في كربلاء، لا تُصنع المشاعل فحسب، بل تُنسج من وهج العقيدة، وتُطرّز بلهب الولاء، وتُضاء بدموع الانتظار، فقد مثّلت المراسيم العاشورائية على مرّ العقود علامةً فارقة في هوية المدينة، وانعكاسًا حقيقيًّا لخريطتها الروحية، حيث باتت الحِرَف المرتبطة بهذه المراسيم، من مثل صناعة الهودج والمشعل، جزءًا لا يتجزأ من ذاكرة المكان.
تختصّ كربلاء دون غيرها بمهنة صناعة المشاعل أو “الهودج”، وهي من الصناعات التي لم تتمكن باقي المدن من إتقانها أو توريثها، لذا ظلّ أبناؤها يصنعونها للمحافظات الأخرى التي تطلبها عند إحياء مواكبها العزائية، وقد برع فيها عوائل وأسماء ظلت حاضرة في ذاكرة المدينة، تطوّرت على أيديهم أشكال المشاعل من تقنيات بدائية إلى تصميمات أكثر أمانًا وجمالية.
كانت المشاعل تُصنع قديماً من الحديد، وتُستخدم في إضاءتها قطع قماش منقوعة بالنفط تُشعل بالنار، لكنها كانت تُنتج دخاناً كثيفاً يخنق الموكب أكثر مما يضيئه، ثم جُرِّب استخدام “اللكسات” النفطية، إلا أن أحدها انفجر في موكب حسيني، وقضى حامله نحبه، ما شكّل منعطفاً في تطوير هذه الصناعة، بعدها، استُخدم الغاز، وأخيراً الكهرباء، لتتحول المشاعل إلى تحف مضيئة تحمل قدسية الرمز دون خطر اللهب.
تعدّدت أشكال المشاعل بين المحمولة وغير المحمولة، يتراوح وزن المشعل المحمول ما بين 270 إلى 300 كيلوغرام، وتُخصّص لحمله فرق مدرّبة من الشباب، تمتلك من القوة والخبرة ما يؤهلها لهذه المهمة الشاقة، بعض المشاعل، كالتي ظهرت في موكب العباسية، بلغ وزنها 300 كيلوغرام، ثم جاء تصميم أثقل بوزن 380 كيلوغرامًا، ظنًا أنه لا يمكن لأحد حمله، لكن وُجد من رفعه من باب الحسين إلى باب العباس، وكأنّ عضلاته تغرف من خزانة ولاء لا تنضب.
شهدت هذه الصناعة أيضًا ظهور أكبر هودج في كربلاء، بطول اثني عشر مترًا، يحوي 313 مصباحًا بعدد أصحاب الإمام المهدي (عجل الله فرجه)، ويتكوّن من خمس طبقات ترمز لأصحاب الكساء، ويزن ما يقارب الطن، هودج بهذا الحجم لا يُحمل، بل يُعرض، وكأنه سرد بصري لمعتقدٍ متجذر في وعي المدينة.
تميّز اليوم السابع من محرّم، والمخصّص للقاسم بن الحسن (عليه السلام)، بقبة فريدة تُصمَّم على هيئة “غرفة عريس”، تُضاء قديماً بالشموع، ثم بالغاز، وأخيراً بالكهرباء،تصميمها الغارق في الدلالة، لا يُساق بعشوائية، بل يُنصب كقَسَمٍ رمزي، تُرَفْرِف فيه الأنوار على وجه الحياء النحيل للقاسم الشهيد، بينما يحملها رجال اختارتهم التجربة والتقوى.
وتعود أقدم مشاعل المدينة إلى أكثر من تسعين عاماً، ويُعتقد أن مشعل طرف المخيم كان أول ما استُخدم منها في المواكب، ليكون فتيل البداية لمشاعل باتت تُضيء كل زقاق كربلائي في عاشوراء، لا لتُرِي النور بل لتُبكيه،فالمشعل في كربلاء ليس مجرّد وهج… إنه وصيّةُ حزن، ونُذُرُ حب، ولهبُ انتظار.