
البذرة الأولى كانت محمدية خالصة، حين زُفت له البشرى، فاطمة تضع وليدها الثاني، وضعه في حجره وأخذ يتأمله، وما لبث أن فاضت عيناه بالدموع، وأخبرها ما يجري عليه من المحن، فبكت بكاء شديدًا، هكذا عقد رسول الله أول مأتم على الحسين(ع) يوم ولادته، وقد بكاه قبلها وبعدها مرارًا.
هكذا بدأ أول لون من ألوان العزاء بالمراثي والعويل، والتي ركز فيها الأئمة على العمق العاطفي، ثم انطلقت ألسنة الشعراء تفصح عن قرائحهم لتدخل الأناشيد والقصائد المأتم من أوسع أبوابه، وكان لتشجيع الأئمة (ع) الدورالأبرز في إنشاء البوادرالأولى للمأتم الحسيني، حيث ظهر ذلك جليًّا في تكريمهم للشعراء.
ظهرت بعدها التشابيه التي تمثل جزءًا من التراجيديا الشعبية للطقوس الحسينية خصوصًا خلال شهر محرم الحرام، وهي نوع من التمثيل تُجسد فيه واقعة الطف بإطلالة شعبية، بدأت بمجاميع ضئيلة تتزامن مع اللطم والزنجيل وقرع الطبول ورفع الرايات، متجاوزة الصناعة السنيمائية وأبجدية الكتب وأثيرالمحاضرات الدينية، ثم تطورت لتؤدى على شكل عرض مسرحي يمثل الشخصية التاريخية من جميع نواحيها.
أما عن ضرب الزنجيل أوالضرب بالسلاسل فهو من الطقوس العاشورائية لشيعة إيران، العراق، لبنان، باكستان، ومناطق من شبه القارة الهندية، ويقام في الأماكن المفتوحة كالشوارع والساحات، كما يقام في المغلقة والمحدودة كالحسينيات والتكايا.
ومن الشعائر الحسينية البارزة: اللطم وهوضرب الخد أوصفحة الجسد ببسط اليد جزعًا، وقد ورد أن الجزع مكروه إلا على سيد الشهداء، وقد كشفت كثير من الروايات رضى المعصوم عن هذه الشعيرة حزنًا وجزعًا على الحسين (ع) ومن أشهرها ما روي في الزيارة الناحية: (فلما رأين النساء جوادك مخزيا… إلى أن قال على الخدود لاطمات) وهذا دعبل الخزاعي يقرأ قصيدته العصماء عند الإمام الرضا (ع):
أفاطم لو خلت الحسين مجدلًا وقد مات عطشانًا بشط فرات
إذًا لطمت الخد فاطم عنده وأجريت دمع العين بالوجنات
حيث نسب اللطم للسيدة الزهراء(ع) ولم يعارضه الإمام، بل أثنى عليه وكساه بردته.
أما عن المشاعل فهي من الشعائر الحسينية القديمة التي تتميز بها مدينة النجف في ليالي الثامن والتاسع والعاشر من المحرم، وهي عبارة عن خشبة طويلة يتفرع منها عدد من الرؤوس بين عشرين إلى أربعين رأسًا، حيث يتم ملء كل رأس منها بمادة "الكازويل" وقطع القماش ويتم إشعال النار فيها، ليقوم بحمل هذه المشاعل رجال طوال القامة ذو أجسام ضخمة وعضلات قوية يستطيعون حمل المشعل الثقيل الوزن ، ويدورون به ومن ثم يمشون باتجاه الصحن الحيدري الشريف، كما يرافق كل مشعل "ناقر الطبول" و"اللقافة" وهما شخصان يقفان في مقدمة المشعل ومؤخرته لإسناد حامله تجنبًا لوقوعه، كما يرافقهم حملة الرايات، والتي تتمايز بين الحمراء والخضراء والسوداء، مكتوب عليها اسم عشيرة كل مشعل.
أما عن سبب نشأتها قيل إن العرب سابقًا كانت إذا أرادت أخذ الثأر من قبيلة أخرى أشعلت النيران وقرعت طبول الحرب حتى تستعيد ثأرها، وهنا يقصد أصحاب المشاعل الثأر ممن قتل الحسين وأهله وأنصاره حيث سيؤخذ ثأره حين يظهر المهدي (عج).
وقيل أن هذه المشاعل هي عبارة عن تعبير رمزي للهجوم الذي حصل على عيالات الحسين (ع) أثناء معركة كربلاء وحرق الأعداء لخيمه (ع).
والقول الثالث يذكر أن الناس قديمًا كانوا يشعلون النيران في أيام محرم وعاشوراء لإرشاد الناس إلى طريق كربلاء، وبعدها تحول إشعال النيران هذا إلى عادة سائدة.
أما عن موكب العزاء فهوالشعيرة الملفتة للأنظار، والتي ينظر إليها الآخرون بإعجاب تارة، وباستغرابٍ تارة أخرى، وبتشنيعٍ وتوهينٍ من قِبَل البعض.
موكب العزاء يتكون من: مظهر، ومضمون، وكلمات، وألحان، وحضور ويتسم بالوقار والهيبة والحزن والشعارات المعبرة، وتبرز فيه عدة معان منها: التعريف بمقامات أهل البيت (ع) وتعميق الصلة بهم واستعراض مصائبهم، بلحن مؤثر مناسب لمقام مولانا الحسين مبرزًا الهوية العقدية.
أما التطبير فهو نوع من الطقوس يمارسه بعض الشيعة والذي يتم من خلاله ضرب الرأس والجسم بالسيف حتى يسيل الدم وقيل أن منشأه ما فعلته السيدة زينب (ع) عندما رأت رأس الإمام الحسين (ع) على الرمح في الطريق من كربلاء إلى الشام، حيث ضربت رأسها بالمحمل، فسال الدم من رأسها، ويرى كثير من الباحثين أن الحكاية المذكورة غير موثقة، وأنها تنافي مكانة السيدة زينب (ع) وما في سيرتها من الصبر والرضا على المصائب والآلام.
من جهة أخرى يعتقد المعارضون أن التطبير مقتبس من المحافل المسيحية التي أقامها المسيحيون الأرثوذكس تخليدًا لذكرى شهدائهم.هذه نبذة عن بعض مظاهر العزاء الحسيني التي هي من شعائر الدين الحنيف، والتي تبدأ بالحزن والبكاء وإقامة مجالس الوعظ والإرشاد، والمواكب، وتنتهي بإعداد جيل حسيني شعاره "يا لثارات الحسين" يرفع الراية تمهيدًا واستعدادًا لنصرة الإمام المهدي (عج) في آخر الزمان، فهذه المراسيم إنما أُسست جذورها من قبل أهل البيت (ع) بهذه الطريقة العاطفية لكي تستمر المسيرة حتى تنتهي بدولة العدل الإلهي.
——————-
بحار الأنوار للمجلسي
مراسيم العزاء الحسيني في ضوء القرآن الكريم
مركز الأبحاث العقائدية
لسان العرب لابن منظور
مقومات الموكب الحسيني الرسالي الشيخ محمد صنقور