*مقدمة : بين خديعة الساسة وسذاجة الجمهور
لم يشهد التاريخ الحديث مشهداً سياسياً أكثر غرابة وتعقيداً من المشهد العراقي، حيث تتجسد المفارقة الموجعة بين شعب أنهكته الأحلام والآمال والتطلعات والخذلان والانكسار والانتكاسات ، وطبقة سياسية أتقنت فنون الخداع والمكر والتلون كالحرباء في زمن العواصف والتقلبات السياسية .
في العراق، تتكرر المأساة ذاتها منذ عقود - مذ تأسيس الدولة العراقية الحديثة - ، ولكن بأسماء وشعارات جديدة، حتى غدت السياسة مسرحاً هزلياً يتبدل فيه الممثلون، فيما يبقى النص هو ذاته : الدم والفساد والتبعية والخذلان والعمالة .
*أنظمة واحزاب سياسية هجينة... بلا طعم ولا لون ولا رائحة
فقد كانت ولا زالت السياسة العراقية عبارة عن بنية هجينة مشوهة لا طعم لها ولا لون ولا رائحة سوى رائحة الخيانة والفساد التي أزكمت أنوف الناس.
فهي ليست ديمقراطية حقيقية تُحاسب فيها السلطة، ولا ديكتاتورية واضحة يمكن محاسبتها، ولا ملكية دستورية عادلة , ولا جمهورية وطنية مستقلة ؛ بل مزيج غريب من الولاءات الطائفية والعرقية، ومن التبعية للخارج في مقابل الانقسام في الداخل.
النتيجة دولة تترنح فوق ركام الفوضى، وشعب غارق في دوامة من الأوهام والانتظار.
*السياسي العراقي: ممثل بارع في مسرح الخداع
يتعامل السياسي العراقي، في الغالب، مع الشعب ككتلة من الأصوات الموسمية، يستدعيها عند الحاجة وينساها بعد الانتخابات... ؛ ويتعامل مع المواطنين بفوقية وحقارة منقطعة النظير ... ؛ اذ يتقن فنون الوعود كما يتقن الممثل أداءه ... ؛ يعرف متى يرفع الشعارات، ومتى يذرف الدموع، ومتى يلوّح بعصا الطائفية والعنصرية والتحزب لإعادة الناس إلى مربعات الخوف والانقسام.
إنها سياسة تعتمد على إعادة إنتاج الفشل وتجميله بطلاء وطني زائف، لتبدو الخيانة مشروعاً، والفساد دهاءً سياسياً، والولاء للأجنبي براغماتية سياسية ... !
*الشعب العراقي: الضحية التي صارت متفرجاً
أما الشعب العراقي، فهو الضحية الدائمة والمتفرج القسري في هذه المسرحية الطويلة.
شعب عظيم في تاريخه وصبره، لكنه سُجن في دائرة التكرار والتجريب العقيم... ؛ فبعد كل تغيير سياسي وتحول حكومي وبعد كل دورة انتخابية تتبدل الوجوه ولا يتبدل الواقع، لأن أصل الداء لم يُمسّ.
لقد بُنيت البنية السياسية على أساس معطوب يقوم على المحاصصة والولاءات والارتباطات الخارجية والاجندات الدولية ، لا على الكفاءة والمواطنة والمصلحة الوطنية ، فأنتجت حكومات متعاقبة تشبه بعضها في الفشل والفساد والعجز والانبطاح .
*تبادل الأدوار... والمخرج واحد
إن مأساة العراق ليست في سقوط نظام وقيام آخر، بل في أن كل الأنظمة جاءت من رحم الأزمة ذاتها، وكل الطبقات السياسية تشربت من نهر واحد ملوث هو نهر المصالح الضيقة والفساد المنهجي والاستعمار والمخابرات الخارجية .
ولهذا لا معنى للعجلة في استبدال نظام بآخر، طالما أن "المخرج واحد" والسيناريو ذاته يعاد إخراجه بأسماء جديدة وديكور مختلف.
الوجوه تتبدل، لكن النتيجة واحدة: وطن مصلوب على جدار الصراع والفساد والتبعية والعمالة والارتباط بالقوى الاستعمارية والاستكبارية الكبرى .
*الحاجة إلى ثورة وعي... لا ثورة وجوه
إن الحاجة اليوم ليست إلى ثورة وجوه، بل إلى ثورة وعيٍ وضمير شعبي.
إدراك عميق بأن الخلاص لا يأتي من أولئك الذين سرقوا الأوطان بالأمس أو يتلاعبون بمصائر الناس اليوم، بل من إرادة جماعية تعيد بناء الدولة على أسس العدالة والمواطنة والكرامة.
فالشعوب لا تُستعبد إلا حين تصدّق الأكاذيب، ولا تتحرر إلا حين تعي أنها شريكة في اللعبة، لا ضحية لها فقط.
*خاتمة: لحظة الوعي أو لحظة السقوط
العراق اليوم يقف على مفترق طرق تاريخي :إما أن يستمر في مشاهدة المسرحية السياسية ذاتها حتى النهاية، أو أن يكتب فصلاً جديداً من تاريخه بوعي شعبي يرفض أن يكون المتفرج الدائم على مأساته... ؛ عندها فقط، سيتوقف الدم عن أن يكون لغة السياسة، وسينطفئ دخان الخيانة ليعود للوطن طعمه ورائحته وهويته الحقيقية.
