نهضةُ الإصلاح الحسينيّة

نهضةُ الإصلاح الحسينيّة

 ظنَنتُ للطفِّ أُحيي حين أذكرُه     لكنْ تيقّنتُ أنّ الطفّ يُحييني

(يا ليتنا كنّا معكمْ سيّدي، ونكونُ معكمْ، لنبلغَ الفتحَ، ونفوزَ فوزًا عظيمًا)

إن عشتَ طفًّا ماضيًا أو حاضرًا    الفتحَ تبلغ والمفازَ الأعظما 

الدينُ والاقتصادُ والثقافةُ والقيادةُ والتطوّرُ والفلسفةُ والفكرُ والطبيعةُ والسلوكيات الإنسانيّة بعضُ الأمثلةِ على أركانِ الحياةِ التي يعشها الإنسانُ والمجتمعُ والتي تقوده ويقودها حسب إمكاناته وحسب قوّةِ ومتانةِ هذه الأركان المتداخلةً مع بعضِها البعض ويقودُ بعضهُا البعض. من دون هذه الأركان لا يستطيعُ الإنسانُ أنْ يعيشَ ويلبّي حاجاتَه ونوازعَه وطموحاتَه وفكرَه. تولدت هذه الأركان من تفاعلاتِ النفسِ البشريّةِ بخيرها وشرها مع المحيطِ ومع الذات. الدينُ هو أمرٌ سماويّ يشملُ تنظيمّ كلَّ ما يتعلقُ بالإنسانِ ومحيطهِ وهو منهاجٌ ونظامٌ إلزاميّ وواجبُ التطبيقِ والذي يكونُ محكومًا باختيارِ الإنسانِ. عندما تتاحُ الفرصة للإنسانِ وتكونُ قدرتُه أقوى من هذه الأركانِ فأنّه يغيرها نحو الأحسنِ أو الأسوءِ. هذا التغيرُ محكومٌ بالنفسِ البشريّةِ وبميزانِ الفجورِ والتقوى أيّهما كفته أرجح. (وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا، فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا).

في أغلبِ الأحيانِ فإنّ المجتمع يطمحُ أنْ تسيرَ به هذه الأركان إلى السعادةِ في الدنيا. هناك الكثيرُ ممّنْ لديهم تأثيرٌ واضحٌ للنفسِ الأمّارةِ بالسوءِ وخاصة حين يستلمون موقعًا قياديًّا على مستوى الأسرةِ والمجتمعِ، فيحرّفونَ مسيرةَ الحياةِ وأركانها إلى ما لا ينفعُ الناسَ وما يتعارضُ مع الدينِ في سبيل النفعِ الخاصِ الذي تدفعُ له النفسُ الأمّارةِ بالسوءِ أو اعتلالٌ عقليٌّ أو نفسيٌّ، فيحدثُ الخللُ القيادي الذي يؤدّي بالقوةِ أو بالتأثير إلى اتساعِ الخللِ والتفاهةِ على جميعِ نواحي الحياةِ البشريّةِ والطبيعيّة. وخيرُ دليلٍ هو تحريفُ الأديان.

قد حرّفوا الدينَ أهلُ  الدينِ  وافتعلوا    ما  يجعلُ   العلم   بالأديانِ  يصطدمُ
بعض العلومِ رأوا كفرًا بما  اكتشفتْ    رغم الدليلِ أشاعوا الريْبَ واختصموا

لذلك يتصدى المجتمعُ لهذا الخللِ من خلالِ رجالٍ قادرين فكريًّا وعلميًّا وثقافيًّا ونفسيًّا على قيادةِ التصدي. هؤلاء يسمّون بالمصلحين، أي ترميم وإصلاح الخللِ أمّا بإبقاءِ الركنِ المتضررِ وإصلاحهِ أو أدخالِ مناهج وسلوكياتٍ بديلة. الأنبياءُ هم المصلحون الذين أوكلَ اللهُ لهم مهمّة الإصلاح وأرسلَ كتبًا ودساتيرًا لتقويم الإعوجاج وإصلاح ما أفسده البشرُ وأهمّهم الكهنةُ والأثرياءُ وأصحابُ الكراسي. الأولياءُ وأئمةُ الهدى هم المصلحون بعد الأنبياء. المصلحون أيضا هم الصالحون من الناسِ الذين يأمرون بالمعروفِ والإحسانِ والعدالةِ والقيمِ الخيّرة وينهون عن المنكرِ والفحشاءِ. أكثرُ الناسِ تضرّرا هم المصلحون لأنّهم يتصدّون إلى الخللِ الذي لا يظهر إلّا بعد تمكّنه وقوتهِ الماديةِ والمعنويةِ والروحيةِ على حدوثِ العيبِ والتفاهةِ والانحراف عن نهجِ الناسِ المقبول فكريًّا ونفسيًّا أو عن نهجِ الدينِ.

المصلحون إلى الحسنى معاييرُ     لهم   فؤادٌ   وظهرٌ   للهدى  طورُ
هم الضحايا لعدلٍ يُثخنون  دمًا      سيفُ النفاقِ لهم  والفسقُ  مشهورُ
يكابدون العنا في  كلّ   معتركٍ     والفردُ  منهم  لحبلِ  الموتِ منذورُ 
كالأولياءِ همُ  للحقِ  قد  صدقوا     والدينُ شرعُ  لهم  والعقلُ  والنورُ
منذ الحسين فلم تسقطْ بيارغهم      والعزمُ فيهم إلى الإصلاحِ مقصورُ

الدينُ لم يتركْ أيّ مجالٍ أو ركنٍ من مجالاتِ الحياةِ إلّا أدخل فيها تأثيرُه وتعاليمُه. فالدينُ هو نهجٌ وحركةٌ اصلاحيّةٌ للمجتمعِ والحياةِ دائمةٌ ومستمرةٌ، ثابتةٌ في أصولها متطوّرةٌ في فروعِها لكي تلائمَ كلّ زمانٍ ومكانٍ. هدفها إصلاحُ الخلل وإيقافُ القبحِ والسوء ورفعُ أوجه الخير والإسعادُ النفسي والبدني. الحركةُ الإصلاحيّة قد تنحرفُ عن طريقِها الإصلاحي، وهذا الإنحرافُ ليس من تعاليمِ الدينِ، بل من تدخّلِ الإنسانِ في نقلهِا وتأويلهِا أو حتّى إنكارِ بعضها بما يخدمُ مصالحَه الذاتية. وهنا يأتي دورُ المصلحين في إصلاحِ الإنسان وليس إصلاح الدينِ، بل تنْقيتُه ممّا أدخلَ عليه من خللٍ وتفاهةٍ وإفسادٍ وكلّ ما يتعارضُ مع الفطرةِ السليمةِ وتعاليمِ السماءِ.

تعرّض الدينُ الإسلامي كما تعّرضت له جميعُ الأديانِ والأنظمةِ والدساتيرِ الموضوعةِ إلى إفسادٍ وانحرافٍ يطيحُ بالمجتمع كلّه، بل يقيّدُ حريّته في الاختيارِ ورفضِ الانحرافِ بالقوةِ والتعذيبِ والنفي والسجنِ وحتّى التصفيةِ الجسديّةِ. لذلك الاصلاحُ يحتاج ُإلى رجالٍ يحملون أكفانهم معهمْ ولديهمْ من العزمِ ما يجعلهمْ في أفقِ العيونِ والأذهانِ.
الدينُ الإسلاميّ أحدث إصلاحًا كبيرًا في أمّةٍ فاسدةٍ وثنيّةٍ جاهلةٍ يحكمُها السيفُ والنفوسُ الأمّارةٌ بالسوءِ والطبيعةُ القاسيّة وشحةُ الاحتياجاتِ. ورغم أنّ الأكثريّة استسلموا لهذا الدينِ وهم متأسلمون وليس مسلمون، فالقليلُ هم مَنْ طبّقهُ تطبيقًا متناسبًا مع عظمةِ الإصلاحِ وتعاليمِه، وأكثر المتأسلمين جعله مطيّةً للمصالحِِ الفرديّةِ والقبليّةِ وخاصة عندما رفعهُم الدينُ من القبليّةِ إلى الدولةِ ومن الجوعِ إلى الاكتفاءِ. لذلك استغلّ هؤلاء الفرصَ للاستحواذِ على مسيرةِ الدينِ القياديّةِ وتغير توجّهُه إلى ما ينفعهمْ على حسابِ أصوله. فتولّى أمورَ المسلمين مَنْ قادَ الإسفافَ والانحرافَ على طولِ القرونِ. قد تطلّب ذلك نهوض حركاتٍ تدعو إلى الإصلاحِ أمّا بإزالة الخللِ وحفظِ الدينِ أو ادخالِ تعاليم جديدة بحجّةِ الاصلاحِ أو محاولة نسفهِ بمنهاج بشريّةٍ جديدةٍ مستفيدًا من أضرارِ الخللِ أو الانحرافِ الذي أدخلهُ الإنسانُ على الدينِ تشريعًا ودولةً وأحكامًا.

من أعظمِ حركاتِ الإصلاحِ التي استطاعتْ أنْ تحفظَ مسيرةَ الدينِ ولو على نطاقٍ ضيّقٍ وتمنعُه من الزوالِ هي حركةُ الحسين بن علي عليه السلام الإصلاحيّةِ التي قامَ بها وانتهتْ باستشهادِه مع أهلهِ وأصحابه سلام اللهِ عليهم. تحوّلت هذه الحركة إلى مدرسةٍ تدعو إلى استمرارِ حركاتِ الإصلاحِ من جهادِ النفسِ إلى جهادِ السيفِ كي يستقيمَ الدين بأصولهِ وفروعهِ وحفظ العدلِ والكرامةِ. لم يكنْ رفضُ الحسينِ عليه السلامِ لبيعةِ الانحرافِ والفسادِ في مسيرةِ الدينِ ثورةً مؤقّتةً أو حركةً غايتها أدخال ما ليس في الدينِ إلى المجتمعِ وأركانهِ، بل كانت حركةً اصلاحيّةً مستمرةً تعيدُ الإنسانَ إلى طريقِ الدينِ. وهي نهضةُ إصلاحِ الإنسانِ وليس إصلاح الدينِ، لأنّ العيب في الناسِ وليس في الأديانِ.

يا سيّدًا   للمصلحين   ونهجهم     قد نلت من حبّ التقاة الأبهرا
قدّمت للدنيا  الصلاحَ  مخلّصًا     فغدا الصلاحُ  لكلّ حُرّ منبرا
ورفعت قرآنَ المهيمنِ مُصلحًا     لا زال للدنيا الكتابَ  الأنورا
دربُ الحسين إلى النجاة سفينةٌ     في موج طوفانٍ طغا وتجبّرا
ما  قمتَ  إلّا  للصلاحِِ   مناديًا     ولدربِ جدّك هاديًا  ومؤزّرا

هي مدرسةٌ للكرامةِ والعزّةِ ورفضِ الظلمِ وقيادةِ النفوس إلى التمسّك بنهجِ السماءِ المتمثّلُ بثلاثةِ أركانٍ مهمّةٍ وهي القرانُ والسنةُ النبويّة والعترةُ الطاهرة. هذه المدرسة مناهجُها تعاليمُ السماءِ وأساتذتُها العترةُ الطاهرةِ والراسخون في العلم.

باقِ  أيا  ملهم   الأحرار  مدرسةً      من حرفها البيضُ للإسلام منذوره
ما كان يومك عشراً من محرّمهمْ      فكلً   يومٍ  لك   الراياتُ   منشوره
مذ كان يومك  لا  زالتْ  قوافلهمْ      للهِ  خلفـــك   والأعنــــاقُ  منحوره

أعظمُ صفوفِ هذه المدرسةِ هي المجالسُ الحسينيّة.  فكما للمساجد دورٌ في قيادةِ المجتمعِ وترسيخِ تعاليمِ الإسلامِ في النفوسِ فأنّ المجالس الحسينيَة كان ولا يزالُ لها الدورُ البارزُ في الحفاظِ على استمراريّة الدينِ وإصلاح الخللِ وإصلاح المجتمعِ والنفوسِ.

كما المساجدُ للعبادِ مدرسةٌ     مجالسُ السبط والدنيا بها نورُ

 مجالسُ السبط روحها الحزنُ والدمعُ على فجيعةٍ عظيمةٍ ألمّتْ بأهلِ السماءِ والأرضِ، وهذه الفجيعة هي:
1-  استشهادُ سيّد شبابِ أهل الجنّةِ وأهله وأصحابه سلام الله عليهم. 
2-  تزويرُ الدين والتاريخِ والتلاعبُ بأحكامهِ نصًّا وتأويلًا وإخراجُه من قيادةِ الحياةِ.
3-  قتلُ وتشريدُ كلَّ من يتمسّك بالدينِ القويم المتمثّل بأهل الكساء والعترة الطاهرةِ ومن يقارعُ الباطل.

غايةُ المجالسِ الحسينيّة هو إصلاحُ الناسِ والاطمئنان على أنّ سيرهمْ في خطِ الدينِ القويمِ الذي يعتمدُ على القرانِ وأهلِ الكساءِ والأئمة الأطهار. وهنا يأتي دورُ رجالِ المنبرِ الإسلامي الحسيني وهم المعلمون في هذه المدرسةِ العظيمةِ، حيث تقعُ على عاتقهمْ مسؤوليّةٌ كبيرةٌ وجسيمةٌ في تأديةِ الأمانةِ، وهم محاسبون عن أيّ كلمةٍ يقولونها على منبرِ الإصلاحِ الذي قامَ بدماءِ أشرف مَنْ خلق الله تعالى. لذلك يجبُ على كلِّ من يرتقي المنبرَ أنْ يكون أهلا لهذهِ المسؤوليّةِ علمًا وإيمانًا وتقوىً وإلّا يكون خطابهم هادمًا لهذه المدرسةِ وعونًا للإفسادِ والضلالِ والجهالةِ والتفاهةِ.

كم منْ وفاءٍ ومن صبرٍ ومن شجنٍ     ومنْ إباءٍ بسفرِ الطفِّ مخزونِ
لقد لعب ولا يزالُ يلعبُ الدكتور الشيخ أحمد حسون الوائلي العالمُ الكبيرُ والمكتبةُ الفكريّة والحسنيّة والإسلاميّةِ والعميدُ الأوّل للمنبرِ دورًا بارزًا في تطويرِ المنبرِ والارتقاء به ليكونَ مدرسةً ليس فقطْ للإصلاحِ النِفسي والاجتماعي، بل رافدًا من روافدِ الفكرِ والتطويرِ والتعليمِ القويم.
 الحزنُ والألمُ يصنعان الحياةَ. فحزننا وألمنا على فاجعةِ الطفّ يصنعانِ الحياةَ العادلةَ والشريفةَ والمتطوّرةَ بالإبداعِ والمعرفةِ وقيمِ السماءِ العظيمةِ.
بالحزنِ والآلامِ تظهرُ في الدنا   سبلُ التطوّرِ والحضارةُ والبنا
 
عندما نذكرُ الطفّ ونحضرُ المجالسّ الحسينيّة نعتقدُ بأنّا نحيي ذكرى الحسين عليه السلام والطفّ، ولكن هدفُ نهضةِ الحسينِ عليه السلام هي أنْ نحيا بها وعلى مَنْ يرتقي المنبرَ أنْ يحقّق هذا الهدف، وأنْ يطرح ما يحيي الأنسان وإلّا لن تتحققّ الغاية من النهضة الحسينيّة الإصلاحية.

ظننتُ للطفّ أُحيي حين أذكـره    لكن تيقّنتُ أنّ الطـفّ يُحييني
يفتتحُ أساتذة ومعلمي المدرسةِ، مدرسة الطفِّ، دروسهم بعبارة (يا ليتنا كنّا معكم فنفوز فوزا عظيما). أقول بإنّ نهضة الحسين الإصلاحية (الطف) مستمرةٌ، فلِمَ هذه الأمنية ولا تزالُ لنا فرصة للإلتحاقِ بها وبلوغ الفتحِ. فلتكن العبارة:
(يا ليتنا كنّا معكم سيّدي، ونكون معكم، لنبلغَ الفتحَ ونفوزَ فوزًا عظيما)
يا ليتنا كنا معكم وأنْ نستمّر معكم، لأنّ نهضةَ الحسين لا تزالُ مستمرّة بهذه المجالس وبالدماءِ إلى أن يورثُ اللهُ الأرضَ عبادَه الصالحين. فكلّ يومٍ كربلاء، كربلاءُ السيف، كربلاءُ التقوى، كربلاءُ التمسّك بالدينِ القويمِ، كربلاءُ العلمِ والتطويرِ، وكربلاءُ جهادُ النفسِ. فلا زالت كربلاءُ مفتوحةً لكلِّ َمنْ يريدُ أنْ يبلغَ الفتحَ.

في كلّ  يومٍ  نعيشُ  الطفَّ  واقعـةً      فالأرضُ خصبٌ لفرعون وقارونِ
من مركبِ الفتحِ جئنا نشتري سهماً     ما الحزنُ والقتلُ إلّا بعض عربونِ

فسلام عليك يا أبا عبد اللهِ وعلى أخيك أبا الفضلِ العبّاس وعلى أهلِ بيتك وأصحابك الذي ساروا خلفك في هذه النهضةِ الإصلاحيّة الخالدةِ المباركةِ. ستبقى للعالمين جميعًا حياةَ العزّ والتقوى والعدالةِ والنهج الصحيح لدين الله تعالى.
 
رأيتُك  ما  أنْت بقبرِ تُزارُ         وخَطْبٍ يُجابُ شجىً وعَويلْ
ولكنْ الى العالميْن الحَياةَ          وَنهْجاً  لديْن السّماءِ الأصيلْ

175446782068930dec5d353.jpg