في كلِ عام، يشمرَ أبناءُ مدينةِ الإسكندريةِ الأعزاءِ – تلكَ المدينةِ الهادئةِ الواقعةِ على بعدِ نحوِ ستينَ كيلومترا جنوبَ بغدادَ – عنْ سواعدهم، للاحتفالِ بها، التي أصبحتْ اليوم، قضاءٌ بفضلِ اللهِ سبحانهُ وتعالى، وجهودَ أهلها الطيبين. احتفاءَ بها ووفاءٍ لذكرياتِ الصبا والشباب، ولأجيالَ مضتْ حفظها الله، في مشهدٍ يعيدُ إليهمْ عبقُ الماضي منْ خلالِ معالمها التاريخية، وأبرزها (خانُ الإسكندريةِ العريق) الذي سيحتضن احتفالها الثقافي في الأيام المقبلة( دورة المرحوم الشاعر موفق محمد ).
يقودَ هذا الاحتفالِ مجموعةً منْ أبنائها الأوفياءِ منْ الجيلِ القديم، مدعمين بالشبابِ الجددِ منْ الوجوهِ التي يملؤها الأنوار المضيئة، ممنْ آثروا العملُ بصمتٍ في سبيلِ مدينتهم، دونُ ذكرُ أسمائهم، خشيةَ أنْ نغفلَ أحدهم، فيفسدُ صفوُ المناسبةِ، أوْ يبعثُ الحزنُ في القلوب. ولكني لا يمكنُ أتجاوزُ شيخُ المطالبينَ بإعمارها وخدمتها، وقلمُها الذي لا يَكلُّ ولا يجفُّ حبرُه في تدوين شكواها، ورافعُ رايةِ الحقِّ ونورُها الساطعُ الذي لا ينطفئ — صفاؤنا الخفاجي. كانتْ الإسكندرية، ولا مازالت، نموذجا للوحدةِ والتآخي؛ إذْ وفدَ إليها الناسُ منْ شمالِ البلادِ وجنوبها، للعملِ في مصانعها المختلفةِ التي إنشاتٍ في ستينياتِ القرنِ الماضي، وتوسعتْ في الثمانينياتِ منه، وعلى ضفافِ نهرٍ (المجرية) الصغير، الذي لا يغيبُ عنْ ذاكرةِ أبنائها، والقادمَ منْ منطقةِ الخضرِ (عليهِ السلامُ ) ، الذي يشقُ المدينةَ إلى نصفينِ غايةً في الجمال. فهناك، يسير الرجال على ضفتيهِ ، وقد غمرهم عبق المساء ونسيم النهر، كأنهمْ على ضفافِ نهرِ السينَ في قلبِ أوروبا، بينما تتناثرُ حولهمْ بيوتُ المدينةِ البسيطة، وشوارعها القديمة، التي نحفظُ أسمائها القديمةِ عنْ ظهرِ قلب: شارعُ المعمل، شارعُ السوق، وشارعَ الخضر. لقد قضينا أجملُ أيامِ حياتنا في هذهِ الواحةِ الصغيرة، قبلُ أنْ نغادرها في نهايةِ سبعينياتِ القرنِ الماضي، بحثا عنْ الرزقِ في أرضِ اللهِ الواسعة، ومعَ ظروفَ الحياةِ القاسية التي عشناها فيها، إلا أنها، صقلتْ شخصيتنا، ودفعتنا إلى بلوغِ أعلى الشهاداتِ العلميةِ، والعملِ في أرقى المؤسساتِ حولَ العالم، فكانتْ الإسكندريةُ خيرا منبتا وأفضلُ بداية. فكلما ضاقَ صدرنا في بغدادنا الحبيبة، وضجَ رأسنا بحركتها، وضوضائها ، أشعرُ أنَ أنفاسي تبحثُ عنْ فسحةِ هواءٍ في ذكرياتي القديمةِ في مدينة الإسكندرية، ورغمَ أنَ سكني فيها شارفَ على نصفِ قرنِ منْ الزمانِ فيها، إلا أنَ جذوري وذكرياتي، ما زالتْ نابتةً في أرضِ الإسكندرية، تمتدَ عميقا نحوَ شارعِ الخضرِ الثاني، خلفَ المقبرة، مقابلَ مقامِ السيدِ نوريْ رحمهُ الله، حيثُ كانَ ملتقانا المسائيُ الدافئ، التي وفرت لنا؛ ملعب كرةِ قدمِ لهوايتنا المفضلة ، أومتنزه لجلساتنا الخاصة، نتبادلُ أحلامنا الصغيرةَ تحتَ سماءٍ لا تشبهُ إلا صفاءَ قلوبنا آنذاك. لقدْ عاشَ أهلَها القدماء، بروحِ الأسرةِ الواحدة، تجمعهمْ المحبة، وتوحدهمْ المروءة، وكانَ كبارهمْ دائماً حكماً وعدلاً ، فيما يعترضهمْ منْ خلافات. لمْ تعرفْ الطائفيةُ طريقا إلى قلوبهمْ يوما، وظلَ الخلقُ الرفيعُ سمةً تميزَ أبناءها جيلاً بعدَ جيل. أنَ مشاغلَ الحياةِ الكثيرةِ، وتقدمَ العمرُ باعدتْ بيننا وبينها، حتى صرنا – للأسفِ – لا نزورها، إلا في مناسباتِ الأحزان، نودعُ فيها أهلنا وأصدقائنا.
