في سالف البدايات عندما جعل الله سبحانه وتعالى من هذا المخلوق الضعيف خليفة في أرضه، واستعمله ليعمر كونه الشاسع، أودع بداخله بعد معرفته وتوحيده نداء داخليًا ينبعث من فطرته السليمة، كالسراج يضيء له الطريق؛ يحيي بها بواعث الخير ويطمس الشرور، حتى لا تتجذر وتنمو وتتحول إلى وحش كاسر ينقض على العالم فيحيله خرابًا، هذا النداء ضمير مستتر تقديره أنت وحدك.
إن الله عز وجل خلق في النفس البشرية محْكَمة تعرف بالضمير، تدرك كثيرًا من الفضائل والرذائل مما يُجمع العقل السليم على حسنها أو قبحها، والتي لا ترتبط عادة بالتأديب الاجتماعي أو العادة والشهرة.
إن قوة الضمير من أعظم النعم، ولولاه لما انفتح على البشر أي باب من أبواب الهداية، فهي التي تؤنب الإنسان وتلومه وتحسسه بالوخز عند المخالفة، كما أنها تشعره بالرضا والارتياح لدى الموافقة.
هناك قوة أخرى قريبة من قوة الضمير ولشدة التصاقها به قد تحشر معه، وهي الفطرة، فإن مدرجاتها ليست عملية مباشرة بمعنى الحسن والقبح أو الفضيلة والرذيلة، ولكنها تُدرِك مصدر المسؤولية العمدة والأساس ألا وهو الله وحده أو الدين والمبدأ.
كما أن هناك قوة ثالثة في النفس قريبة من الأوليين وهي: مركز الاطمئنان والارتياح تارة، والاضطراب والرعب تارة أخرى، ويمكن تسميتها: بالقلب وهو مركز الإدراك المرتبط بالضمير أو الفطرة.
إن من سنن الكون، أن نكبر ونهرم وتخور قوانا، مهما حاولنا إبطاء هذه التحولات وقطع الطريق عليها، فستظل تلوح لنا في نهاية الأمر، أرواحنا فقط هي من تملك أن تبقى على صورة القوة والشباب، إذا ما استطعنا أن حافظ على لياقتها واتزانها، بل واتساعها في مقابل الثوب الضيق الذي يفرضه عليها العمر البيولوجي، هناك أشياء لابد أن يزيدها العمر شبابًا وحياة فلا تدخل في طور الشيخوخة: إنه الضمير، الوميض الداخلي الذي يحرس الحس الأخلاقي في دواخلنا، به تحيا البشرية، وتتجاوز امتحاناتها الصعبة، وبه يميز الحي من الميت، كلما استوحشنا دروب الحياة كان السراج المضيء في ليلها المظلم.
فالضمير هو حضور الله تعالى دائمًا وأبدًا في نفس الإنسان، ولن يشيخ إلا عند من أضاعه، أو أودعه دار المسنين ليرقد هو بسلام؛ فلا يثير فيه الوخز والملامة.
حين يتغافل الإنسان عن وخز ضميره لن يعود لصغيرة ولا كبيرة أثر في نفسه، سيبدأ بمخالفة الأمور البسيطة ليتعداها إلى الكبائر حتى لا يوفقه شيء، فتظهر أخطر النزعات المضادة للإنسانية والتي من أخطرها نزعة العنصرية التي تمايز بين البشر وتفاضل بين أعراقهم وأجناسهم وألوانهم، ونزعة التعصب والتوحش والرغبة في القتل، ليتحول إلى فرعون ويتصور نفسه إلٰهًا يعبد من دون الله تعالى، فلا يبقى لعرْض أو مال ذمةً عنده، سيلعب دوره ببراعة ويقف على جثث الآخرين، موغلًا في المحرمات راكنًا إليها، لذلك احتلت المراقبة موقعها المتميز داخل المجتمعات وأنشأت السلطات على مدى التاريخ بدائل تقوم مقام الضمير، فكان أول البدائل من خلال العين فيما عُرف (بالبصاصين) ثم تطورت إلى كاميرات المراقبة، التي كانت أساسًا للفصل بين المادة والروح، ليخفت صوت الإله في أعماق النفس ويتوارى.
فأصبح الإنسان خاضعًا لما يفرض عليه من رقابة خارجية، فإن غابت الرقابة تمددت حظوظ الشر، وكأن غفلة الآلة محرض على إيقاظ الشر الكامن، فهي لحظة بلا رقيب ولا عاقبة.
ويبدو أن عمليات العلمنة التي نزعت القداسة من داخل الإنسان المعاصر جعلت الضمير صوت المجتمع وليس صوت الله تعالى في الإنسان، فتيار الحداثة نزع الرقيب الداخلي القابع في النفس الإنسانية، ثم بحث عن علاج لهذه الأزمة، فكانت الكاميرا أقوى آلاتها، فهي مبصرة وغير غافلة؛ إلا إذا انقطعت عنها الطاقة أو امتلأت ذاكرتها، كما أنها لا تعرف المجاملة، ومن ثم باتت هي البديل الأفضل عن بناء الضمير الإنساني، ثم إنها ضخت الاستثمارات الكبيرة، وتوسعت إلى درجة الطغيان، وغاب الاعتماد على (القسم) الذي هو من بقايا الضمير.
ومن هذه الجهة تنكشف إحدى أهم صور المفارقة والمفاضلة على مستوى الفكر، بين الفكر الذي يتصل بالضمير وبين الفكر الذي ينفصل عنه، بين فكر يوقظه ويقويه وفكر يخمده ويضعفه، فإن من يتعاطى مع الفكر لا بد أن يكون صاحب ضمير حي ويقظ؛ ليكون قادرًا على إحياء الضمير عند الناس فإن مالك الشيء يعطيه.
وخير من يمثل ذلك المعصوم، فعن الإمام جعفر الصادق «عليه السلام» قال: (بينا أمير المؤمنين علي «عليه السلام» في ملأٍ من أصحابه، إذ جاءه رجل فقال: إني أوقبت على غلام، فجئت إليك أسألك أن تطهرني يا أمير المؤمنين).
إن الذي دعا هذا الرجل إلى الاعتراف بذنبه، هو تأنيب ضميره ويقظة وجدانه، فلم يكتف بالتوبة، بل أراد التطهر بإقامة الحد، وأمثال هذه الحادثة كثير في زمن أمير المؤمنين، إذ إنه عليه السلام أيقظ القلوب وأحيا الضمائر الميتة.
والنفس كالطفل إن تهمله شبّ على
حب الرضاع وإن تفطمه ينفطمِ
وجاهد النفس والشيطان واعصهما
وإن هما محَّضاك النصح فاتَّهِمِ
……………….
تزكية النفس لسماحة السيد كاظم الحسيني الحائري
شيخوخة الضمير لأثير السادة
الضمير والتحضر لمصطفى عاشور
الضمير للأستاذ زكي الميلاد
موقع الميزان ص ١٧٥
|