كانت الحياة بسيطة، وأهلها متقبلون لكل ما فيها، يعيشون في هذا الوطن، وكل قانع بما قسم له، أذكر لكم قصة عن تلاميذ المرحلة الابتدائية في سبعينيات القرن الماضي وبداية الثمانينيات، حين كان معظمهم يرتدون "الدشاديش البازة"، ثم جاءت الحداثة وغيرت ملامح الزمن، فاستبدلت الدشداشة بـ" الزي الرسمي" القميص والبنطال. ومع هذا التغيير، ظلت الحياة قاسية على معظم الناس .
ومن رموز تلك الأيام، برزت "حقيبة الطالب" التي كانت تعد شيئاً فاخراً ، بألوانها وأشكالها الجذابة، يحمل فيها الطالب كتبه وأدواته المدرسية، ومنها المبراة، القلم، الممحاة، وأحياناً شيء ما من الطعام كالخبز أو الفاكهة... إن توفرت أصلاً، فاكهة أو طماطم.
كانت الحقيبة الجلدية ضرورية لكنها باهظة الثمن، ولم يكن بمقدور كثير من ذوي الدخل المحدود اقتناؤها لأبنائهم، فكانوا يستعيضون عنها بحقيبة مصنوعة من "الجنفاص" وهو كيس الطحين الفارغ، يقص ويتم خياطته، حسب قياس الكتب، يطرز أحياناً ويترك سادة أحياناً أخرى....كانت وسيلة بسيطة، محلية، جميلة في فكرتها.
اليوم، ونحن نمشي؛ رأيت صديقي يحمل حقيبته على كتفه، قلت له بعفوية: "هذه تذكرني بحقائب الجنفاص التي كان يحملها طلاب الابتدائية في الثمانينيات." فردّ متنمّراً، منزعجاً "أهلنا لم يصنعوا لنا حقائب من الجنفاص!
كانوا يشترون لنا الحقائب الجلدية! أولئك الذين استخدموا الجنفاص هم فقط أهل القرى والعربان والمعدان!"
كانت إجابته غير موفقة، والسؤال الذي يطرح نفسه: ومن كان لا يسكن القرى آنذاك؟
سكت، خشية أن أستمر في الحديث مع شخص "مهزوم من داخله"، وربما لو واصلت النقاش معه، لتفوه بما هو أسوأ ودون نتيجة من الحديث.
الخلاصة؟ من يتصور أننا في المستقبل سنحظى بوطن واحد، موحد، مزدهر وآمن، فإنها — يا جماعة الخير — أمنية لا تتحقق. ربما نسي أن هناك من يعمل على هدم المجتمع العراقي وتدميره، ونسي أننا لم نذق طعم الراحة في هذا البلد، ولا عرفنا حياة كريمة في منازل فارهة، ولا ضمنت لنا الحكومة الضمان الاجتماعي والصحي، ولا عشنا بكرامة وعز وشرف.
للأسف، منذ أيام الاحتلال العثماني والبريطاني، مروراً بالملكية، وصراعات الانقلابات والجمهوريات بين الشيوعية والبعث، وما زال الصراع قائماً. لا نزال نتناطح ونتنازع، ونكافح من أجل لقمة العيش لأبنائنا.
فما حال أولئك الذين نسوا تاريخهم، وماضيهم، حين أصبح لديهم المال؟.... و هل ياترى تمحى الذاكرة والايام بجرة قلم؟.... هل تمرر الأكاذيب على مسامعنا، بينما الحقيقة لا تزال حاضرة، مدفونة، مذبوحة، مرمية في خانة الطائفية والتنمر على المكونات الأخرى... كقصة المعدان والعربان وسكان القرى؟
فكيف نبني وطناً موحداً مثل العراق، وفيه أكراد الشمال، وأكراد فيليه، وعرب، وإيزيديون، ومسيحيون، وصابئة، وشيعة، وسنة؟
