في مشهد بانورامي تطل علينا كربلاء عبر التاريخ كنجم الشعرى، متميزة ببريقها الأخاذ الذي يخطف أنظار المقاومين والمضطهدين في كل البقاع وعلى مدار الأزمنة، لتقدم لهم تاج العزة والكرامة، فتدفعهم نحو إحدى الحسنيين.
غصت كربلاء بمشاهد قاسية، مشاهد القهر والظلم والألم، نزفت دمًا ودمعًا، الفداء كان باذخًا والمفدى عظيمًا.
الجميع أدى دوره بامتياز، وأنيط دور عظيم لطفل ذي أربع سنين، عاصر المآسي برمتها، دوّنها في عقله وقلبه وروحه، وعلَّقها بجيده في درب الأسر الطويل، ملتقطًا الصور الدامية والبطولات الفذة محوقلًا ومتأوهً.
في مثل هذه الأحداث ينبري العلم الحديث ليخبرنا عن الأضرار النفسية الجسيمة التي تخلفها الحروب على الأطفال (الحرب تحول الطفل إلى شخص آخر، يتغير نتيجة الخوف والفوضى، لحظات وجيزة تمحو ملامح الطفولة والبراءة والأحلام، وتضع مكان الشعور بالأمان والاستقرار والحب، الحزن وفقدان الأمل بغدٍ مشرق، من طفل عاشق للحياة إلى مسن قد تخلى عن طموحاته قسرًا، إلى إنسان بات يخاف من الحياة ذاتها، يخاف أن يحلم أو أن يفكر)
إن معاصرة الطفل لأجواء الرعب والعنف وانتهاك الأنفس والأعراض يخلق صدمة تفوق درجة استيعابه وتخلف اضطرابات سلوكية خطيرة تصل للعنف والتمرد.
وعودًا على بدء، نرى أطفال كربلاء قتلت سحقًا وترويعًا، تساقطت فيها الورود الواحد تلو الآخر، فما بقي إلا طفل الرابعة- بمشيئة الله تعالى- صامدًا رغم الكسر، صابرًا رغم الفقد، متسلحًا بقوى ربانية تجعله قدوة لأطفال العالم، وأن الإيمان والعزة والكرامة رافقته واقفة أمام الظلم وانتهاك الحقوق، لتنتصر عاجلًا أو آجلًا.
عاد (طفل الرابعة) الإمام الهمام محمد الباقر "عليه السلام" من فاجعة كربلاء مع من بقي من العترة الطاهرة، ليقوم بدوره ويتم مسيرة جده، فقضى عمره الشريف يروي أحداث الفاجعة، ويكشف الأقنعة عن الوجوه المزيفة، جعل من الثورة الحسينية شعلة تلهب الحماس في النفوس المؤمنة، ليبث فيها طاقة ضد الظلم والظالمين، فكانت الشعائر الحسينية ومجالس العزاء سهمًا صائبًا أرعب عدوه، وفتح متنفسًا لشيعة الحسين "عليه السلام" يعبروا فيه عن ألمهم وجزعهم وتفانيهم، فكان "عليه السلام" يحثهم على البكاء بقوله: "من ذرفت عيناه في مصاب الحسين ولو مثل البعوضة غفر الله له ذنوبه".
وكان يروي أحداث كربلاء، ويحدث الناس بها فيقول "قتل جدي الحسين "عليه السلام" ولي أربع سنين، وإني لأذكر مقتله وما نالنا في ذلك الوقت"
ثم يفصل الأحداث فيقول: "لقد قتل بالسيف، والسنان، وبالحجارة، وبالخشب، وبالعصا، ولقد أوطأوه الخيل بعد ذلك" ويقول: "أصيب الحسين بن علي "عليهما السلام" ووجد به ثلاثمائة وبضع وعشرون طعنة برمح أو ضربة بسيف أو رمية بسهم" وكان يذكر دخوله الشام على يزيد فيقول: "دخلنا على يزيد ونحن اثنا عشر غلامًا مغللين في الحديد وعلينا قمص"
وكان يحثّ الجماهير على زيارة الحسين "عليه السلام" لتعميق الارتباط بشخصه وبثورته ونهجه، فيقول: "مروا شيعتنا بزيارة الحسين بن علي، وزيارته مفروضة على من أقر للحسين بالإمامة"
وهكذا بقيت أحداث كربلاء تتردد في قلبه الزكي وعلى لسانه الشريف فكان يشجع الشعراء على الرثاء ويبذل الأموال لنوادب بندبن الحسين بمنى أيام الموسم.
في رواية، دخل عليه الكميت يومًا فأنشده:
أضحكني الدهر وأبكاني والدهر ذو صرف وألوان
لتسعة بالطف قد غدروا صاروا جميعًا رهن أكفان
فبكى عليه السلام وسُمِع بكاء جارية من وراء الخباء، فلما بلغ الكميت قوله:
وستة لا سكارى بهم بنو عقيل خير فتيان
ثم علي الخير مولاكم ذكرهم هيج أحزاني
بكى عليه السلام وقال: "ما من رجل ذكرنا أو ذكرنا عنده فخرج من عينيه ماء ولو قدر جناح البعوضة إلا بنى الله له بيتًا في الجنة وجعل ذلك حجابًا بينه وبين النار"
فلما بلغ الكميت قوله:
من كان مسرورا بما مسكم أو شامتًا يومًا من الآن
فقد ذللتم بعد عزّ فما أدفع ضيمًا حين يغشاني
فأخذ الإمام الباقر بيد الكميت وقال "اللهم اغفر للكميت ما تقدم من ذنبه وما تأخر" فلما بلغ قوله:
متى يقوم الحق فيكم متى يقوم مهديكم الثاني؟
قال: "سريعًا إن شاء الله سريع" ثم قال "يا أبا المستهل إن قائمنا هو التاسع من ولد الحسين"
وكان دور الإمام الباقر "عليه السلام" في نشر ظلامة أهل البيت عليهم السلام سببًا رئيسًا في اعتقاله وسجنه، ولكنّ ذلك لم يكن رادعًا له، بل بدأ بإلقاء محاضراته وعلومه وآدابه أمام السجناء الذين احتفوا به وقدروه تقديرًا عظيمًا، فأطلق سراحه خوف الفتنة، ودُسّ له السمّ لاحقًا لتنطوي صفحة إمام عظيم من أئمة أهل بيت العصمة.
ذو دور بارز في رواية فاجعة كربلاء والتأسيس لإبقاء الثورة الحسينية حية في القلوب المتعطشة للحرية، ولتبقى كلمة الله هي العليا.
_____________________
المصادر:
شرين يوسف أخصائية علم النفس العيادي
جريدة الشرق
حكمة النجباء جميل ظاهري
بحار الأنوار للمجلسي
مقتل الحسين للمقرم
تاريخ اليعقوبي
الأمالي للصدوق
الإمامة والسياسة لابن قتيبة الدينوري
كفاية الأثر للخزان القمي
|