في عالمٍ يُحدّث نفسه كل ثانية، بتنا نعيش تحت سطوة شيء اسمه: الترند.
هو ليس مجرد "هاشتاغ" عابر، ولا نكتة تتناقلها الألسن، بل أصبح ترمومترًا لما يُعتبر مهمًا، وآلية ضغط ناعمة تُعيد تشكيل وعينا… حتى دون أن نشعر.
كل لحظة قد تندلع كشرارة، فتتحول إلى ظاهرة. كل رأي خافت قد يُنفَخ فيه حتى يصير زوبعة. كل تافه يُرفع فجأة إلى مقام "أيقونة اللحظة". وما إن يبدأ شيء بالصعود، حتى ننخرط فيه ركضًا، لا نُبصر وجهته، لكننا نهتف له كأننا نبصر النور. نرفعه إلى العلياء، ونتبعه كأن الوحي قد تجسد فيه.
من الهاشتاغ إلى الهوية
لم يعد الترند موجةً نمر بها، بل صار نهرًا يجرفنا، دون أن ندري أننا نذوب فيه.
في زمن الرقمنة، اختُزلت المسافة بين الفكرة ورد الفعل إلى كبسة زر. تحوّل التعبير إلى "ستوري"، والانتماء إلى "فلتر"، والإعجاب إلى فعل لا يتطلب فهمًا أو قناعة، بل مجرد انسجام مع تيار اللحظة.
صرنا نحمل رؤوسًا تضج بالآراء، لكن تفتقر إلى الجذور. آراءٌ قد لا نؤمن بها، لكننا نُجاهر بها فقط لأنها… رائجة. لا لأننا وجدنا فيها معنى، بل لأن الجميع يصفّق لها.
الترند: موجة لا تعرف العمق
الترند كالبحر: يُبهج مَن يركبه، ويبتلع مَن يجهل تياراته.
قوته لا تنبع من صدقه، بل من سرعة انتشاره. من قدرته على إقناعنا أن اللحظة أهم من الرؤية، وأن البريق يغني عن البرهان.
هو فتنة الحدث العابر، حين يُقدَّم كحقيقة أبدية.
والمؤلم أن هذا البريق لم يقف عند حدود الحياة اليومية… بل تسلل إلى ما هو أقدس.
حين يُصبح الدين ترندًا
في بعض الزوايا الرقمية، لم يسلَم الدين من لعنة الترند.
مقاطع مشحونة بالعاطفة، خطب تُجتزأ من سياقها، آياتٌ وأدعية تُسحب من قداستها وتُركّب بعناية تسويقية فوق مشاهد هزلية أو مبتذلة.
تسمع صوت الإمام علي عليه السلام يخشع: "اللهم يا من دلّ على ذاته بذاته، وتنزّه عن مجانسة مخلوقاته…"
ثم ترفع عينيك، فتجد خلف هذا النور قطة تسقط من كرسي… أو شابًا يتعثّر بكرة… أو لقطة ضاحكة من مسلسل.
نضحك، نشارك، نقول: "مقطع بسيط".
لكن تكرار السطحية يُفسد الوقار، والاستهلاك الهزلي للروحانيات يُطفئ نورها.
ما نفع الذكر إن اختلط بالضحك الساذج؟ وما جدوى الخشوع إن جاء فوق مشهد عبثي؟
بين البلاغة… والتسويق
الدين، في جوهره، لا يُسوّق، لأنه ليس بضاعة تُعرض في واجهات الوقت.
هو بلاغٌ أبدي، يُخاطب الإنسان حيث هو، لا حيث تُوجهه الخوارزميات.
لكن الخطر لا يكمن في الوسائل، بل في النية.
حين نُطوّع الرسالة لتُرضي، لا لتوقظ، وحين يتحول الإيمان إلى عرض مرئي… دون عمق داخلي.
الترند لا ينتظر أحدًا… لكنه لا يملك البقاء
كل يوم يولد ترند جديد، ويطوي ما قبله كأن لم يكن.
أما الدين، فهو لا يلهث، لا يتلوّن، لا ينقرض.
هو ليس ضد الزمن، بل ميزانه.
هو الصمت العميق في ضجيج اللحظة، والنور الثابت في عتمة الانبهار.
الترند يعلّمنا أن نعيش اللحظة،
والدين يعلّمنا أن نرى ما وراءها.
فاحذر أن تخلط بين المعنى… والصدى.
أن تبهج الناس… دون أن تُفرغ المقدس من روحه.
أن تواكب العصر… دون أن تُسلم عمقك للموج.
لأن العصرية الحقيقية، لا تعني السطحية… بل أن تكون عميقًا بما يكفي لتلمس قلب الزمن.
|