا الله إياها،
والتي ضحّى بها إخوتي من أجلنا...
نظر إليّ أبي طويلًا... ثم ضمّ يدي إلى صدره،
وقال بصوتٍ مبللٍ باليقين:
ــ هذه أمنية الحسين ذاتها، يا زينب...
أن لا يُنسى دمه،
وأن يُفهم دمعه...
***
(8)
أن تعيش كربلاء فينا… لا في التقاويم
كان صوت الحسين، وهو يتحدّث،
كأنّه يأتي من عالمٍ آخر...
عالمٍ يبعث في قلبي السكينة ويُضيء طريقي وسط هذا الركام.
قال بهدوء:
ــ أُخَيّتي زينب، لقد وصلنا إلى الأُمنية الثامنة،
وكلّنا شوقٌ لسماعها.
ابتسمتُ وأنا أنهض ببطء، لأرى العباس،
نظرت إليه وهمست:
ــ ماذا تتمنّى، يا أخي العبّاس؟
لم يُسمع له حتى أنفاس...
كان كمن يتنفّس بخفية،
احترامه لأبي وإخوته كان يحمله على الصمت.
لكنّه قال أخيرًا، بصوتٍ مرتجف، كأنّه سعفةٌ في مهبّ الريح:
ــ أنا أتمنّى؟
ــ أجل، أنت يا أخي...
أنت شريكي في كلّ شيء، حتى في الأمنيات،
فقل، ما هي أمنيتك؟
راح يجول بنظره بين أبي وإخوته،
كأنّه يسألهم بعينيه:
هل يحقّ لي أن أُفصح عن أمنيتي في حضرتكم؟
ثم عاد إليّ بالنظر،
وأطرق برأسه إلى الأرض،
وقال بصوتٍ خافتٍ لكنه ثابت:
ــ أتمنّى أن تعيش كربلاء في شيعة الحسين عليه السلام… لا في التقاويم.
أن تُذكَر في قلوبهم، في وجدانهم، لا على صفحات التواريخ.
أن لا تكون ذكرى يحيونها، بل حياة يعيشونها.
أن يغضبوا للظلم كما غضب الحسين،
وأن يصبروا كما صبرتِ أنتِ يا زينب.
نظرتُ إلى أبي وقلت:
ــ إذن، يا أبي... هذه هي أمنيتي الثامنة:
أن تعيش كربلاء في روح شيعتنا… لا في التقاويم.
***
(9)
أن يُفهم الدين كما فهمه الحسين
كان الحسن ينظر إليّ، وقد بدا عليه الشوق لسماع أمنيتي التاسعة.
شعرت بشوقه يمتد إليّ، فقلت، وجسدي يرتجف مع كل كلمة:
ــ أبي...
أمنيتي التاسعة هي:
أن يُفهم الدين كما فهمه الحسين.
أبي، إن الدين الذي يعرفه الحسين عليه السلام، ليس كما يعرفه الناس.
دين الحسين هو قول الله وأمره.
أما ما يعرفه الناس، فغالبًا ما يكون مزيجًا من مصالحهم الشخصية، وتحزّباتهم الضيقة.
لهذا، أريد للناس أن يروا بعين الحسين، ويؤمنوا كما آمن هو.
أبي... الفقراء لا يؤمنون بدين لا يُطعمهم،
ولا يثق المرضى بدين لا يُشفيهم.
لكن دين الله... دين الحسين، هو الدين الذي يطعم الجائع،
ويُعين الضعيف، ويُشفي المريض.
هو الدين الذي يتجلى فيه حبّ الله، كما أحبه الحسين عليه السلام.
ومن أجل هذا الحب، قدّم الحسين كلّ ما يملك.
وسيأتي اليوم الذي يعرف فيه الناس هذا الدين...
أليس كذلك يا أبي؟
في زمن المهدي، ؟
ــ أجل بنيّتي،
في زمن المهدي سيُعرَف دينُ الله الحق،
بإذن الله تعالى.
***
(10)
أن لا يُضيّع الناس عاشوراء في الزحام
في زحام الحياة،
وتحت ركام الحزن والآلام،
تتبعثر الأمنيات،
وتضمحلّ الذكريات.
ينسى الناس أحبّاءهم،
وينشغلون بمغريات الحياة،
ويُلهيهم الركض خلف متاعها الزائل.
ولهذا، يا أبي،
فإن أمنيتي العاشرة...
أن لا يُضيّع الناس يوم عاشوراء الحسين.
أريـدهم أن يتمسّكوا بشعائر الحسين،
أن يبقوا أوفياء لذكرى عاشوراء،
كي لا تُنسى مصائبنا،
ولا تندثر شعائرنا.
أتمنى أن لا يُضيّع الناس عاشوراء،
وأن تبقى منارةً ترشد السفن التائهة،
في بحار الحياة المتلاطمة.
ــ يا لهذه الأمنيات، بنيّتي...
في ظاهرها هي لإحياء ذكرى استشهاد إخوتك،
لكن في حقيقتها...
هي كي تحيا شيعتنا بخير وأمان،
تحت راية:
يا لثارات الحسين.
