حين تنبعث الكلمة من قلبٍ تغذى على مائدة القرآن، تتحول إلى قبسٍ من نور الرسالة، ومشعلٍ يهدي التائهين في دروب الغفلة.
هكذا كانت خطبة الزهراء في فجر الانحراف، وخطبة زينب في ذروته؛ نبضان من قلب الوحي، يشعان بالحقيقة ذاتها، ويقودان إلى المسار نفسه.
وفي هذا البحث، نتأمل وحدة هذين الخطابين الرساليين، من خلال التوقف عند بنيته العقائدية، ومنطقه القرآني، وبلاغته البيانية.
أولًا: في العقيدة: وحدة البنيان بين الخطبتين
إن ما يجمع بين خطبتي الزهراء "عليها السلام" في المدينة وزينب "سلام الله عليها" في الشام ليس وحدة الألم فحسب، بل وحدة البنيان العقائدي، الذي يبدأ من التوحيد، ويمر عبر النبوة، وينتهي إلى الأمة بما هي مسؤولية إلهية.
تفتتح الزهراء "عليها السلام" خطبتها بالتوحيد، إذ به يفهم الموقف، ويبنى الوعي، وتتجلى القضية في أصلها: «وَأَشهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَحدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، كَلِمَةٌ جَعَلَ الإِخلَاصَ تَأوِيلَهَا..». فالمعركة وإن كان ظاهرها فدك الأرض إلا أنها كانت تدور أيضًا حول مركزية الله في الحكم، والرسول في الطاعة، والوحي في التشريع.
ثم تنتقل عليها السلام إلى النبوة، فتقيم بها الحجة على الأمة: «أفخصّكم الله بآيةٍ أخرج منها أبي؟»، لتضعهم بعدها أمام مسؤوليتهم التاريخية: «أَأُهضَمُ تُرَاثَ أَبِيَهْ وَأنتُمْ بِمَرأَى مِنِّي وَمَسمَعٍ، وَمُبتَدأٍ وَمَجمَعٍ؟!..»
وفي الشام، حيث يلبس الباطل ثوب النصر، تقف زينب عليها السلام على منبر يزيد، وتواجهه بسؤال عقائدي يقلب الموازين: «أَظَنَنتَ يَا يَزِيدُ.. أَنَّ بِنَا مِنَ اللَّهِ هَوَانًا وَعَلَيكَ مِنهُ كَرَامَةً؟». وهذا ليس استفهامًا بلاغيًا، بل بيان موقف، يُعيد تعريف الكرامة بمعيار الوحي، لا الظرف؛ فالله لا يكرم الظالم، ولا يهين أولياءه. وهي عليها السلام وإن لم تذكر النبوة لفظًا، إلا أنها استحضرتها جوهرًا، حين واجهت يزيد بفعله في بنات النبي: «وَسَوقُكَ بَنَاتِ رَسُولِ اللَّهِ سَبَايَا»، لتختم خطابها بإعلان يتجاوز اللحظة: «وَلَا تَمحُو ذِكرَنَا».
ثانيًا: في المنهج: التناص القرآني ومنطق الرسالة
تميز الخطابان بمنطق قرآني حي، لا يقتصر على ترديد الآيات، بل يتنفس منها، ويعيد إسقاطها على الواقع. فالقرآن في الخطبتين ليس شاهدًا لغويًا، بل هو الجذر الذي نبتت منه الكلمات، والروح التي نبض بها البيان. إن كل آية لا تُقتبس لمجرد البلاغة، بل لتعيد ترتيب المشهد على أساس الحق. فقوله تعالى: «هَلْ جَزَاءُ الإِحسَانِ إِلَّا الإِحسَانُ» (الرحمن: ٦٠) ليس سؤالًا ينتظر جوابًا، بل صفعة تُنطق الصمت، وتوقظ الضمير. وهكذا تُجري الزهراء هذا المنهج في سؤالها: «أَفَخَصَّكُمُ اللهُ بِآيَةٍ أخرَجَ مِنها أبِي؟»، فالكلمة هنا ليست حجة فحسب، بل محكمة تُستدعى من الوحي.
وفي استعارتها: «وَكُنتُمْ عَلَى شَفَا حُفرَةٍ مِنَ النَّارِ..»، لا تستدعي الزهراء عليها السلام صورة بلاغية، بل تفتح مشهدًا قرآنيًا كاملًا من مشاهد الإنقاذ الإلهي للبشرية. هكذا يتحول الخطاب السياسي إلى محكمة عقائدية، ويُعاد تأصيل الأزمة على ضوء الانحراف عن مسار التوحيد.
أما زينب، فإنها تمضي على النهج نفسه، وتفتتح خطابها بسؤال يهز منطق السلطة: «أَمِنَ العَدلِ يَا ابنَ الطُّلَقَاءِ تَخدِيرُكَ حَرَائِرَكَ وَسَوقُكَ بَنَاتِ رَسُولِ اللَّهِ سَبَايَا؟». سؤالٌ يجلد الطاغية بسوط القيم القرآنية، لا بلغة الضعف، بل بمنطق التوحيد.
ثالثًا: في الأسلوب: بلاغة الإيقاع وسلاح التكرار
حين تقول السيدة الزهراء عليها السلام: «اِبتَدَعَ الأَشَياءَ لَا مِنْ شَيءٍ كَانَ قَبلَهَا، وَأَنشَأَهَا بِلَا احتِذاءِ أَمثِلَةٍ امتَثَلَهَا، كَوَّنَهَا بِقُدرَتِهِ..»، فإنها لا تروي خلق العالم، بل تستحضره أمام السامع، حتى كأن لحظة التكوين الإلهي تجري في قلبه. ثم تنتقل إلى بيان وظيفة العبادات: «فَجَعَلَ اللهُ الإِيمَانَ تَطهيرًا لَكُمْ مِنَ الشِّركِ، وَالصَّلاةَ تَنزِيهًا لَكُمْ عَنِ الكِبرِ..»، لتكشف عن أن كل عبادة ليست طقسًا، بل تجلٍّ لقيمة وجودية واجتماعية وروحية.
أما زينب، فإن بلاغتها تأخذ هيئة السيف. تقول: «فَكِدْ كَيدَكَ، وَاسعَ سَعيَكَ»، وهي جملة قصيرة، لكنها تقرع أبواب القيامة، كما في قوله تعالى: «إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيدًا * وَأَكِيدُ كَيدًا» (الطارق: 15-16). وفي تصعيد ساخر مليء بالحكمة، تقول: «وَفَعَلتَ فَعلَتَكَ الَّتِي فَعَلتَ، وَمَا فَرَيتَ إِلَّا جِلدَكَ..»، حيث يصبح التكرار سلاحًا يُعرّي الطغيان، ويثبت أن البلاغة حين تخرج من فم النبوة، لا تُقهر.
وهكذا.. لم تكن خطبة الزهراء عليها السلام أثرًا من الماضي، بل كانت مطلع النور، حين تنزل الكلمة الإلهية على قلبٍ طاهر، فتنهض بالعقيدة لتكون منطلق الإصلاح. إنها دعوة لإحياء الرسالة من جوهر الإيمان، لا من هوامش السياسة. وها هي العقيلة زينب عليها السلام، تواصل هذا النور، وتحوّل الجراح إلى وعي، والدمع إلى رسالة لا تُطفأ.
وفي وحدة هاتين الخطبتين، يتجلّى نفَس النبوة وروح الرسالة. فمن التوحيد إلى البلاغة، ومن الحجة إلى الإيقاع، نرى نسيجًا قرآنيًا واحدًا، لا يزال ينبض في جسد الأمة، يقرأ الماضي بنور البصيرة، ويخاطب الحاضر بثبات الحق، ويفتح للمستقبل أفق العودة إلى الفطرة والرب.
|